العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كم هو جميل بالآباء والأمهات أن يكونوا حريصين على نجاح الأبناء، راغبين في فوزهم، خائفين من إخفاقهم!! لكن أعظم من هذا وأعظم أن يكون حرص الأب والأم على ابنه وبنته في الاختبار الأعظم يوم القيامة، عندما يقف هذا الابن بين يدي الله، أو تلك البنت بين يديه، فيُسألون عن هذه الحياة...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، ومبلِّغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن تقوى الله -جل وعلا- عزّ وفلاح في الدّنيا والآخرة، وهي خير زاد يبلّغ إلى رضوان الله، وهي وصية الله -جل وعلا- للأولين والآخرين من خلقه كما قال -جل وعلا-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]، وهي وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهي وصية السلف الصالح فيما بينهم، فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه في السر والعلانية، والغيب والشهادة، وتذكروا -رعاكم الله- وقوفكم بين يدي الله -جل وعلا-، وسؤاله لكم يوم القيامة عمَّا قدمتم في هذه الحياة.
عباد الله: لقد ثبت في الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه, وعن علمه ماذا عمل به"، سؤالاتٌ خمس يُسألُ عنها كل عبد يوم القيامة, سؤال عن العمر, وسؤال عن مرحلة الشباب على وجه الخصوص مع أنها داخلة في العمر, وسؤالان عن المال من أين اكتسبه العبد وفي أي سبيل أنفقه, وسؤال خامس عن العلم الذي تعلّمه، ومن ذلك ما يسمعه في خطب الجمعة وفي الدروس العامة، وما يقرؤه في كتاب الله، وما يسمعه من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك من وجوه تحصيل العلم يُسألُ عنه يوم القيامة: ماذا عمل به؛ لأن مقصود العلم العمل.
عباد الله: هذه سؤالات خمس توجّه للخلائق يوم القيامة، فلا تزول قدما عبد من عند الله حتى توجه إليه هذه السؤالات، والواجب على العاقل الحصيف أن يُعِدَّ للمسألة جوابًا، وأن يُعِدَّ للجواب صوابًا.
عباد الله: إننا نعلم أننا مسؤولون يوم القيامة ومختبرون وممتحنون، ونعلم أيضًا تحديدًا سؤالات ذلك الامتحان, التي تلقى على الناس يوم القيامة، فكم هو جدير بالعبد الموفق -عباد الله- أن يجعل هذه السؤالات الخمس نصب عينيه مادام في ميدان العمل، يتذكر سؤال الله -جل وعلا- له عن عمره, وسؤال الله -تبارك وتعالى- له عن شبابه, وسؤال الله -تبارك وتعالى- له عن ماله, وسؤال الله -تبارك وتعالى- له عن علمه, إننا مسؤولون حقًّا، وصائرون إلى هذا الأمر حقًّا، وواقفون بين يدي الرب العظيم -جل وعلا- وهو سائلنا.
لقي بعض السلف رجلاً كان مقصرًا مفرطًا في أمره، فقال له: كم من العمر تبلغ؟! قال: ستون سنة, قال: أَوَما علمت أنك في طريق وقد أوشكت أن تبلغ نهايته؟! فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له: أَوَتعلم تفسير هذه الكلمة؟! قال: وما تفسيرها؟! قال: قولك: إنا لله، أي أنا لله عبد, وقولك: وإنا إليه راجعون، أي وأنا لله راجع, فإذا علمت أنك لله عبد، وأنك إليه راجع، فاعلم أنك مسؤول، فإذا علمت أنك مسؤول فأعد للمسألة جوابًا. تنبه الرجل وقال: فما الحيلة إذن؟! قال: الحيلة يسيرة: أحسِنْ فيما بقي، يُغفَر لك ما قد مضى.
عباد الله: كم هو جدير بنا -إيْ والله- أن نتذكر هذا الامتحان، وأن نتأمل في هذا الاختبار، وأن نتذكر وقوفنا بين يدي الرب الجبار -جل وعلا-، ونعد لهذا الامتحان جوابًا.
عباد الله: إن أبناءنا وبناتنا في هذه الأيام يستقبلون امتحانًا دنيويًّا على تحصيلهم في العام الدراسي، يُمتحنون على ما حصلوه، ويختبرون فيما تلقوه من علم، وتُوَجَّهُ إليهم سؤالات في هذا الامتحان، سؤالات لا يعرفونها على وجه التحديد، لكنهم يفاجَؤون بها وقت الاختبار، ثم إن لهذا الاختبار هيبةً في نفوس الطلاب، بل وهيبة في نفوس الآباء والأمهات.
عباد الله: وكم هو جميل بالآباء والأمهات في إقبالهم على أبنائهم في هذه الأيام نصحًا وتوجيهًا ومراجعة واستذكارًا ومتابعة للمذاكرة!! كم هو جميل بهم هذا وهم الحريصون على نجاح الأبناء، الراغبون في فوزهم، الخائفون من إخفاقهم!! كم هو جميل بالأب والأم أن يكون مع أبنائه كذلك، لكن أعظم من هذا وأعظم أن يكون حرص الأب والأم على ابنه وبنته في الاختبار الأعظم يوم القيامة، عندما يقف هذا الابن بين يدي الله، أو تلك البنت بين يديه، فيُسألون عن هذه الحياة.
