الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
لقد جمع الله لها الكثير والكثير من المكارم والفضائل، إنها امرأة وهبت طاقاتها وسخرتها من موقعها كأم في بناء أسرتها بالتربية القويمة والتنشئة الطيبة، فأدركت رضي الله عنها أنَّ رِسَالَتَها في الحياة ستكون قاصِرَة وسَطحية إنْ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، أفضل من صلّى وصام وحجّ لله وقام، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرّ الميامين، وعلى التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين والمؤمنات: مع تتمة درس: "المرأة المجاهدة الصابرة".
أم عُمارة، نسيبة بنت كعب امرأة يعجز القلم عن وصف فضائلها ومكارمها، ولقد جمع الله لها الكثير والكثير من المكارم والفضائل.
إنها امرأة وهبت طاقاتها وسخرتها من موقعها كأم في بناء أسرتها بالتربية القويمة والتنشئة الطيبة.
فأدركت رضي الله عنها أنَّ رِسَالَتَها في الحياة ستكون قاصِرَة وسَطحية إنْ صبغت نفسَها بهذه الرسالة دون أسرتِها.
فالأسرة هي أهم مؤسسة في المجتمع، وهي النواة الأولى التي يتلقى فيها النشء معارفهم الأولية، فإذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا فسدت فسد المجتمع كله.
نعم، لقد أدركت أم عُمارة أنّ التكليفَ الأَولَى لكلِّ أمٍّ تدعو بدعوة الحق هو داخل الأسرة، وأن أي حركة تربوية أو دَعوِية خارجَ الأسرة بدايةً وقبل النظر في حالِ الأولاد، يُعَدُّ ضَرْبا من السفاهة، بل الجحود لهذا الدور التربوي، فلا بد من التركيز على البناء التربوي داخلَ الأسرة ابتداء.
لذا سَعَتْ نسيبة بنت كعب -رضي الله عنها- في ترسيخ مبادئ التضحية والإيثار والبذل والعطاء داخل أسرتها، فكانت أنموذجا فريدا حين عكفت على تربية أولادها تُلقِّنهم، وتغرس فيهم مفاهيمَ الإسلام وأُسُسَه، فأحسنت رضي الله عنها تربية أولادها، وملأت قلوبهم إيمانا وصدورهم شجاعة وسواعدهم قوة، فما لبثت ثمار تلك التربية الصالحة إلا أن أينعت على أرض الواقع وأعطت أكلها شبابا يحبون الله ورسوله، ويسارعون في ذلك.
ونُلاحظ ثمار تلك التربية الصالحة جليًّا في موقفين:
الموقف الأول: يومَ أحد حين قدَّمت هي وابناها حبيبا وعبد الله وزوجَها -رضي الله عنهم- المثلَ الأعلى في التضحية والفِداء، فتقول أم عُمارة: "خرجتُ أولَ النهار إلى أُحد وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سِقاءٌ فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في أصحابه والغلبة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلتُ أُباشِر القِتال، وأدافع عنه بالسيف وأرمي بالقوس حتى خَلُصت إلي الجراح" هكذا قولها رضي الله عنها.
وقد جُرحتْ في ذلك اليوم ثلاثةَ عشْر جُرحًا.
فأثنى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لَمَقَامُ نسيبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلانٍ وَفُلانٍ".
ولم تكن وحدها بل كان معها زوجها وابناها شاركوا جميعا في حماية النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا الموقف لم يكن صُدفة بل هو موقف قد رتبته التربية القويمة التي سبقت هذا الموقف العفوي، فكانت الأم والأب وابناهما يقفون موقفا متلاحِما ومنسجما، ويَثبتون ثباتا يُظْهِر لنا مَعانِيَ جديدةٍ في التربية الأسرية، بَدءًا من حب الله -عز وجل-، وابتغاء نُصرته ونُصرةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وانتهاءً بطاعة الوالدين.
وفي المعركة يُصاب ابنُها عبد الله بجرح في عضدُه الأيسر، وغدا ينزف نزفا غزيرا، فراحت الأمُّ تُمرِّضه وتضمِّده حتى إذا اطمأنت عليه، قالت له: "انهض بُنيَّ فضاربِ القوم".
وبهذه الجملة تلخص لنا أمُّ عُمارة -رضي الله عنها- مَنهجا للتربية، فالتربيةُ قد تكون بالقُدوة، وقد تكون برَفْعِ العزيمة والهِمَّة في نفوس الأولاد، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ومن يُطيق ما تُطيقين يا أُمَّ عُمارة".
ثم لم يملك حينَها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ أن يدعوَ لهذه الأُسرة الفاضلة مِن سويداء قلبه قائلاً: "بارك الله عليكم مِن أهل بيت، ورَحِمكم الله أهلَ بيت".
حينها لم تكتفِ أم عُمارة بمباركة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فطُموحها لا حدودَ له، وبضاعَتُها ليس في هذه الدنيا، فقالت :ادعُ الله أنْ نرافِقَكَ في الجنة، فقال: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة"، فبوركتْ حينَها رضي الله عنها ببركة دعاء النبي، وبورك لها مقامُها الطيب، وتسقط من عينيها دموعُ الفرح الباكي وهي تقول: "ما أُبالي بعدَها ما أصابني من الدنيا".
