العربية
المؤلف | خالد بن علي الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
إنهم المُؤمنون الصادِقُون الذين صدَقُوا مع الله، وشكَرُوا وصبَرُوا في حالتَي السرَّاء والضرَّاء، فوفَّقَهم ربُّهم لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، وعلِمُوا أن لله -تعالى- عليهم عبوديَّةً في حالةِ النَّعماء والسرَّاء، كما له -سبحانه- عبوديَّةٌ في حالة الضرَّاء والبَلواء. فسعَوا وبذلُوا جُهدَهم في تكميلِ هاتَين العبوديَّتين حتى سُعِدُوا في حياتهم، وهنِئُوا في عَيشِهم، ورضُوا عن الله في الحالتَين، فرضِيَ الله عنهم وأرضاهم، وما كان ليُوفَّق إلى تلك العبوديَّة إلا المُؤمن..
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي لا تنقَضِي ألطافُه وعجائِبُه، ولا تَخلَقُ مواعِظُه وآياتُه، ولا يتناهَى علمُه وسُلطانُه، مِن شأنِه في كل ساعةٍ أن يُفرِّج همًّا، ويكشِف كَربًا، ويغفِرَ ذنبًا، وينصُر وليًّا، ويُهلِكَ عدوًّا، ويرزُق ويخفِضَ ويرفَع، وتنزِلُ أُقضِياتُه ومراسِيمُه على وَفق القَدَر المكتُوب قبل أن يخلُقَ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فله الحمدُ كثيرًا، وله الشُّكرُ كثيرًا.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له لا يتعاظَمُه شيء، ولا يتبرَّمُ مِن كثرة السائِلِين على تنوُّع حاجاتِهم ولُغاتِهم، قد وسِعَ كلَّ شيءٍ علمًا، وأحصَى كلَّ شيءٍ عددًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفِيُّه وخليلُه، كمَّل مقامات العبودية كلَّها لله -تعالى- فصارَ أكرمَ خلقِ الله، وبلغَ عند ربِّه ما لم يبلُغه نبيٌّ مُرسَلٌ ولا ملَكٌ مُقرَّبٌ، وخاطَبَه ربُّه بوَصفِ العبوديَّة الشريفِ في أفخَمِ المقاماتِ، وأعلَى المراتِبِ في مقام الدعوة، ومقام التحدِّي والإعجاز، ومقام الإسراء، ومقام الإيحاء، وإنزال القرآن، فصلَّى الله عليه وسلَّم صلاةً سرمديَّةً، وسلامًا أبديًّا، وعلى آلهِ وأصحابِه والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتَّقُوا اللهَ -أيها المُسلمون-، واتَّقُوا النارَ ولو بشِقِّ تَمرة، ولو بكلمةٍ طيبةٍ؛ فإنَّ الجنةَ حُفَّت بالمكارِهِ، وإن النارَ حُفَّت بالشَّهَوات.
واعلَموا أن البِرَّ لا يَبلَى، والإثمَ لا يُنسَى، والديَّانَ لا يموت، وكما تَدينُ تُدان، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
معاشِر المُسلمين: ما مِن إنسانٍ في هذه الحياةِ إلا وهو يتقلَّبُ بين حالتَين لا ينفَكُّ عنهما: فإما أن يكسُوَه الله لباسَ النِّعمة والسرَّاء، وإما أن تُنزعَ مِنه فتُصيبُه حالةُ الضرَّاء والبُؤس والبأساء.
ولا يخلُو أحدٌ مِن بني البشر مِن هاتَين الحالتَين حتى يقضِيَ أجلَه في هذه الحياة، كما قال الله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].
فيَومًا علينا، ويومًا لنا، ويومًا نُساءُ، ويومًا نُسَرُّ.
وليس الشأنُ في هذا التقلُّبِ بين السرَّاء والضرَّاء فهو حَتمٌ لا مناصَ مِنه، إنما الشأنُ كلُّ الشأنِ في كيفيَّة التعامُل معهما، ومدَى استِثمار العاقلِ المُوفَّق، واغتِنامِه لحالتَي النَّعماء والبَلواء بما يُقرِّبُه مِن ربِّه ويُرضِيه عنه، وبما ينفَعُه في حياتِه ودُنياه وآخرتِه.