احرصوا -عباد الله- على توجيههم وحسن دلالتهم ونصحهم في امتحانهم بين يدي الله، أم أن حدود اهتماماتنا دنيوية؟! لا لوم -عباد الله- على أب أو أم يحرص على نجاح ابنه في امتحانات الدنيا، لا لوم عليه، بل هذا من تمام التربية وكمال التوجيه، لكن اللوم كلَّ اللوم أن يكون هذا هو حدود اهتمامه، ومبلغ علمه، وغاية نصيحته لابنه، دون أن يرعاه فيما سيلقاه يوم القيامة بين يدي الله، وقد جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا"، وتأمل هنا: قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تجعل الدنيا أكبر همنا"، وهذا فيه أن اهتمامك بالدنيا لا شيء فيه، ولا ملامة عليك في هذا الاهتمام، وإنما الملامة -كل الملامة- أن تكون الدنيا هي غاية اهتمامك ومبلغ علمك.
عباد الله: إنها لفرصة عظيمة في مثل هذه الأيام أن نُقبِل على الله -جل وعلا- إقبالاً صادقًا في تحقيق رضاه وبلوغ ما يحبه -جل وعلا- من صالح الأعمال، وسديد الأقوال، إننا في هذه الأيام نرقب نتائج امتحانات أبنائنا الطلاب، وكلنا يتمنى نجاح ابنه، ويرغب في فوزه، ولا يوَدُّ أن يكون مخفِقًا راسبًا، ولا شيء في ذلك كما قلت، لكنها فرصة عظيمة لتقوية الاهتمامات والنهوض بالعزائم؛ ليكون النصح بالغًا، والتوجيه كاملاً فيما يتعلق برضا الرب -جل وعلا-، وفي الوقت نفسه، لا يُنسى نصيب العبد وحظّه من الدنيا.
عباد الله: إن مما يؤكد عليه في مثل هذه الأيام أهمية الأمانة، وأن العبد يسأل عنها يوم القيامة، أمانة عامة -عباد الله- في كل جانب من جوانب الحياة، أمانة في العقيدة والتوحيد، وأمانة في العبادة والعمل، وأمانة في البيوع والمعاملات، وأمانة في كل أوجه ومجالات الحياة, ومن ضمن الأمانة المتأكدة التي ينبغي أن تُرْعى أمانة المعلم في أسئلته وامتحانه، وفي مراقبته لطلابه، فإن هذه أمانة عظيمة، يُسأل عنها أمام الله -جل وعلا-, وكذلك أمانة الطالب في أدائه لامتحاناته وبُعده عن الأوجه المخلّة والطرائق المشينة في أداء الامتحانات، وذلك بالغِش والخديعة والمكر ونحو ذلك، وقد ثبت في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من غشَّنا فليس منَّا"، وعموم الحديث يدخل فيه الاختبار وغيره.
عباد الله: وإن مما ينبغي أن يُعنى به في مثل هذه الأيام صدق الدُّعاء، وتمام الالتجاء إلى الله -جل وعلا-، بأن يحقق لأبنائنا وبناتنا النجاح في الدنيا والآخرة، فالنّجاح بيده سبحانه، والتوفيق منه -جل وعلا-، فكم هو جميل أن يوجه الابن والبنت إلى الله -جل وعلا- يدعوه بصدق، ويلح عليه بالدعاء أن يكتبه من الناجحين، وأن يجعله من الفائزين الرابحين.
عبادَ الله: وإن مما يُنَبَّه عليه في هذا المقام ورقة تروَّج في بعض المدارس، فيها أدعية محدّدة لأعمال معينة، فيها دعاء يقال عند المذاكرة, ودعاء يقال عند دخول قاعة الامتحانات, ودعاء يقال عند كتابة الإجابة, ودعاء يقال عند الفراغ منها, أدعية محدّدة في كل مجال من هذه المجالات، وهي -عباد الله- تكلُّف ما أنزل الله به من سلطان، وتخرُّصٌ لا دليل عليه، وقول على الله وفي دين الله بلا علم، وقد قال العلماء قديمًا: من استحسن فقد شرَّع. ولهذا يجب الحذر من مثل هذه الأوراق، وإنما يُوَجَّه الطلاب عمومًا إلى الإقبال على الله بالدعاء، وسؤاله التوفيق والنجاح، دون أن يحدّد أمورًا لا دليل عليها، ولا برهان من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
هذا، وإني لأسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يكتب لنا أجمعين النجاح في الدنيا والآخرة، والفوز برضاه، وأن يجنبنا سخطه، إنه سميع الدُّعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي التوفيق والسداد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وتذكروا -رعاكم الله- أن تقوى الله -جل وعلا- هي العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معصية الله، على نور من الله، خوف عقاب الله.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن تقواه خير زاد يبلِّغ إلى رضوان الله، واعلموا -رعاكم الله- أن الكيس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وعليكم -رعاكم الله- بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي, وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم نصرًا مؤزرًا، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم ضعف إخواننا المسلمين في العراق، وفي فلسطين، وفي كل مكان، اللهم أيدهم بتأييدك، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة ورأفة على عبادك المؤمنين.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم نَجِّح أبناءنا الطلاب وألهمهم الهداية والصواب يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.