الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ليتذكر كل إنسان ما قاله الناصح الأمين -صلى الله عليه وسلم- والذي توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده". قال ابن عمر: "ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إلا وعندي وصيتي".
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اشكروا الله ربكم واتقوه، واذكروه في كل أحيانكم واعبدوه حق عبادته، وتذكروا أنكم مهما عملتم من أعمال صالحة فإنكم لا توفون الله -تعالى- حقه، ولا تجزونه عن نعمة واحدة من نعمه الكثيرة التي غمركم بها؛ فمن ذا الذي يجزي خالقه ورازقه وهاديه مهما عمل من الأعمال؟ خلقكم ربكم وليس محتاجا إليكم، وكلفكم بالشريعة وهو الغني عنكم؛ فلا طاعتكم تنفعه، ولا معصيتكم تضره. كيف وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني".
ولو شاء -سبحانه- لأهلك مَن في الأرض جميعا، ولو أراد -سبحانه- لأبدل جنس البشر بخلق غيرهم لا يعصونه طرفة عين: (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [إبراهيم:19]، (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) [النساء:133]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:15-17]، (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
وشكر الله -تعالى- يكون بتحقيق العبودية له، والإخلاص له في كل حال؛ فمن أراد شكر الله -تعالى- آمن به وحده، وعمل صالحا، وأدى فرائض الله؛ فذلك سبب لحفظ النعم في الدنيا، كما أنه سبب -بعد رحمة الله تعالى- للنجاة من العذاب في الآخرة، والفوز بالجنة، وكلما زاد تتابع النعم على العباد استوجب ذلك مزيدا من حمد الله -تعالى- وشكره وحسن عبادته.
تأملوا -رحمكم الله تعالى- قول سليمان -عليه الصلاة والسلام- حين ورث الملك، وأوتي الحكم والنبوة، وعلم منطق الطير، وسخر لخدمته الجن، وحكم كل المخلوقات في الأرض، قال -عليه الصلاة والسلام-: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40].
وتأملوا -رحمكم الله تعالى- قول موسى -عليه الصلاة والسلام- مخاطبا قومه بعد أن ذكرهم بنعم الله -تعالى- عليهم: (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم:8].
وتأملوا في قول نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد قام لله متهجدا حتى تفطرت قدماه: "أفلا أكون عبدا شكورا؟"، وفي قول الله -تعالى- حين أثنى على نوح -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء:3].
فعلى الإنسان أن يديم شكر الله، وأن يقوم بما أوجب الله عليه حتى الممات، ولكل أجل كتاب، ولكل بداية نهاية، والإنسان يولد ثم يعيش ما كتب الله -تعالى- له أن يعيش في هذه الدنيا، ثم مآله إلى الموت والحساب.
والدنيا لها بداية ونهاية، والإنسان مفارقها لا محالة مهما طال عمره فيها، وكثر عمله لها، واشتد سعيه لأجلها، فهو -والله- مفارقها يوما من الدهر.
والمغبون من طال عمره وساء عمله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بخياركم؟"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "خياركم أطولكم أعمارا، وأحسنكم أعمالا" رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان.
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "مَن طال عمره وحسن عمله"، قال: أي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله" رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حسن صحيح.
فحق على العاقل أن يستفيد من أيام القوة والنشاط قبل أيام الضعف والكسل، فما أسرع مرور السنين! قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط، ومن بلغ أربعين سنة فقد بلغ كمال عقله، ومنتهى رشده، وحق عليه شكر الله -تعالى- على نعمه".
قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15]. وفي هذه الآية إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله -عز وجل-، وأن يكثر من شكر الله -تعالى- على نعمه بالقول والفعل. كان مسروق -رحمه الله- يقول: "إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك"، وقال هلال بن يساف: "كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً تَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ".