ولقد بيَّن لنا ربُّنا -سبحانه وتعالى- كيفيَّة تعامُل الإنسان من حيث طبيعتُه الإنسانيَّة مع حالتَي النَّعماء والضرَّاء، فقال -سبحانه-: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود: 9، 10]، وقال -سبحانه-: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت: 51].
فالإنسانُ مِن حيث هو إنسان يُسرِفُ في الفرَح بالنَّعماء والسرَّاء، ويظنُّ أن الله - عزَّ وجل - قد اختصَّه بها لكرامتِه عنده؛ حتى يصِلَ إلى حدِّ الأشَر والبطَر والفخر، وينسَى أنها نعمةٌ لله، ولو شاءَ الله لنزَعَها مِنه في لَمحِ البصر، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الزمر: 8].
وفي المُقابِل نجِد أنه يجزَع ويتسخَّط ويقنَطُ مِن رحمةِ الله إذا ابتُلِيَ بالضرَّاء، ونُزِعَت مِنه العافيةُ والرحمةُ؛ حتى يصِلَ به الحالُ إلى اتِّهام الله في قَدَره، والاعتِراضِ عليه في قضائِه، كما قال -سبحانه-: (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت: 49]، وقال: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر: 16].
وتلك فِتنة .. وأيُّ فتنةٍ؟! ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلَمُون!
هكذا هو الإنسان، وهذه هي طبائِعُه، إلا صِنفًا مُوفَّقًا مِن الناسِ استثنَاه الله بقولِه: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: 11].
إنهم المُؤمنون الصادِقُون الذين صدَقُوا مع الله، وشكَرُوا وصبَرُوا في حالتَي السرَّاء والضرَّاء، فوفَّقَهم ربُّهم لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، وعلِمُوا أن لله -تعالى- عليهم عبوديَّةً في حالةِ النَّعماء والسرَّاء، كما له -سبحانه- عبوديَّةٌ في حالة الضرَّاء والبَلواء.
فسعَوا وبذلُوا جُهدَهم في تكميلِ هاتَين العبوديَّتين حتى سُعِدُوا في حياتهم، وهنِئُوا في عَيشِهم، ورضُوا عن الله في الحالتَين، فرضِيَ الله عنهم وأرضاهم، وما كان ليُوفَّق إلى تلك العبوديَّة إلا المُؤمن.
كما ثبَتَ في "صحيح مسلم": عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "عجَبًا لأمرِ المُؤمن إن أمرَه كلَّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمُؤمن؛ إن أصابَتْه سرَّاء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاء صبَرَ فكان خيرًا له".
فالمُؤمنُ الصادِقُ هو أسعَدُ الناسِ حظًّا بربِّه، وأكمَلُ الناسِ استِمتاعًا بهذه الحياةِ ولذَّاتِها، وأعقَلُ الناسِ وأحسَنُهم تصرُّفًا في حالتَي الضرَّاء والسرَّاء التي لا ينفَكُّ عنهما أحدٌ مِن البشر.
أيها المُسلمون: إن لله -تعالى- على عبدِه عبوديَّةً في حالة السرَّاء وما يُحبُّ، وله عبوديَّةٌ في حالة الشرَّاء وفيما يكرَه، وهاتان العبوديَّتان هما رُكنا السعادة وقُطبَا رحاها، ومَن كمَّلَهما وأتى بهما فلا أسعَدَ مِنه، ولا أشرَحَ صَدرًا، ولا أكمَلَ طُمأنينةً وسَكِينةً مِنه.
إن نعمَ الله على عبادِه كثيرةٌ ومُتنوِّعةٌ، وهي تدورُ بين نوعَين:
أعظمُهما وأجلُّهما قَدْرًا: النِّعمُ الدينية الشرعيَّة، والعطايا القلبيَّة الإيمانيَّة، والمِنَحُ الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة، وأعظمُها: نعمةُ التوحيد والإيمان، ونعمةُ العلم والبصيرة والفقهِ في الدين، ونعمةُ الاجتِماع والأُلفة والاعتِصام بالكتاب والسنَّة.
