الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج - التوحيد |
هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ: تَوْجَلُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَحَبَّةً لَهُ وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَيَصْبِرُونَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ جَرَّاءَ إِيمَانِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ، وَيُوَثِّقُونَ صِلَتَهُمْ بِاللَّهِ -تَعَالَى- عَبْرَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ سُبْحَانَهُ..
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70 - 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: فَرَضَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْحَجَّ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَأَعْظَمُ الْمَنَافِعِ مَا كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا، وَسَبَبُ نَجَاتِهِ وَفَوْزِهِ فِي الْآخِرَةِ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النَّحْلِ: 97].
وَمَنْ نَظَرَ فِي آيَاتِ الْمَنَاسِكِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْحَجِّ وَجَدَ فِيهِمَا حُضُورًا مُكَثَّفًا لِلْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَاتِ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهَا تَرْسِيخٌ لِلتَّوْحِيدِ؛ فَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الْبَقَرَةِ: 125]، أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمَا، وَأَمَرْنَاهُمَا بِتَطْهِيرِ بَيْتِ اللَّهِ -تَعَالَى- مِنَ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنَ الرِّجْسِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الْحَجِّ: 26].
وَفِي دُعَاءِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَمْنِ الْبَيْتِ وَرِزْقِ أَهْلِهِ خَصَّ دُعَاءَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ فِيهِمَا مُعَلَّقٌ بِالْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ، وَأَنَّ أَيَّ إِخْلَالٍ بِالْإِيمَانِ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي أَعْمَالِهِ سَبَبٌ لِرَفْعِ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الْبَقَرَةِ: 126].
وَفِي آيَاتِ رَفْعِ الْقَوَاعِدِ وَبِنَاءِ الْبَيْتِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَدَعْوَةٌ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهَا، وَوَصَايَا وَلَدِهِ بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا. وَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَالتَّوْحِيدُ الْخَالِصُ؛ لِنَعْلَمَ أَنَّ مَكَانَ الْحَجِّ وَمَشَاعِرَهُ إِنَّمَا أُسِّسَتْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ الْأُمَّةِ الْقَانِتِ الْحَنِيفِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 130 - 133].
وَشَعَائِرُ الْحَجِّ وَمَشَاعِرُهُ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهِيَ تُرَسِّخُ التَّوْحِيدَ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ مَا كَانَتْ لِتَكُونَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَمَرَ بِهَا وَجَعَلَهَا مِنْ شَعَائِرِهِ، وَمَا فَعَلَهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا طَاعَةً لِلَّهِ -تَعَالَى- (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [الْبَقَرَةِ: 158].
وَخِلَالَ آيَاتِ الْمَنَاسِكِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالْإِحْلَالِ مِنَ الْإِحْرَامِ، تَنْوِيهٌ بِتَعْظِيمِ الْحُرُمَاتِ، وَأَعْظَمُ الْحُرُمَاتِ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ. وَأَمْرٌ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ يَقْتَضِي اجْتِنَابَ الرِّجْسِ مِنَ الْأَوْثَانِ (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الْحَجِّ: 29 - 32].
"وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ)؛ أَيْ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)، ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْهُدَى فَقَالَ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ)، أَيْ: تُقَطِّعُهُ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)؛ أَيْ: بَعِيدٍ مُهْلِكٍ لِمَنْ هَوَى فِيهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا مِنْ هُنَاكَ".
وَبَعْدَهَا بِآيَتَيْنِ ذُكِرَ التَّوْحِيدُ عَلَى الذَّبَائِحِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ؛ وَذَلِكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْهَا، وَبَيَانِ أَنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ لِلَّهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) ثُمَّ عَقِبَ ذِكْرِ التَّوْحِيدِ عَلَى الذَّبَائِحِ بَيَانُ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي جَرَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي عَاشَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِهِ، وَكُلُّ هَذَا الْبَيَانِ كَانَ مُتَخَلِّلًا آيَاتِ الْمَنَاسِكِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) [الْحَجِّ: 35]، فَيَا لَلَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَعْظَمَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ! وَمَا أَقْبَحَ الْجُحُودَ وَالشَّكَّ وَالشِّرْكَ.
وَلِعَظَمَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَتِ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا إِيمَانًا وَتَوْحِيدًا، وَكَانَتْ آيَاتُ الْمَنَاسِكِ فِي الْقُرْآنِ دَاعِيَةً إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الْحَجِّ: 34 - 35]، وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، تَوْجَلُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَحَبَّةً لَهُ وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَيَصْبِرُونَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ جَرَّاءَ إِيمَانِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ، وَيُوَثِّقُونَ صِلَتَهُمْ بِاللَّهِ -تَعَالَى- عَبْرَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ سُبْحَانَهُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا إِيمَانَنَا وَأَمْنَنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى التَّوْحِيدِ إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ غَيْرَ مُبَدِّلِينَ وَلَا مُغَيِّرِينَ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آلِ عِمْرَانَ: 8].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَأَمَّلُوا مَا فِي الْمَنَاسِكِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ؛ فَمَا شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ إِلَّا لِتَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [الْبَقَرَةِ: 197].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي الْمَنَاسِكِ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، رَغْمَ أَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لَا تُعْقَلُ عِلَّةُ كَثِيرٍ مِنْهَا، فَلَا تُعَلَّلُ إِلَّا بِالتَّعَبُّدِ؛ كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْوُقُوفِ فِي الْمَشَاعِرِ.
وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي لَا يُعْقَلُ فِي عِلَّتِهَا إِلَّا كَوْنُهَا تَعَبُّدِيَّةً هِيَ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى فِعْلِهَا التَّعَبُّدُ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِهَا دُونَ بَوَاعِثَ أُخْرَى غَيْرِ التَّعَبُّدِ، وَهَذَا مَا يَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَيَكْثُرُ فِي الْحَجِّ بِوَجْهٍ أَخَصَّ، قَالَ الْإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "عَلِمْنَا مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَأَنَّهُ غَلَّبَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ جِهَةَ التَّعَبُّدِ، وَفِي بَابِ الْعَادَاتِ جِهَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَالْعَكْسُ فِي الْبَابَيْنِ قَلِيلٌ".
وَلِأَنَّ الْمَلَاحِدَةَ وَالزَّنَادِقَةَ وَالْعَلْمَانِيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى التَّعَبُّدِ، وَلَا أَهَمِّيَّةَ الْعِبَادَاتِ التَّعَبُّدِيَّةِ فِي تَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ التَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ طَعَنُوا فِي الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ مِنْ بَقَايَا وَثَنِيَّةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَقَلَهُ عَنْهُمْ.
وَتَاللَّهِ إِنَّ أَعْظَمَ عِلَّةٍ، وَأَعْلَى حِكْمَةٍ يُعَلِّلُ بِهَا الْمُؤْمِنُ تَعَبُّدَهُ بِالْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَنْ يَقُولَ: فَعَلْتُهُ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَمَرَ بِهِ، وَرَضِيَهُ لِي دِينًا، وَيَجْزِينِي عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ الضَّالَّةِ، وَالْعُقُولِ الْفَاسِدَةِ، مِمَّنْ يَغِيظُهُمُ اسْتِسْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَتَشَرُّفُهُمْ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَتَسْلِيمُهُمْ لِأَمْرِهِ، وَالْمُسَارَعَةُ لِلِامْتِثَالِ؛ فَهَؤُلَاءِ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ -تَعَالَى- شَيْئًا، وَسَيَبْقَى لَهُمْ مَا يَسُوءُهُمْ مِنْ تَعَبُّدِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ، وَتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، وَصَيْرُورَةِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 97].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...