الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | يحيى جبران جباري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لئن انتهت أشهر الحج وما كان فيها من أيام فاضلة، وعج، وصوم وثج؛ إلا أن أنواع العبادة مستمرة ولازمة على العباد في كل فج؛ فلا تنتهي العبادة إلا باليقين: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، وهو الموت على أرجح أقوال المفسرين؛ فالمعبود حي دائم، والعبد مطلوب منه أن للعبادة يلازم، فالعمر أيام وينقضي، مهما تأمل في طوله كل حالم..
الخطبة الأولى:
الحمد لله له نذبح ونعبد، أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه التي نحصد، وأستعينه وأستهديه وأستغفره؛ هو المعين إذا الأمر يشدد، والهادي لمن عن الحق يشرد، والغافر لمن لبابه يقصد.
وأشهد أن لا إله إلا الله لا نشرك به أحدا وله العبودية نفرد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله خير من اتقاه وتعبد، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما لج بحر وما سيل يزبد.
ثم أما بعد: فأوصيكم -أيها المسلمون- ونفسي المقصرة بتقوى الله-جل وعلا-؛ فكل وصية دونها لا تنجد، فهي الصلاح في الحياة، والفلاح في الآخرة لمن بها تزود. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197].
أيها المسلمون: نبارك للعائدين من الحج حجهم، تقبل الله منهم، وغفر لنا ولهم، وبلا ذنوب ردهم؛ ونسأل الله أن يكون قَبِلَ من الصائمين للتاسع صيامهم، وممن قربوا له -سبحانه- أيام النحر الأضاحي قربة لربهم.
فنحمد الله على تمام العدة، وعلى فضل الله الذي لعباده أمده، وعلى العيد الذي يظهر فيه المرء سعده، فلمن حج قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حَجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدت أمه"، وقال لمن صام التاسع من ذي الحجة: "أحتسب على الله أن يكفّر سنةً قبله وسنة بعده"، وعن الأضحية، يقول رب البرية: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37].
فيا مَن حججت وأتممت: أحسِن الظن بربك؛ فلعلك عدت من ذنبك كيوم ولدتك أمك، فحافظ على هذه النعمة العظيمة، فلا تعلم متى هي الساعة التي سترحل فيها، فاحرص أن تكون نفسك دوما تقية ونقية، ولا تدع للشيطان عليك فرصة فتنفذ للمعاصي كما ينفذ السهم من الرمية، لا تتهاون ولا تتجاهل ما يسره الله لك من ركن عظيم تتمنى أداءه ملايين البشرية، صفحتك عادت بيضاء فلا تدنس بياضها بما يمليه الشيطان، وما تمليه النفس الأمارة من إغواء.
وإن ضعفت همتك، ووقعْتَ في السيئة، وغلبك خطؤك؛ فبادرْ بالرجوع والاستغفار، والتوبة لربك؛ فهو قريب رحيم سميع مجيب: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].
فاستشعروا عظمة الفريضة التي أديتم، والركن الذي وفيتم، وستعلمون ما لكم وما عليكم، لا أبقى الله ذنبا علينا ولا عليكم.
وأنتم، يا من صمتم، ويا من ضحيتم: احتسبوا عند ربكم ما قدمتموه وما عملتم؛ فهو -جل في علاه- مَن عَيّن كتبة على جنبيكم؛ ليسجلوا ما فعلتموه، وما قلتموه، وما عليه نويتم؛ ففي الحديث: "مَن هَمّ بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، وإن فعلها كتبت له عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء؛ ومن هم بسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة، وإن فعلها كتبت عليه سيئة واحدة".
فما أرحم الله بعباده! وما أحلمه عليهم! وكم بالكثير على القليل يجازيهم! فبصيام يوم يغفر عامين! وبحجة واحدة يغفر ذنوب جميع السنين! وبتقريب أضحية يطعمها صاحبها وأهله يكفر عنه من الذنوب ما لا يحصيه سواه -سبحانه- ويعده من الشاكرين! فلك الحمد ربنا حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
عباد الله: لئن انتهت أشهر الحج وما كان فيها من أيام فاضلة، وعج، وصوم وثج؛ إلا أن أنواع العبادة مستمرة ولازمة على العباد في كل فج؛ فلا تنتهي العبادة إلا باليقين: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، وهو الموت على أرجح أقوال المفسرين؛ فالمعبود حي دائم، والعبد مطلوب منه أن للعبادة يلازم، فالعمر أيام وينقضي، مهما تأمل في طوله كل حالم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمات والمسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله خلقنا على الإسلام، أحمده -سبحانه- وأشكره على أفضاله العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده رب الأنام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله العبد الهمام، تقي نقي صادق الفعل والكلام، عليه مِن ربي أتم صلاةٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على نهجه وأزكى سلام.
وبعد: يا من تعلمون بأن الحياة يقظة ومنام، اتقوا الله؛ فمن اتقاه ذاق لذة العيش، وسينجو عند المقام: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) [البقرة:21].
عباد الله: حري بالعبد أن يعلم أنه ما خُلق إلا للعبادة: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ) [الذاريات:56]، فعبادة الله وحده أمر لازم ومحتوم؛ من ضل عنها فإما مجنون وإما محروم، والمجنون أمره لربه، وأما المحروم فسيصلى نار السموم.
فيا من ميزه الله بالعقل، وبلغه النهج القويم بالفعل والنقل، لا تكن كمن استسلم للهوى فضلّ، ولا كمن تبع الشيطان وأهل الجهل، كن مع الله وأخلص له القول والفعل، فلم يكلفنا الله بما لا نطيق؛ فعلى الغافل أن يفيق.
عش حياتك عابدا كما الله أمرك، وعليه -سبحانه- رزقك وتيسير أمرك، صل لربك، وبرّ بأبيك وأمك، وصل رحمك، واحفظ لسانك وفرجك، وليكن القرآن قرينك، والإحسان رفيقك، وذكر الله كليمك، والاستغفار لزيمك، وكل ما أمرك الله به نديمك، وكل ما نهاك عنه خصيمك.
اصبر على الطاعة، واصبر عن المعصية، واعلم بأن الحياة الدنيا فانية، وحياة الآخرة هي الباقية، فـ" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت"؛ فقدم لنفسك قبل الفوت.
اللهم ارزقنا توبة قبل الموت، وراحة بعد الموت، وعفوا ورحمة يوم الحساب، يا رب الأرباب.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا وسلموا على نبيكم الأمين...