والنوعُ الثاني: النِّعمُ الدنيويَّة والمُتَعُ الماديَّة والمعنويَّة التي تُعينُ العبدَ على النِّعم الدينيَّة، وتُكسِبُه بهجةَ الاستِمتاع بالمُباحاتِ والطيِّبات؛ كنِعمة العافِية في الأبدان، والأمنِ في الأوطان، وعدلِ السُّلطان، ونِعمة الأزواج والأولاد والأموال، وغير ذلك.
وكِلا النَّوعَين نعمٌ مِن الله إيجادًا وابتِداءً وإمدادًا، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34].
فالمؤمنُ الصادِقُ أمامَ نعمِ الله المُترادِفة عليه يقومُ لله بعبوديَّة الشُّكر والحمد والاعتِراف له بأنها مِنه وله، وأنها محضُ تكرُّمٍ مِنه -سبحانه-، وتفضُّلٍ على عبادِه، ثم يشكُرُ الله -سبحانه- بلسانِه وجوارِحِه، ولا يستعمِلُ هذه النِّعم إلا فيما يُرضِي اللهَ -سبحانه وتعالى-، فمَن فعلَ ذلك فقد أدَّى شُكرَ النِّعمة، وقامَ لله بعبوديَّة السرَّاء، واستحَقَّ جزاءَ الشاكِرِين الحامِدِين الذي جاءَت النُّصُوصُ مُتكاثِرةً ببيانِه وبيانِ فضلِ الشُّكر ومكانتِه، وأنه فريضةُ الله على عبادِه.
كقولِه -سبحانه-: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) [سبأ: 15]، وقوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
وأخرجَ الإمامُ أحمد بسندٍ صحيحٍ: عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إن أفضلَ عِبادِ الله يوم القِيامة الحمَّادُون".
أيها المُسلمون: إن عبوديَّة الشُّكر هي قَيدُ النِّعم، وسرُّ بقائِها وديمومتها وزيادتها، (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53].
وما حُفِظَت النِّعم ولا قُيِّدت بمثلِ الشُّكر والحمد، ولا فرَّت ونفَرَت وشرَدَت ومُحِقَت بركتُها بمثلِ البطَر والأشَر، واستِعمالها فيما حرَّم الله. وهذا هو عينُ كُفران النِّعم، كما قال -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
وتلك سُنَّةُ الله لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وكما قصَّ الله علينا نبأَ قارُون الذي آتاه الله مِن الكُنوز والأموال ما لا يُوصَف، فجحَدَ نعمةَ الله عليه غُرورًا وبطَرًا، ونسِيَ كيف كان قبلَ نعمةِ الله عليه، وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78]، فخسَفَ الله به وبدارِه الأرض، وجعلَه عِبرةً للمُعتبِرين.
إن مُقابلةَ نعمِ الله بالبطَر والتكبُّر والإسراف والتبذير، وارتِكابِ ما حرَّم الله بها مُؤذِنٌ بزوالِها، ونذيرُ شُؤمٍ بسَلبِها واستِردادِها.
ووالله الذي لا إله غيرُه؛ إن أقسَى العقُوبات التي يصُبُّها الله على مَن كفَرَ بأنعُمِه ولم يقُم لله بعبوديَّة الشُّكر: أن يسلُبَه النِّعمةَ بعد العطاء، ويَحرِمَه بعد الإنعام، وليس هناك أشدَّ على النفسِ وَطأةً وألَمًا وحسرةً مِن النَّقصِ بعد الزيادة، والإهانةِ بعد الإكرام، والحَور بعد الكَور، والسُّقُوط بعد العلُوِّ، والذلِّ بعد العِزِّ، والقَبضِ بعد البَسطِ.
وإن مِن أقسَى صُور السَّلب بعد العطاء وأمرِّها: أن يُسلَبَ الإنسانُ في حياتِه لذَّةَ الطاعة والإنابَة، وخُشُوعَ القلبِ وزكاةَ النَّفس، والفرحَ بالله، وقُرَّة العينِ بالحياةِ مع الله -سبحانه وتعالى- والأُنسِ به.
ويبلُغ السَّلبُ بعد العطاء ذروتَه حين يُسلَبُ العبدُ الإيمان وشهادةِ الحقِّ في ساعة الاحتِضار، وعند سكَرَات الموت، فيُعاقَبُ بسُوء الخاتِمة، وشَناعَة النِّهاية، وموتة الأسَف، ولا يُوفِّقُه الله لخاتمةٍ حسنةٍ ومِيتةٍ مرضيَّةٍ سوِيَّة.
