البحث

عبارات مقترحة:

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

الرزاق

كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...

الحسد

العربية

المؤلف خالد بن سعود الحليبي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - المهلكات
عناصر الخطبة
  1. تأملات في قصة ابني آدم عليه السلام .
  2. ذم الحسد .
  3. عواقب الحسد ومفاسده .
  4. أسباب التحاسد .
  5. كيفية توقي الحسد. .

اقتباس

أول جريمة قتل في الأرض ماذا كان سببها؟ أول دم سفك على الثرى ظلمًا ما الذي سفكه؟ شعور مريض، وخُلق كريه، وداء دوِيّ، وحركة قوية في النفس، تعصف بكيانها، وتشعل دماءها، وتظل تغلي حتى تودي بصاحبها. لله در الحسد ما أعدله *** بدأ بصاحبه فقتله!! إنه داء منصف، يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود؛

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

أول جريمة قتل في الأرض ماذا كان سببها؟ أول دم سفك على الثرى ظلمًا ما الذي سفكه؟

شعور مريض، وخُلق كريه، وداء دوِيّ، وحركة قوية في النفس، تعصف بكيانها، وتشعل دماءها، وتظل تغلي حتى تودي بصاحبها.

لله در الحسد ما أعدله

  بدأ بصاحبه فقتله!!

إنه داء منصف، يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود؛ لأنه كما قال الإمام علي -رضي الله عنه-: "مغتاظ على من لا ذنب له".

لقد قصَّ الله علينا خبر ابني آدم -عليه السلام-؛ هابيل وقابيل، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أنَّ الله -تعالى- شرع لآدم -عليه السلام- أن يزوّج بناته من بنيه لضرورة الحال، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان آدم -عليه السلام- يزوِّج أنثى هذا البطن لذَكَر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه.

فأبى آدم ذلك إلا أن يقرِّبا قربانًا، فمن تُقبل منه فهي له، فقرَّب هابيل غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبةً بها نفسه، وقرّب قابيل شر زرعه غير طيبة بها نفسه، فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فقال قابيل لهابيل: تُقبِّل قربانك ولم يتقبل قرباني! والله لأقتلنك، غضب عليه وحسده لقبول قربانه، فقال له أخوه: ما ذنبي؟!! إنما يتقبل الله من المتقين، أي ممن اتقى الله في فعله.

ثم أخذ هابيل يخوف أخاه من مغبة تهديده له بارتكاب هذه الجريمة البشعة، في الدنيا والآخرة، وذكَّره بالخوف من الله وبالنار وبعظم ذنب الظالم، ولكن كل هذه المواعظ البليغة التي تثير في النفس معاني الإيمان والخوف من الله ومن عقاب الآخرة لم تؤثر في قلب الأخ الحاسد:

سوى وجع الحساد داو فإنه

إذا حلَّ في قلب فليس يزول

نعم.. بعد هذا كله.. بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير، اندفعت النفس الشريرة فوقعت الجريمة، وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة، وطوعت له كل مانع، طوعت له نفسه القتل.. وقتل من؟ قتل أخاه، وحُق النذير (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 30]، خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك، وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق، وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة، وخسر آخرته فباء بإثمه الأول والأخير.

يقول الفقيه أبو الليث السمرقندي: "يصل الحاسد خمس عقوبات، قبل أن يصل حسده إلى المحسود، أولها: غمّ لا ينقطع، وثانيها: مصيبة لا يؤجر عليها، وثالثها: مذمة لا يُحمد عليها، ورابعها: سخط الرب، وخامسها: يغلق عنه باب التوفيق".

ولكن ابن آدم الجاني حين ارتكب جريمته تركه لا يدري ما يصنع به، وخاف عليه السباع، فحمله على ظهره حتى بعث الله غرابًا ليريه كيف يدفن أخاه، وتصوَّرْ كيف أصبح الغراب أستاذًا لهذا القاتل الحاسد، حتى أصبح من النادمين، بعد أن رأى أنه لم ينتفع بقتله، بل نال سخط والديه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب، لا لكونه معصية، فلم يكن ندمه ندم توبة، فلم ينفعه ندمه.

ألا قل لمن كان لي حاسدًا

أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه

لأنك لم ترضَ لي ما وهب

فأخزاك ربي بما زادني

وسد عليك وجوه الطلب

أيها الإخوة المؤمنون: إن الحسد داء قديم في البشر، بل قيل: هو بعض ما يحمله الإنسان في أصل خلقته، و "لا يخلو جسد من حسد، فالكريم يخفيه، واللئيم يبديه"، وإنما يقمع أو يستأصل من النفس بالإيمان العميق وبالعلم الشرعي، ولكن ما الحسد وما الفرق بينه وبين الغبطة؟

الحسد كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه، والذي قد يتطور إلى السعي في إزالتها، وقد قيل "راحة الحاسد في زوال نعمة المحسود"، والغبطة ألا تحب زوال النعمة، ولا تكره وجودها ودوامها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها. فالحسد خُلق مذموم، والغبطة جبلة في النفس غير مذمومة.

