الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | خالد بن عبد الله المصلح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
إن القلوب المستكينة لله -عز وجل- تستنزل النصر، إن القلوب المخلصة الخائفة الوجلة المتبرئة من حولها وقوتها هي التي ينزل عليها النصر. قال -صلى الله عليه وسلم-: "هل تُنْصَرُون وتُرْزَقُون إلا بضعفائكم"، وذاك أن القلوب الضعيفة قلوب منكسرة بخلاف القلوب المستكبرة التي ترى ما عندها من قوة وقدرة فإنها تعتمد على ذلك، وتنسى أن النصر ليس بقوة سلاح ولا بقوة بعث، إنما النصر الحقيقي عظيم افتقار القلب مع بذل السبب الممكن.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها المؤمنون عباد الله: يقول الله في محكم كتابه موجهًا النداء لأهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة:11].
يذكّر الله -تعالى- أهل الإيمان بنعمه العظيمة وآلائه الجسيمة التي لا ينفكون منها لحظة من اللحظات، فكل نعمة تُساق إليك إنما هي من الله (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53]، فيذكّر الله -تعالى- المؤمنين بنعمه، ومن نعمه أن يدفع عنهم السوء والشر، ويكفّ عنهم كيد أعدائهم وخصومهم.
وقد ذكّر الله المؤمنين في هذه الآية فيما منَّ عليهم به من كفّ أيدي أعدائهم عنهم (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) [المائدة: 11]، دفعهم عنكم بما دفع، ودفعهم عنكم بما هيّأ من أسباب عدم إمضاء تهديدهم والمضي فيما نووه من بسط أيديهم على دمائكم وأموالكم وأعراضكم.
أيها المؤمنون: إن الله لما ذكّر المؤمنين بهذه النعمة بيّن ما توجبه نعمه من عظيم شكره والقيام بحقه، فذكّر بأمرين قال جل وعلا (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة: 11]، فأمر الله بعد تذكيره بنعمه بما يحفظها ويديمها ويثبتها ويزيدها؛ إنه تقوى الله الذي به تفتتح الخيرات وتستجلب الهبات، قال الله -جل وعلا-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96]، هذا في جلب الخير، أما في دفع الضر وكفاية الإنسان من الشر فقال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
أيها المؤمنون: إن تقوى الله تحمل على طاعته والقيام بحقه، واستشعار إنعامه، وبذل المستطاع في ما أمر امتثالاً، وفيما نهى عنه اجتنابًا وبعدًا.
إن تقوى الله لا تتحقق إلا بتمام التوكل على الله، ولذلك قال: (وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، إن التوكل على الله -تعالى- هو الانخلاع عن كل نظر إلى غيره -جل وعلا-، التوكل على الله هو ركون القلب إليه وحده، التوكل على الله هو أن تعتقد أنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، لا ينفع ذا الغنى منه غناه، ولا ينفع ذا القوة منه قوته، لذلك من المهم أن نستحضر هذه المعاني، ونحن نشكر نعمة الله علينا بما أنعم من كفّ أيدي قومٍ همّوا أن يبسطوا أيديهم إلينا فكفَّها بنعمته.
إن الحوثيين كانوا يهددون باحتلال مكة والمدينة، وهذا تهديد ليس قاصرًا على هذه الفئة من الناس، بل هو ممتد إلى جهات عديدة يطمعون في هذه البلاد في خيراتها فيما أنعم الله -تعالى- عليها من نعم، وإن ذلك لا يُستدفَع إلا بعظيم تقوى الله -جل وعلا-، وبذل الأسباب الممكنة في دفع شرهم وضرهم، والتوكل على الله -تعالى- في حفظ هذه البلاد من كل سوء.
أيها المؤمنون: النصر من الله لا يأتي به شيء غيره -جل في علاه-، قال -تعالى-: (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللّهِ) [الأنفال: 10]، فالنصر الذي لا خذلان معه، النصر الذي لا هزيمة معه إنما يأتي من الله وفوق النصر تأييدًا منه جل في علاه.
استمع إلى قوله (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) بعد أن استعرض هذا المشهد من التقاء فئتين فئة مؤمنة قليلة مع فئة كافرة قوية كثيرة قال -تعالى- (وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في هذا التأييد وهذا النصر (لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) [آل عمران: 13].
أيها المؤمنون: ثمة قوة فوق كل قوة، ثمة ربّ يدبر الأمور ويصرفها، ثمة إله تكفل بنصر أوليائه وإعزاز جنده وصيانة عباده، قال الله -تعالى- واعد الرسل وأهل الإيمان معهم: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].
وهذا النصر يبيّن أن أعظم أسباب النصر هو حسن الصلة بالله هو الإيمان به -جل في علاه-، هو توثيق الصلة به -سبحانه وبحمده- فعلى قدر ما مع المؤمن من حسن الصلة بالله وتحقيق الإيمان ينال من نصره وتأييده وإعانته وتوفيقه ذاك فضل الله يؤتيه من يشاء.
