القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
كان صلى الله عليه وسلم في أمته تالياً للقرآن، داعياً لعبادة الله وحده، معلماً للكتاب، والحكمة، مزكياً للنفوس، فهو "المعلم الأول"، والداعية المجاهد، الذي قرأ القرآن، ووعظ به العالم، ودعا لفعل الخيرات، وحذر من فعل السيئات، وكان في دعوته وتعليمه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله -تعالى-، الأعز الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين: حينما اشتد الظلام، واشتعل الضلال، وصار الناس في جاهلية وشر يعبدون الأوثان، ويأكلون الضعيف، ويتجاسرون على الحرمات! لا كتاب يردعهم، ولا نظام يحميهم، ولا نور يهديهم؛ بعث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- لينتشلهم من الظلمات، وينقذهم النكبات، ويقودهم إلى الجنات.
فكان مبعثه صلى الله عليه وسلم رحمة أشرقت لها الحياة، ومنارة استضاء بها الناس، ومعلَماً اهتدت به الخلائق، فيا شرف المسلمين بهذه النعمة، ويا مغناهم بهذه الرحمة!
قد كانت الأيام قبل وجودنا | روضاً وأزهار أبعد شَميمِ |
بل كانت الأيامُ قبل وجودنا | ليلاً لظالمها وللمظلومِ |
لما أطلَّ محمدُ زكت الربا | واخضر في البستان كلُّ هشيمِ |
وأذاعت الفردوس مكنونَ الشذا | فإذا الورى في نضرةٍ ونعيمِ |
أيها الناس: لقد كانت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس؛ كما قال تعالى: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران: 164].
كان صلى الله عليه وسلم في أمته تالياً للقرآن، داعياً لعبادة الله وحده، معلماً للكتاب، والحكمة، مزكياً للنفوس، فهو "المعلم الأول"، والداعية المجاهد، الذي قرأ القرآن، ووعظ به العالم، ودعا لفعل الخيرات، وحذر من فعل السيئات، وكان في دعوته وتعليمه الداعية الصابر، والأب المشفق، والقيم الرحيم، يبتغى بدعوته رضوان الله -تعالى-، وليس جمع الأموال أو التعالي على الناس، أو كسب الصيت والظهور!
علمه ربه فأحسن تعليمه، وهذبه فأحسن تهذيبه، فهبَّ منطلقاً عليه تاج التقوى والإخلاص، متدرعاً بالصبر والشجاعة: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86].
فدأَب عليه الصلاة والسلام على تعليم الناس دعوة الله -تعالى- وسعى إلى تبصير العقول، ومعالجة كل أنواع الجهالات، وكان يقول: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
وكان صلى الله عليه وسلم في تعليمه جهاداً مثابراً، همُّه دعوته، ومُناه صلاح الناس، وبشراه انتشار النور والهداية؛ كما قال عنه ربه -تعالى-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف: 6] أي كأنك قاتل نفسك حزناً على عدم هدايتهم!
فأين من يتحرق من الدعاة والمعلمين على ضياع الشباب، وتدفق الناشئة على الملاهي والسفاهات؟! وأين من يرى هؤلاء التلاميذ مثل أبنائه، فيسعى لمصلحتهم، ويتعب لنفعهم وهدايتهم؟!
لقد كان المعلم الأول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة"، وإن هذه الرحمة لتمد جسور المحبة والإخاء مع التلاميذ، وتحرص على إصلاح قلوبهم، وتبصير فهومهم، وتنوير مسالكهم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، فهل أنت -أخي المعلم- تلك "الرحمة الطيبة" التي تلين للتلميذ، وتلاطفه، وتسلم عليه، وتستمع لشكواه، وتقضى حاجته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من لا يَرحم لا يُرحم" (أخرجاه كما في الصحيحين)؟
أيها الإخوة الكرام: إننا إذ نتحدث عن التعليم والتربية، ما ينبغي لنا أن ننسى منهج القرآن والسنة في تعليمنا وتربيتنا، فهما "معالم عظيمات" يهتدي بها المربي في حياته، بل إننا لا نربي الأجيال إلا على العبودية لله -تعالى-، ونحاول أن نعد أمةً قانتة لله، تخشى ربها، وتخاف يوم الحساب، إن التربية الإسلامية تعني إعداد جيل مؤمن يحمل هم دينه، وقضايا أمته! جميل أن نشرح النظريات، ونعلم العلوم إذا احتجنا إليها! لكننا لا نغفل عن تربية الجيل على التوحيد والهدى، والخضوع لله رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة".