ولعَمرُ الحقِّ! إنها لمِن أعجَب صُور سَلب النِّعم بعد العطاء، كحال فِرعون الذي طغَى وبغَى وكفَرَ بالله ونعمِه، ثم لما أدرَكَه الغرقُ وعايَنَ الموتَ ذهَبَ ليُؤمن، فقيل له: (الْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 91]؛ إنها لعِبرة .. وأيُّ عِبرةٍ؟! ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشعُرُون!
أمة الإسلام: وإن مِن العطايا الربَّانيَّة والمِنَن المرعيَّة التي تستوجِبُ الشُّكرَ والحمدَ: نعمةَ الأمن والأمان التي امتنَّ الله بها على عبادِه، (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 4]؛ ولفَتَ إليها الأنظارَ والعُقُولَ بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
إن شُيُوعَ الأمن في مُجتمعات المُسلمين عامَّةً ضرورةٌ شرعيَّة وحياتيَّة؛ لتستَقِيمَ حياةُ الناس، ويقُومُوا بعبادةِ ربِّهم، وهو أشدُّ ضرورةً وإلحاحًا في بلادِ الحرمَين المملكة العربيَّة السعوديَّة؛ لأنها معقِلُ التوحيد، ورمزُ الإسلام، وحامِيةُ مُقدَّسات المُسلمين.
فالحِفاظُ على عقيدتها وأخلاقِها وأمنِها وسلامتِها واجِبٌ شرعيٌّ على كل مُسلمٍ مُواطِنٍ أو مُقيمٍ في هذه البلاد، وستبقَى بلادُ الحرمَين - بإذن الله - مأرِزَ الإيمان والأمن، ومنارةَ الإسلام والسلام لكل العالَم بما شرَّفَها الله مِن عقيدةٍ وأخلاقٍ وسُلُوكٍ، وبما حوَتْه مِن مُقدَّساتٍ طاهرةٍ، وآثار النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومنازِلِ الصحابة الكِرام، ومآثِرِ التاريخ.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله حمدًا يَلِيقُ بجلالِه وعظمتِه وكِبريائِه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضَى، والصلاةُ والسلامُ على إمام الشاكِرين والصابِرين، وحاملِ لواءِ الحمد يوم الدين، وعلى آلهِ وأصحابِهِ والتابِعِين.
وبعد .. أيها المُسلمون: قال ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه -: "إن الإيمانَ نِصفَان: نِصفٌ شُكرٌ، ونِصفٌ صبرٌ".
وهذا يدلُّ على أن تحقيقَ هاتَين العبوديَّتين علامةُ الإيمان الصحيحِ، وكما أن لله عبوديَّةً على عبدِه في حالةِ السرَّاء والنَّعماء بالشُّكر والحمد، فكذلك له -سبحانه- على عبدِه عبوديَّةٌ بالصبر والرِّضا في حالةِ البلاء والضرَّاء، تلك الحالةُ التي لا ينفَكُّ عنها إنسانٌ أبدًا.
فمَن ذا الذي لم يُبتلَى بمرضٍ وسُقمٍ، أو فقرٍ وذُلٍّ، أو نقصٍ في الأموال والأنفُس والثَّمَرات، أو تغيُّر حالٍ وهمٍّ وغمٍّ وحُزنٍ، أو أذِيَّةِ حاسِدٍ وحاقِدٍ، أو إدالَةِ الأعداء وانتِصارِهم على المُسلمين؟!
ولو نجَا مِن ذلك أحدٌ لنجَا الأنبِياءُ والمُرسَلُون الذين هم أكرَمُ الخلق على الله، وهم أشدُّ الناسِ بلاءً وامتِحانًا، والرجُلُ يُبتلَى على قَدرِ دينِه.
إن الابتِلاءَ بالضرَّاء والبأساء سُنَّةٌ ماضِية، وحتميَّةٌ قدَريَّة، والمُسلمُ العاقِلُ لا يملِكُ أمام ذلك إلا أن يرضَى ويُسلِّم أمرَه لله ويصبِر، وهو يعلَمُ أن لله في ذلك الابتِلاء حِكَمًا وغاياتٍ ظاهرةً وخفِيَّة.