ومن بلغ ستين سنة فقد جاءه النذير ولا عذر له، إذ أمهله الله -تعالى- كثيرا بعمر مديد؛ فعليه أن يشكر الله -تعالى- على نعمته، وأن يتفرغ لعبادته، ويكثر من الأعمال الصالحة التي تنفعه في الدار التي اقترب منها، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [فاطر:37]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعمركم ستين سنة".
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة" رواه البخاري، وفي لفظ لأحمد: "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر". والإعذار هو إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به؛ لأن الله -عز وجل- بلغه أقصى الغاية في العذر، ومكنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية.
قال ابن بطال: وإنما كانت الستون حدا لهذا لأنها قريبة من المعترك، وهي سنة الإنابة والخشوع، وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار؛ لطفا من الله -تعالى- بعباده، حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر لهم، فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك؛ ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية. اهـ.
قَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِرَجُلٍ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً, قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ تُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ, فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْلَمُ مَا تَقُولُ؟ قَالَ الرَّجُلُ: قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَالَ الْفُضَيْلُ: تَعْلَمُ مَا تَفْسِيرُهُ؟ قَالَ الرَّجُلُ: فَسِّرْهُ لَنَا يَا أَبَا عَلِيٍّ, قَالَ: قَوْلُكَ إِنَّا لِلَّهُ، تَقُولُ: أَنَا لِلَّهِ عَبْدٌ، وَأَنَا إِلَى اللَّهِ رَاجِعٌ, فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ, فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ, وَمَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَسْؤولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤولٌ فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالَ جَوَابًا, فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: يَسِيرَةٌ, قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ، يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ, فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ.
ومن أكمل الستين ودخل في السبعين فقد اقترب من أجله، وقليل من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من يجاوزها؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى سبعين، وأقلهم من يجوز ذلك" رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
فهنيئا لمن جاوز ذلك وهو من أهل الخير والصلاح! هنيئا له ثم هنيئا له! كم أقام من سنة على التوحيد! وكم صلى لله -عز وجل-! وكم صام! وكم استغفر وسبح الله -تعالى- وذكره وهلله ودعاه! كم أتى من نوافل العبادات! وكم أدى من الصدقات! لا يعلم ذلك إلا الله -عز وجل-.
إنه ليغبط، وإن حظه لكبير، وإن الخير ليرجى له حين يقدم على الله -تعالى- بعمر مديد، وسنوات طويلة قضاها في توحيد الله -عز وجل-، وطاعته، وعمل الصالحات.
ليتذكر كل إنسان ما قاله الناصح الأمين -صلى الله عليه وسلم- والذي توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده". قال ابن عمر: "ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إلا وعندي وصيتي".
فهنيئا لمن قصر الأمل وأحسن العمل! ختم الله لي ولكم بالحسنى، وجعلنا من عباده الصالحين.
اللهم وفقنا لما يرضيك، اللهم وفقنا لما يرضيك، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخيرها خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فحق على كل واحد منا أن يحاسب نفسه على ما مضى من أيام عمره.
أيها المسلمون: إن انقضاء العمر حقيقة يعلمها كل إنسان، وإن بلوغ العبد ستين وسبعين وثمانين سنة لمؤذن باقتراب أجله؛ ولكن الشيطان يغر الإنسان، ويزين له طول الأمل، وحب الدنيا، حتى يغفل عن العمل الصالح، وكل شيء يكبر من ابن آدم ويشيب ويهرم إلا حبه للدنيا، وأمله فيها؛ فإن هاتين الخصلتين تظلان شابتين في قلبه ولو تجاوز المائة، كما جاء في حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل"، وفي رواية: "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال" رواه البخاري ومسلم، وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر" رواه الشيخان.
وسبب ذلك -والله أعلم- أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها؛ فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاذ ذلك اشتد حبه له ورغبته في دوامه.
أسأل الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يحسن خواتيمنا، وأن يجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله، في عفو وعافية؛ إنه سميع مجيب.
اللهم أحينا بعافية، وتوفنا بعافية، وابعثنا بعافية، وأدخلنا الجنة بعافية، واجعلنا من أهل العافية...