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بيده مقاليد كل شيء وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله -تعالى- حق التقوى فتقوى الله تجلب الخيرات وتدفع المساءات، تقوى الله تحفظكم في نفوسكم، تقوى الله تحفظكم في أموالكم، تقوى الله تحفظكم في أهليكم وذرياتكم، تقوى الله تحفظكم في أعراضكم؛ فإن الله تكفل للمتقين بالفوز والسلامة من كل سوء وشر (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].
أيها المؤمنون: إن نصر الله -تعالى- لأوليائه الذي ذكره في كتابه ليس هبة مجانية إنه عطاء بسبب؛ فقد أجرى الله -تعالى- كونه وفق أسباب، وأجرى -جل وعلا- ما يكون من أقدار على مقدمات، فمن اعتنى بالمقدمات والأسباب، وبذل ما يستطيع في تحقيق المطلوب فإنه لن يخيب، ولن يتخلف وعد الله -تعالى- له، فالله لا يخلف الميعاد (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]، وعد إلهي من مدبر الكون، وعد رباني من الذي بيده ملكوت كل شيء أن ينصر رسله والذين آمنوا.
وقد ذكر الله -تعالى- في هذه الآية سبب النصر على وجه جلي؛ إنه الإيمان به -جل في علاه-، وقد بيّن الله في كتابه في مواضع عديدة أن النصر ليس هبة مجانية يناله كل من زعم الإيمان، بل لا بد من بذل الأسباب للفوز بالنصر يقول -جل في علاه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
فكان وعدًا عليه نصر المؤمنين وفق سنن لا بد من مراعاتها عندما يغيب ذلك عن أذهان الناس؛ فإنهم لا ينالوا نصرًا، بل تنالهم الهزيمة، وقد جرى ذلك لسيد ولد آدم الممدود بالوحي من السماء، ففي غزوة أُحد عندما تخلف من تخلف عما أمر الله -تعالى- به وخالف من خالف ما وجَّه به النبي -صلى الله عليه وسلم- وقعت الهزيمة، فتساءل الصحابة، أنَّى هذا؟! كيف نهزم وبين أظهرنا رسول الله؟! قال الله -تعالى-: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165]، أي: ذاك الذي أصابكم إنما هو بسببٍ منكم، فنصر الله يجري وفق سنن نصر الله، يجري وفق أسباب، فمن أخذ بتلك الأسباب والسنن كان حريَّا بأن يفوز بنصر الله -تعالى-، وإن أعظم أسباب النصر أن يحقق المؤمن الإيمان في سلوكه، في قلبه، في عمله، في معاملته، وأن يحتسب الأجر عند الله في ذلك.
الإيمان هو تعظيم ما جاء به الإسلام، الإيمان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول لله، وتقيم الصلاة صادقًا والزكاة تؤتيها وتصوم رمضان وتحج البيت، هكذا تحقق الإيمان في الظاهر، ووراء ذلك شيء مهم وهو أن يكون القلب صالحًا؛ فإن ذلك لا يتحقق إلا بصلاح الظاهر والباطن إذا اقترن تحقق النصر للأمة مهما كان حالها بعد أن تأخذ الأسباب في النصرة والانتصار فإنها ستنال فضل الله -تعالى- فالله -تعالى- بيده مفاتيح كل شيء.
إن المؤمن يخاف ذنوبه، والذنوب خطر كبير على الناس يفوتهم كل خير، ويوصلهم إلى كل شر، فما من شر في الدنيا خاصّ أو عامّ إلا بسبب الذنوب (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30].
لذلك كان المؤمنون في مواطن القتال على غاية الخوف من ذنوبهم أن يُخذَلوا بسبب ما كان من تقصيرهم، قال الله -تعالى- في وصف أوليائه عندما قاتلوا أعداءه (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250]، فكان أول ما سألوه الله أن يزيل عنهم سبب الهزيمة، أن يزيل عنهم سبب الضعف، أن يزيل عنهم سبب التسلط والخذلان.
إنها الذنوب أيها المؤمنون، الذنوب العامة والذنوب الخاصة، من لم يتب منها كان ذلك سببًا لخذلانه، فالذنوب والإسراف في الأمور من أسباب البلاء والخذلان، والطاعة والثبات والاستقامة والهدى أعظم أسباب النصر.
أيها المؤمنون: إن القلوب المستكينة لله -عز وجل- تستنزل النصر، إن القلوب المخلصة الخائفة الوجلة المتبرئة من حولها وقوتها هي التي ينزل عليها النصر.