وهذه الفطرة المسلمة تحتاج لمن يربيها وينميها، ويتعاهدها بالسقي والنظر والمتابعة، حتى تكبر وتنمو، وتنبت من كل زوج بهيج.
ما أسوأ أن يحسن المعلم عرض المناهج، وإتمام المقررات! مع الغفلة الشديدة عن العقول النابهة، وعن إصلاح الأخلاق، وعن التربية الإيمانية!
ليس وظيفة المعلم هي سرد المعلومات، والترتيب والتنظيم والتصنيف! وإنما هي بناء العقول، وإعداد النفوس، بتزكيتها وتعليمها ما ينفعها.
أيها الإخوة الكرام: كم هو قبيح أن يعتقد كثيرون أن التعليم مهنة من لا! مهنة له وينصرف إليه طلباً للوظيفة وجمع المال، ولا يشعر بخطورة هذه المهنة وعظم شأنها.
إن المعلم مع تقاضيه مرتباً شهرياً، لا ينسى كونه معلماً بانياً، وداعيةً مصلحاً، ومرشداً أميناً.
ليست مهنة التعليم وظيفةً تأكل منها، ولا تحمل همها! ولا تعي قدرها، ولا تؤدي حقها! قد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: "إنما بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق"، وأنت -أخي المعلم- مبعوثٌ في المدرسة لكي تعلم مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب وتثبت في الجيل روح الإيمان، وحب القرآن وتنشر رسالة هذه الأمة في هذه الحياة، وتذكرها بماضيها المجيد، وتبين لها عدوها من صديقها، في زمن قد تسلط فيه الأعداء.
والله إن الإنسان ليعجب من هذه المهمة، وصدق من قال: "كاد المعلم أن يكون رسولاً"، ومن الرسالة: أن تكون قدوة للتلاميذ، مبادراً للخيرات، وبعيداً عن السيئات، ولا يراك تلاميذك فيما تنهاهم، فتهدم التربية، وأنت لا تشعر، وتعكر الماء، ثم تشرب منه!
والمعلم الناجح هو من يتواضع لتلاميذه، ويحسن إليهم، ولا يتجبّر عليهم، ولا يحتقرهم كما كان هو هدى المعلم الأول -صلى الله عليه وسلم- يتواضع لأصحابه، ويجالس الفقير والمسكين، وكانت تأتيه الأمة من نساء المدينة وتأخذه لحاجتها، ولا يتردد عله الصلاة والسلام وكان يقول: "إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغيَ أحد على أحد".
والمعلم الناجح هو المعلم المستظهر للأخلاق في شؤونه كلها في أقواله وأفعاله وسائر تعاملاته، قال صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".
فما أجمل أن يتجمل المعلمون بحسن الخلق المبني على حسن الكلام والتودد، وحسن المعاملة، والصبر، وبذل الندى، والسماحة والمروءة، فقد كان صلى الله عليه وسلم حسن الأخلاق ذا هشاشة وبشاشة، ليّن المعاملة، صابراً، باذلاً لجاهه ومعروفه، ذا مروءة تامة، وقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21].
إن المعلم في الوجود كنخلةٍ | تؤتي مع الثمر الرطيب ظليلاً |
يكفيه فخراً إذ يقال معلم | فمعلم الأجيال كان رسولاً |
والمعلم الناجح هو الذي يفجِّر الطاقات، ويكشف المواهب، ويصنع العزائم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في أصحابه، وينميه ويذكيه، وقد قال لعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إنك شاب معلَّم"، وصنع أسامة بن زيد للقيادة، وقال: "وايم الله إن الله كان لخليقاً للإمارة".
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يجب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها المعلمون: علمتنا مدارسنا ونحن تلاميذ: "مَنْ جَدْ وَجد، ومن زرع حصَد، ومن سار على الدرب وصَل".
