البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
فيا أيها الناس، علِمنا كيف أهلك الله قوم عاد بالريح الصرصر، وما أشبه اليوم بالبارحة! وإن سنة الله في خلقه ماضية؛ فالكل سمع بإعصار إرما الذي ضرب أمريكا وما خلف من الأضرار، ووالله! إن فيه لعبرةً عظيمةً لمن تأمل ذلك الحدث!..
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، إن الله قوي لا يغالب، كل الخلق جنوده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، مهما تكالبت القوى وتظاهرت بعددها وعتادها، فهي في النهاية من جند الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
أرأيتم قوى العالم بأسره، هي من جند الله سخرها للناس، ولو شاء ربك ما فعلوه، ولو شاء ربك لجعل جيوشهم عذابا لهم، فهم في النهاية من جند الله.
عباد الله: لا يمكن للعقل البشري أن يتصور قوة الله أبدا، ولكن، اعلموا أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهنيئا لمن كان عبدا لله! فمن عبد الله كما أمر، ملك الدنيا بأسرها، فها هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما استقر الإيمان في قلوبهم، ملكوا الشرق والغرب، وغنموا أموال كسرى والروم، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
سنتحدث في هذه الخطبة عن جند من جند الله، ألا وهو الريح. لقد كانت هي العذاب المسلط على الكافرين، ريح الدبور ثمانية أيام سُخِّرت على قوم عاد، فأصبحوا بلا أنيس ولا معين، ولا خبر ولا أثر، دخلت عليهم في ملاجئهم، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم التي كانت في الجبال، تركت لتدل عليهم وليتعظ بهم غيرهم، حكى الله لنا قصتهم في القرآن في أكثر من سورة؛ لما فيها من العظات.
لقد كان قوم عاد يسكنون بالأحقاف، وهي جبال الرمل جنوب الجزيرة العربية من بلاد عمان وحضرموت، وهي جبال تطل على البحر، وكانوا من عتاة الأرض وجباريها، سهّل الله لهم الجبال يتخذون منها بيوتا، وفي السهول قصورا، وكانوا ذوي قوة وجبروت، فأمسك الله عنهم السماء ثلاث سنين، حتى أصابهم الضر، فاستسقوا، فأرسل الله عليهم الريح العقيم، وهي ريح الدبور.
وقد ذكر الله -سبحانه- صفة إهلاكهم في أماكن أخرى من القرآن، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال في الآية الأخرى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) [الحاقة:6-8].
كانت الريح تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته؛ ولهذا قال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).
وقد روي أن الله -تعالى- لم يرسل عليهم من الريح إلا بمقدار أنف الثور، عتت على الخزنة، فأذن الله لها في ذلك، وسلكت وحصبت بلادهم، فحصبت كل شيء لهم، وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا، (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح:4]؛ ولهذا قال: (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء:139-140].
فتح الله عليهم الريح بمقدار أنف الثور فقط، كيف لو أوسع عليها؟ لا إله إلا الله! فلا غالب إلا الله!.
كما أرسل الله على الكافرين يوم الأحزاب ريح الصَّبا، فكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم وحثت في وجوههم التراب، حتى فروا ورجعوا خائبين؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "نصرت بالصَّبا، وأهلكت عادٌ بالدبور".
معاشر المؤمنين: كل من كذب الله وعتا عن أمره، فإن الله يجعل لهلاكه موعدا ثم لا يفلت منه، وإن نصيب الظالمين في هذا الزمن مثلهم، قال الله: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود:83]. ولن تنفعهم عدتهم ولا قوتهم، بل كلها تتعطل وكأنها ليست موجودة.
هذه الريح جندي من جنود الله، فما بالك ببقية الجنود؟ فقد أرسل الله على قرى قوم لوط، وكانت سبع قرى، أرسل لهم جبريل فاقتلع قراهم كلها بطرف جناحه، ثم رفعهم إلى السماء الأولى، وسمع الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم نكسهم على رؤوسهم.
وأرسل الله على قوم صالح الصيحة التي قطعت أحشاءهم وماتوا في أماكنهم عن بكرة أبيهم، قال الله عنهم: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) [الذاريات:45].
وقوم شعيب، وهم أهل مدين، أرسل الله عليهم يوم الظلة، فلما جاء موعدهم، خرجوا يستظلون تحت سحابة أرسلها الله، فلما اجتمعوا أمطرت عليهم حاصبا من الحجارة، وصيحة شديدة أخمدتهم عن آخرهم.
هذه أمثلة لجنود الله التي أرسلها الله على المكذبين، وكيف كان هلاكهم. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:14].
اللهم اجعل عذابك ورجزك على القوم الظالمين، أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس، علِمنا كيف أهلك الله قوم عاد بالريح الصرصر، وما أشبه اليوم بالبارحة! وإن سنة الله في خلقه ماضية؛ فالكل سمع بإعصار إرما الذي ضرب أمريكا وما خلف من الأضرار، ووالله! إن فيه لعبرةً عظيمةً لمن تأمل ذلك الحدث!.
إن هذا الإعصار الذي ضرب ولايات عدة في أمريكا يعد إعصارا لم تشهد الأرض مثله على حد قولهم، فقد بلغ الدرجة السادسة، وأجلى الملايين من السكان عن منازلهم، وآخرين مختبئين في الملاجئ والأقبية، وقد انقطعت عنهم الكهرباء، فمر بهم الإعصار بسرعة مائتين وخمسين كيلو متر في الساعة، والتهم بلدانهم، وخلف عددا من القتلى، وخسائر مادية تبلغ مائتي مليار دولار.
وقد كان مر بهم إعصار قبله بشهر خلف قتلى وخسائر تقدر بخمسين مليار دولار، فجاءهم ما لم يحتسبوا، إعصار إرما المدمر، حيث كان خارج السيطرة، حسب تعبيرهم. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]! أقوى دول العالم تقف عاجزة إلا عن الهرب! فأين قوى العالم ليردوا عذاب الله أو ليقاوموه إن استطاعوا؟ ثم يأتيك جُهال العالم ليقولوا: إنه غضب الطبيعة، تعالى الله عن قولهم!.
إن أمريكا شرّدت الملايين من المسلمين في العالم، وقتلت الملايين، ونهبت الأموال، وابتزت دولا، وطغت وتجبرت، فكل دمار في بلاد المسلمين هو من مكرهم، فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا، فأذاقهم الله ذل التشرد، فطالما شردوا عباد الله، وذهاب الأموال التي سرقوها، وأذاقهم لباس الخوف والجوع بما كانوا يكفرون.
هذا شيء من عذاب الله، ولو شاء ربك لخسف بأمريكا عن بكرة أبيها، فهل من مرتدع عن غيه وكبره؟ فسنن الله ماضية في كل جبار متكبر، عافانا الله وإياكم من عذاب الله!.
معاشر المؤمنين: كل من تعرف على الله بنعمه وآلائه وبقوته وجبروته دعاه ذلك إلى توحيد الله وعدم الإشراك به، ودعاه إلى السير على صراطه المستقيم الذي من زاغ عنه هلك وعرض نفسه للعقوبة، كما فعل بمن قبله، والعياذ بالله!.
اللهم ارزقنا تقواك، والعمل برضاك، وجنبنا سخطك وغضبك ومقتك يا ذا الجلال والإكرام.