والحسد يضر المحسود إذا أظهر الحاسد حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتتبع مساوئه، ويطلب عثراته، بل إن انفعال الحاسد بحسده، وتوجيهه إلى المحسود قد يضر، وهو ما نسميه العين أو النظرة. ولذا يجب على المسلم إذا أحس بهذا الانفعال المريض أن يبادر بإطفائه بذكر الله كأن يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله؛ حتى لا يتسبب في إلحاق الضرر بأخيه المسلم، بل ربما بنفسه أو بأهله وأولاده وماله.

أخي المسلم: إن الحسد حرام كحرمة أكل الميتة، وهو يتضمن الطعن في حكمة الله وفي عدالته في توزيع نعمه على عباده، والتسخط على هذا التوزيع، وهذه المعاني لو تحولت إلى عقيدة لدى الحاسد لأدَّت إلى ارتداده عن الإسلام وكفره، فوجب التنبيه إلى خطورة ذلك، والمبادرة إلى الإقلاع عنه فورًا، كما أنه منافٍ للأُخوة الإسلامية التي تجمع بين المسلمين في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، والتي من معانيها محبة الخير لكل مسلم، والفرح له بما يعطيه الله من النعم. يقول الله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 54].

والحسد بين أصحاب الوصف المعين أقرب وأشد، فأصحاب المهنة الواحدة أقرب إلى الحسد من أصحاب المهن المتباعدة، وأصحاب المدينة الواحدة أقرب من الغرباء بعضهم مع بعض، والأقرباء أكثر تحاسدًا من غيرهم، بل حتى العلماء الذين يجمعهم تخصص واحد، أو اهتمام واحد هم أقرب من غيرهم إلى التحاسد من غيرهم. ولذا يحذر من قبول قول بعضهم في بعض.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [سورة الفلق].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

أيها الأحبة في الله: وقد يكون أحدنا هو المحسود، فأول ما نعزيه به، أن الحسد شائع بين الناس، حتى إنه لمن العسير أن تجد أحدًا لا يحسد:

هم يحسدوني على موتي فوا أسفا

حتى على الموت لا أنجو من الحسد

ووجود الحسد دليل النعمة، فكلما كثرت نعم الله عليك كثر حسادك، ألم تر كيف أن الله -تعالى- ربط بينهما في قوله جل وعز: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 54]؟

فلا تعجب إذا زاد حسادك بقدر زيادة نعمك، وبقدر ارتفاع نجمك، فـ"الناس يحسدون العظيم في حياته، ولكنهم يمدحونه بعد وفاته"؛ كما يقول ميمرموس.

ويقول نجم الدين ابن المنفاخ:

وكنت سمعت أن الجن عند

استراق السمع ترمى بالنجوم

فلما أن علوت وصرت نجما

رميت بكل شيطان رجيم

نعم النجاح أصبح عند بعض الناس "خطيئة يرتكبها المرء بحسن نية، ومع ذلك لا يغتفرها له زملاؤه". هذا في ظل عشرات النصوص الشرعية التي تحذّر من الحسد وتبغضه للنفس المؤمنة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا" (رواه البخاري وغيره).

ولكن ليس على المحسود أن يغلق على نفسه أبواب النعم، ولا أن يحرم نفسه من ثمراتها، بل يتنعم بما أولاه الله -تعالى- شاكرًا حامدًا المنعم، في الوقت الذي ينظر بشفقة إلى الحاسد رحمة بما ألم بقلبه من جراح؛ متمنيًا له الشفاء العاجل؛ فإن "صحة الجسد في قلة الحسد"، و"يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك".

نعم أيها المحسود "الشجرة المثمرة تُرمى بالحجارة، والعقيمة تبقى سليمة"، وكلما ارتفع الإنسان تكاثفت حوله الغيوم والمحن"، وكما قال سفيان الثوري - رحمه الله -: "من عرف نفسه لم يضره ما قال الناس عنه"، واعلم بأن "عظمة عقلك تخلق لك الحساد، وعظمة قلبك تخلق لك الأصدقاء".

اللهم أدم علينا نعمك وارزقنا شكرها، واكفنا شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم رد عنهم كل اعتداء، اللهم أنزل معهم ملائكتك تقاتل معهم وتدفع عنهم، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، وانصر مجاهدهم، وارحم شهيدهم.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وهيئ لهم بطانة صالحة تذكرهم إذا نسوا وتعينهم إذا ذكروا، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

ربنا اغفر لنا ذنوبنا، ووفقنا للتوبة النصوح منها، ولا تؤاخذنا يا مولانا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.