فاجعلوا من رسالتكم التربوية همة عاليَة، وعزيمة صادقة، تحيون بها الجيل، وتقودونه إلى رحاب الهداية والسلامة، فكم من تلميذ استيقظ بتوجيه معلمه، وكم من تلميذ اتعظ بموعظة معلمه، وكم من تلميذ نبغ برعاية المعلم وحسن فطنته؟
يا فضلاء المعلمين: اجعلوا رسالتكم حياة الجيل، واستنقاذه من براثن الهوى والشهوة، وكونوا سدوداً منيعة، تحفظ النشء من تيارات الفساد والتغريب.
ليس عسيراً عليكم إعداد جيل قد فاض بالإيمان، يجاهد في الله حق جهاده، ويعي حال أمته، وحاضرها المشحون بالرزايا والمشكلات.
كما يعز علينا رؤية شبابنا في مستنقع الشهوة، أو محباً للغرب، مقتفياً لآثارهم ويحرص على تقليدهم في الزي والشكل والمعاملة!
هل يسركم -يا معلمون- اتساع ثقافة الشاب الرياضية والفنية، وضعفها من الناحية الدينية والعلمية؟!
نعم، أعلم أن أكثركم سيقول: إن هؤلاء يطالعون الصحف، ويشاهدون الفضائيات، والمعلم المسكين لا يملك إلا حصة واحدة! فما العمل!
ونقول: إن هذا الزمان زمان صعب خطير، والإسلام يحارب حرباً شعواء، بالغة الخطورة! يحارب في اعتقاده في مبادئه وأخلاقه، ويصرف شبابه إلى اللذة والسفاهة، حتى ينفصل عن دينه وأخلاقه، ويصير غير ملتفت ولا مهتم بجلائل الأمور وعظائمها!
كذا هو منهج الصلبية الصهيونية تفتيت هذا الدين، وتدمير شبابه بالتفاهة الساقطة وبالمرأة العارية، وبالموسيقى الفاتنة، لكي يحيا ويموت على هذا الفكر السقيم.
نعم، المسألة خطيرة، والجهد المطلوب عظيم، فلا تيأسوا، ولا تكسلوا، وتحلّوا بالعزيمة والصبر، ولا تحقروا من المعروف شيئا وجدّوا في خدمة دينكم، كجد هؤلاء الكفرة من النصارى واليهود، الذين يجعلون دينهم "القضية الكبرى" في حياتهم، فيربون أبناءهم عقائدياً، ويشوهون صورة الإسلام في نفوسهم، وأنه العدو الحالي والقادم، فما أنتم صانعون يا معلمون الأفاضل؟!
اجعلوا رسالتكم إخراج جيل قرآني، يتعشق المجد، ويهوى البطولة، ويرتسم منهج أبي بكر وعمر، وخالد وأسامة.
ليس عسيراً علينا ذلك إذا ملكنا الصدق والأمل، وكنا على مستوى الهم والعمل والإصلاح!
المهم ألا نتذرع بالكسل، وألا نعتذر بالأشغال، وألا تلهينا الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم مرة لأصحابه: "إنما أنا مثل الوالد أعلمكم"، والوالد الرحيم هو الذي يطعم أولاده قبل نفسه ويحزن لحزنهم، ويسعد لسعادتهم، ويحنو عليهم، ويرفق بهم.
فكونوا في التعليم كالآباء الصلحاء، الذين يحزنهم فساد الأبناء، فينقطعون لتربيتهم، والداء لهم كثيراً كثيراً.
يا معلمون الفضلاء: لا تيأسوا ولو عظم الخطر، ولا تكسلوا ولو بُعدت الشقة، ولا تضعفوا ولو اشتد العمل!
لقد كتب الله لدينه النصرة والتمكين، فكن ممن شارك ولو بكلمة، أو نصيحة، أو شجع أو دعم مشروعاً، أو أيقظ عقلاً، أو صنع موهبة!
المهم ألا تكون في قائمة الكسالى والمتقاعسين، فتكون ممن عيرّهم الله -تعالى- بقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة: 5].
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.