ثم هو أيضًا لا يكتَفِي بالرِّضا والصبرِ فحسب؛ بل يتَّخِذُ كلَّ الوسائل المُمكِنة المشرُوعة لدَفعِ ذلك الابتِلاء ورفعِ الضرَّاء، فيدفَعُ قدَرَ الله بقَدَر الله بالأسباب الشرعيَّة، ويتوكَّلُ على الله ويستَعِينُ به، ولا يتواكَلُ ولا يتخاذَلُ ولا يضعُفُ؛ فالمُؤمنُ القويُّ أحبُّ إلى الله مِن المُؤمن الضَّعيف.
والله -تعالى- يُحبُّ مِن عبدِه أن يسعَى في رفع الضَّرر وإزالَة البلاء؛ حتى لا يقَع فريسةَ اليأس والقُنُوط مِن رحمةِ الله، فيضعُفُ عن مُواجهةِ البلاء، فيجزَعُ ويخنَعُ وينهَزِمُ، ويستَولِي عليه الشيطان.
إن المُؤمنَ الصادِقَ تظهرُ عبوديَّتُه لربِّه -سبحانه- أعظمَ ما تظهَر حين يُصابُ ببلاءٍ وكربٍ، فتجِدُه عظيمَ الثِّقةِ بربِّه -سبحانه-، شديدَ التعلُّق بمَولاه، دائِمَ الاستِغاثةِ والتضرُّعِ لسيِّده، مُتحلِّيًا بالصبرِ والمُصابَرةِ، لا يشكُو، ولا يُظهِرُ الشِّكايةَ لأحدٍ، ينتظِرُ الفرَجَ مِن الله، ولا ييأَسُ مِن رَوحِ الله، ولا يشُكُّ في أن الله هو فارِجُ الهمِّ، وكاشِفُ الكَرب، ومُجيبُ دعوةِ المُضطرِّين، (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) [الأنعام: 64].
وتعظُمُ الثِّقةُ بالله والرَّغبةُ في فرَجِه حين يطُولُ أمَدُ البلاء، ويستَطِيرُ شرَرُ الفتنة، ويمتَدُّ زمنُ الضرَّاء، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].
أيها المُسلمون: إن عبوديَّة الضرَّاء بالصبر والمُصابَرة يُثمِرُ للعبد أفانِينَ الرِّضا والحُبُور والسَّكينة في صحراء البلاء، ووَهَجِ الضرَّاء، وتستَمطِرُ رحماتِ السماء، وغيثَ اليقينِ والرَّوح؛ لتُروِّيَ جَفافَ البأساء، وقَحطَ المِحَن والبلاء.
إن المُسلمَ إذا صدَقَ مع الله في تحقيقِ عبوديَّة الضرَّاء، فإن المِحَن تكونُ في حقِّه مِنَحًا، وتنقلِبُ الآلامُ آمالًا، والأحزانُ أفراحًا، ويجعلُ الله له مِن كلِّ ضِيقٍ مخرَجًا، ومِن كلِّ همٍّ فرَجًا، وربما صحَّت الأجسادُ بالعِلَل، ورُبَّ ضارَّةٍ نافِعة، ورُبَّ بلاءٍ كان سببًا لأَن يلِجَ العبدُ ملَكُوت السماء.
وكم بدَّدَت شُعلةُ الأمل ظُلمات اليأس! وكم نبَتَت الأزهارُ مِن خُلَل الصُّخُور الصمَّاء! فعلامَ يحمِلُ العبدُ الهُمومَ، والله بيدِه كلُّ شيء؟! وعلامَ يحزَن وهو يعلَمُ أن هذه الدنيا دارُ كبَدٍ والْتِواء لا دارُ استِقرارٍ واستِواء، وأن دوامَ الحالِ مِن المُحال، وأن كلَّ عُسرٍ فهو مُحاطٌ بين يُسرَين.
سهِرَت أعيُنٌ ونامَت عيُونٌ | في شُؤُونٍ تكونُ أو لا تكونُ |
إن ربًّا كفاكَ بالأمسِ ما كانَ | سيَكفِيكَ في غدٍ ما يكونُ |
لقد سطَّر أنبياءُ الله ورُسُلُه أفخمَ الرَّوائِع في إظهار العبوديَّة الحقَّة لله في حالة البلاء والضرَّاء، كما قصَّ الله علينا مِن نبأِ نُوحٍ، وإبراهيم، ومُوسَى، وهودٍ، وصالِحٍ، ويُونُس -عليهم السلام-، وكيف قامُوا لله المقامات العالِية في مُواجهة البلايا ومِحَن الطريق.