جاء في صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رأى لنفسه على غيره فضلاً؛ لقوته وشجاعته وحسن بلائه في القتال، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- مذكرًا بأن النصر لا يستنزل بالقوة فحسب، بل ثمة أمر آخر ينبغي أن يلتفت إليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "هل تُنْصَرُون وتُرْزَقُون إلا بضعفائكم"، يعني: هل ينزل عليكم النصر لا ينزل عليكم النصر، استفهام بمعنى النفي لا تنصرون ولا ترزقون إلا بضعفائكم.
يبين ذلك في رواية النسائي فيقول: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفتها؛ بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم"، وذاك أن القلوب الضعيفة قلوب منكسرة بخلاف القلوب المستكبرة التي ترى ما عندها من قوة وقدرة فإنها تعتمد على ذلك، وتنسى أن النصر ليس بقوة سلاح ولا بقوة بعث، إنما النصر الحقيقي عظيم افتقار القلب مع بذل السبب الممكن.
أيها المؤمنون: إن للنصر أسبابًا معنوية يجب أن ينتبه إليها والقرآن في غالب ما يذكر من الأسباب يذكر هذا النوع من الأسباب وهو الأسباب المعنوية لماذا؟ لأنها هي التي تميز أهل الإيمان عن غيرهم، وهذا ليس تعطيلاً للأسباب الحسية من القوة والبأس وحسن الإدارة وجودة النظام، فإن ذلك من الأسباب الحسية، لكن الأسباب المعنوية هي مفتاح النصر.
أما الأسباب المادية فإنها قد تتوفر للناس لكنهم لا ينالون فوزه ولا يدركون نصره، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين في ذروة القوة، وفي ذروة الكثرة في العدد والعدة، لكن الله -تعالى- رفع عنه النصرة أول الأمر لما أعجبوا بقوتهم، فلما انخذل من انخذل، وبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الناس أنه رسول الله، وأن الله لن يخلفه وعده، "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"، اجتمع من اجتمع من أصحابه فكان نصر حنين بفئة قليلة، أما الأكثرون الذين أعجبتهم كثرتهم وقوتهم لم يكن منهم نصر.
إن النصر الحقيقي في إقبال القلوب على الله، وصدق التوكل عليه، ولا يُفهَم أن تعطيل الأسباب سبب للنصر، بل لا بد من أخذ الأسباب الحسية الممكنة لذلك قال في كتابه (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60]، فأمر الله بالإعداد، أمر الله بالتهيؤ بكل أسباب القوة، وما ذكره من رباط الخيل؛ لأنه أعظم ما يكون من قوة في ذلك العصر، وهو أمر بأن يستعد أهل الإسلام لأعدائهم الظاهرين والمستترين أعدائهم الذين يأتونهم من خارجهم أو المتربصين لهم من الداخل أن يستعدوا لهم بما استطاعوا من قوة، فإذا بذلوا ذلك صلحت قلوبهم فإن النصر منهم قريب.
أيها المؤمنون: استعراض آيات سورة الأنفال التي ذكر الله -تعالى- فيها الأمر بالإعداد يبين أهمية اجتماع أسباب النصر بأنواعها الأسباب المعنوية والأسباب الحسية، بدأ الله ابتداء بذكر الأسباب الحسية، يقول -تعالى- واستمعوا إلى هذه الآية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ) بذل المال مع إعداد سلاح (فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]، حسن الإدارة (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) عمل القلب يحصل به النصر (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال:61].
(وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ) مهما كان عندك من إنفاق وقوة وإعداد فلجأ إلى الله فهو كافيك فإن حسبك الله، الله كافيك، يقول -تعالى- في أعظم أسباب النصر أيضا ومن الأسباب التي لابد من حضورها (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:63]، اجتماع الكلمة من أسباب النصر، قطع الطريق على المفرقين من أسباب النصر، قطع الطريق على المرجفين من أسباب النصر، قطع الطريق على الذين يريدون أن يفرقوا بين الأمة حكامها وعلمائها وعموم أفرادها مما يتحقق به النصر.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]، التأكيد على أن أعظم كفاية يتحصن بها المسلم ليس بما في يده ولا في عمله، إنما بكفاية الله وتأييده ونصره (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ) أي: كافيك الله، كل ما أهمك وكافي المؤمنين، كل ما أهمهم وكل ما أخافهم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
هل كفاية الله تعني القعود والركون وعدم بذل الأسباب (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)، ولو كان فيه مشقة (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ)، وهذا فيه الندب إلى الصبر، وأن العدد ليس مهما إذا تحققت الأسباب الأخرى.
ثم يأتي التخفيف بعد ذلك (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ)، استمع إلى الخاتمة (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) لا نصر إلا بالصبر ولا إدراك لمطلوب إلا بصبر فمن صبر ظفر.
اللهم أفرغ علينا صبرًا يا رب العالمين، وثبت أقدامنا يا حي يا قيوم..