الموقف الثاني: وذلك حينما ادعى مسيلمةُ النبوة، وأرسل برسالة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء فيها: "مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْد: فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ".
فرد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من محمد رسول الله إلى مسيلمةَ الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
وندب رسول -صلى الله عليه وسلم- لحمل الرسالة حبيبا بن زيد الأنصاري، وما كان اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الشاب، إلاّ لِمَا عُرف عن أهل بيته من التضحية والعطاء والبذل.
فذهب الشاب غير خائف ولا متباطئ، حتى دخل على مسيلمة، ودفع إليه الرسالة، فلما قرأها مسيلمة أمر بحبيبٍ فقُيِّد وحُبس، ثم أحضروه في اليوم التالي وسط الجموع، فقال له مسيلمة: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم أشهد أن محمدا رسول الله، فقال: وتشهد أني رسول الله؟ فقال حبيب: أنا أصم لا أسمع، فتغير لونُ وجهِ مُسيلمة، وأمر الجلادَ بقَطع قِطعة من جسده، ثم أعاد عليه السؤال، ليسمع نفس الإجابة، فأمر مسيلمة بقَطع قِطعة أخرى من جسد حبيب -رضي الله عنه- والناس ينظرون في دهشة.
واستمر مسيلمةُ يسأل وحبيبٌ يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، والجلاد يقطع من جسده، حتى أصبح ما يقرب من نصف جسده قطعا مقطعة، ثم فاضت روحه وعلى لسانه وفي قلبه اسمُ سيدِ العالمين، محمدٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقالت أم عمارة حين بلغها نبأ استشهاد ابنها: "مِن أجل مثلِ هذا الموقف أعددتُه، وعند الله احتسبتُه.
لقد بايع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ليلةَ العقبة صغيرا، ووفى له اليوم كبيرا، ولئن أمكنني اللهُ من مسيلمةَ لأجعلنّ بناتِه يلطِمن الخدود عليه".
وحقق الله أمنية هذه الأم الفاضلة الصابرة، وجاء يوم اليمامة الأغر، فانتقم الله -جل جلاله- لفتاها البَرِّ التقيّ مِن قاتِلِه مسيلمة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وتَمُرُّ السنوات وأمُّ عمارة نسيبة في خِدرها عابدةً قانتة تتذكر وتحن إلى ما خلا من أعوام ماضيات، حافلات بالجهاد والتضحيات، فظلَّت تعبد ربَّها حتى وافاها الأجل، فصَعِدَتِ النفس المطمئِنَّة إلى بارئها.
ورقد جثمانها الطاهر في البقيع إلى جوارِ مَن سبقها من الصديقين والشهداء والصالحين، وارتفع مَقامُها إلى مقامٍ أعلى وأسمى في دار الخُلود، بعد حياة قضتها وهي تُجاهد في سبيل الله جنبا إلى جنب مع أُسرتها المؤمنة الصابرة.
فرضي الله عنكِ أيتها السيدة الفاضلة وأَرضاكِ، لقد طبعتِ مواقِفَك على صفحات التاريخ لتكوني نموذجا يُحتذى.
قدَّمتِ للدعوة المباركة مِن عُصارة الوقت والجهد والبذل، وأعطيتِ نِساءَ كلِّ زمان ومكان دُروسًا عظيمة فيما ينبغي أن تكونَ عليه المرأة المسلمة.
فما أحوجَ جيلَنا المعاصر إلى الاقتباس من هدي مثلِ هؤلاء النجوم الزاهرات، وهن يُعطينَ المَثلَ العظيم، والبرهانَ الساطع لِمَن عَرَف واجبَه خيرَ المعرفة، فبذل وضحَّى بالكثير في سبيل دين الله، حين صَدَق ما عاهد اللهَ عليه.
فما أحوجَكِ أيتها المرأة المسلمة أمًّا كنت أو زوجةً أو بنتا أو أختا، وخاصة في هذا الزمن الذي يموج بتيارت شتى من الفتن، وطرق الغواية المبثوثة من وسائل الإعلام بكل أصنافها.
ما أحوجَك أيتها المرأة المسلمة إلى قراءة السيرة العطرة لهؤلاء الصحابيات الجليلات، حتى تدركين في أي الطريق أنت سائرة! فإن وجدت نفسك تسيرين على النهج الذي رسمه القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، فتابعي مسيرك على بركة الله -عز وجل- ولا تستوحشي لقلة السالكين.
وإن وجدت نفسك بعكس هذا المنهج التربوي الكريم، فلا زال الوقت أمامك في الرجوع الى الله –تعالى- رجوعا صادقا بتوبة نصوح صادقة، تَعْقِدي فيها العزم على الصلح مع الله -تبارك وتعالى-.
وإياك أيتها المسلمة من التسويف، فالتسويف والتأجيل مَهلكةٌ للإنسان، وسببٌ لضياع عزيمته، وهوانِ دينه في نفسه.