وتنثَنِي خواصِرُ المهمُومين إجلالًا، وتفِيضُ دُموعُ المكرُوبين استِرواحًا لصبر يعقُوب - عليه السلام - على فَقد ولدِه الحبيبِ، وتفجُّعه ووَلَهه، وتوكُّله على الله، وقولِه: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86].
وأعجَبُ مِنه: صبرُ أيوب - عليه السلام - على المرضِ والبلاء قُرابةَ ثَمانِ عشرة سنة - كما قال المُفسِّرُون -، حتى ملَّ مِنه الصِّدِيقُ والقَرِيبُ، وفقَدَ مالَه وأهلَه.
وما كان الله ليَذَرَهم على ما هم عليه حتى يُنجِّيَهم ويكشِفَ كَربَهم، وما كان الله ليتخلَّى عنهم وهم قد قامُوا له -سبحانه- بعبوديَّة الضرَّاء، فجاءَهم الفرَجُ، ونجَّاهم الله مِن الهمِّ والغمِّ والبلاء، (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
أيها المُسلمون: مِن أعجَب الحوادِثِ التي وقَعَت بالنبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأشدِّها ألمًا وابتِلاءً: حادِثةُ الإفك الشَّهيرة التي اتُّهِمَت فيها عائشةُ -رضي الله عنها- حبيبةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبقَدر شدَّة هذه الحادِثة وألَمها، إلا أنها كانت تحمِلُ في طيَّاتها الخيرَ والبشائِر، كما قال الله: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11].
ولذلك فقد يُقدِّرُ الله، ويُجرِي على عبادِه بعضَ المقادِير التي في ظاهِرها الشرُّ والضَّرَر، ولكن في ثناياها الخيرُ، وتكونُ عاقِبتُها إلى خيرٍ. فلا يأسَ مع رحمةِ الله وحُسن تدبيرِه، ولا قُنُوطَ مع لُطفِ الله وحكيمِ تقديرِه.
ولرُبَّ نازِلةٍ يَضِيقُ بها الفتَى | ذَرعًا وعند الله مِنها المخرَجُ |
ضاقَت فلما استحكَمَت حلَقُاتُها | فُرِجَت، وكُنتُ أظنُّهَا لا تُفرَجُ |
عباد الله: صلُّوا على رسولِ الله؛ فقد أمَرَكُم بذلك الله؛ حيث قال في مُحكَم تنزيلِه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وثبَتَ عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرًا".
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على حبيبِك ونبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ، وعن خُلفائِه الأربعة الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، وسائر أزواجه وذريَّاته وصحابَتِه الكرامِ، والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين.
اللهم اجعَل بلدَنا هذا بلدًا آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم مَن أرادَ بلادَنا ودينَنا وعقيدتَنا وأمنَنا بسُوءٍ وكيدٍ فاردُد كيدَه في نَحره، وأشغِله بنفسِه يا رب العالمين.
اللهم انصُر إخوانَنا المُجاهِدين في كل مكانٍ، اللهم انصُر إخواننا المُرابِطِين على الحدود، اللهم كُن لهم عَونًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظَهيرًا بقُوَّتِك يا قويُّ يا عزيز.
اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمُورِنا برحمتِك يا أرحم الراحِمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّقه ووليَّ عهدِه لِمَا فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، واجعَلهم مفاتيحَ للخيرِ مغالِيقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين والمُسلمات، الأحياء منهم والأموات برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أكرِمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وزِدنا ولا تنقُصنا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وكُن معنا ولا تكُن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، وانصُرنا على مَن ظلَمَنا، وانصُرنا على مَن عادانا، ولا تُشمِت بنا عدوًّا ولا حاسِدًا.
ربَّنا تقبَّل توبتَنا، واغسِل حَوبَتَنا، واهدِ قُلوبَنا، وثبِّت حُجَّتَنا، وسدِّد ألسِنَتَنا، واسلُل سخائِمَ صُدورِنا برحمتِك يا أرحم الراحمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.