الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
يخطئ الطبيب ولا يقال كرهتمونا بالطب، وشوّهتم صورة الطب، يخطئ المعلم ولا يقال كرهتمونا بالعلم وأفسدتم صورة العلم، يخطئ السياسي والعسكري الاقتصادي... ولا أحد ينسب الخطأ للمجال !!ولكن عندما يخطئ المتدين المستقيم أو طالب العلم أو الشيخ أو الداعية تصبح المسألة عندهم شوّهتم الدين..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ علام الغيوب وكاشف الكروب وساتر العيوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يغفر لمن يشاء ويتوب عمَّن يتوب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل عباد الله وأتقاهم له، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصلاح في الأبدان والقلوب وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وعظِّموا شعائره؛ فإنه مَن يعظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32].
يَزِلّ عالِمٌ فيتحدث المتحدثون: قد فقدنا الثقة بالعلماء.. يخطئ مُلْتَحٍ فيتحدَّث المتحدثون: هكذا يفعل الملتحون.. تهفو محجبة فيردد الأفَّاكون: ما قيمة الحجاب إذا لم يمنع الهفوات.. يسلك متدين جاهل مسلك الغلو والتكفير؛ فيُحارَب الإرهاب بحرب التدين والدين.. يَزِلّ رمزٌ علميّ أو دعوي فيسقط في دركات الانتكاس ومتاهات الانهزامية فترى الذين أجرموا من أهل الدين يشمتون.
يخطئ الطبيب ولا يقال كرهتمونا بالطب، وشوّهتم صورة الطب، يخطئ المعلم ولا يقال كرهتمونا بالعلم وأفسدتم صورة العلم، يخطئ السياسي والعسكري الاقتصادي... ولا أحد ينسب الخطأ للمجال !!ولكن عندما يخطئ المتدين المستقيم أو طالب العلم أو الشيخ أو الداعية تصبح المسألة عندهم شوّهتم الدين وكرهتمونا الاستقامة.
هكذا تنشأ المفاهيم المعوجة والأفكار المنحرفة والمواقف المتشنجة حينما نربط بين الدين والمتدينين، ونربط بين الإسلام وتصرفات أتباعه.
إن الدين بثوابته ومبادئه وقِيَمه لا يَقبل التشكيك أو التقليل أو حتى المزايدة، ولا يصح من عاقل مسلم أن ينال منه، أو الإساءة إليه؛ فهو دين الله الذي ارتضاه لعباده إيماناً واحتساباً، وطمعاً في رضوانه وجنته، ولكنَّ التديّن كسلوك بشري لتطبيق تعاليم الدين هي التي تختلف من شخص إلى آخر؛ بحسب العقول والعواطف ومصادر العلم والتلقّي لكل زمان ومكان.
إنَّ هؤلاء يرون في المسلم المتدين شخصًا مثاليًّا في كل شيء؛ سلوكه ومعاملاته وأخلاقه وعبادته، فهو لا يخطئ، ولا يرتكب الذنوب والنقائص وإن حدث فهو انتكاسة عالية لنظرية التديُّن، وهشاشة فاعليّته في الوقاية، وبالتالي فإن الناس لا تتفهم أن كلنا نخطئ ونصيب، وكُلٌّ يُؤخَذ منه ويُرَدّ، وأن هناك من عايشوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وحاربوا معه من أتوا بالذنوب والكبائر أحيانًا؛ فالمسلم المتدين بشر يجاهد نفسه لكي لا يخطئ، فإن أخطأ تاب وأناب واستغفر وفعل الطاعات التي تكفر الذنوب.
إن الإسلام لا يفرّق بين معاصي الناس على أساس التدين؟ بحيث تكبر المعصية بالتدين وتصغر بعدمه، وإنما تكبر الذنوب بالاحتقار والاستصغار والإصرار والإكثار سواء صدرت من متدين أو غيره.
إن هناك انطباعًا يتخلق في الذهن عن المتدينين، وهو أنّهم يمثّلون الدين، وزلة العالم والداعية والمتدين مضروب بها الطبل، وإذا زل العالِم زلَّ معه عالَم. ومنهج الشرع أنه لا عصمة لأحد سوى الرسل، وكل يُؤْخَذ من قوله ويُرَدّ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن، وإن كفر كفر فإنه لا أُسوة في الشر".
إنه لا بد أن يعلم أن الخطأ من مقتضى الطبيعة البشرية، لا يسلم منه إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وأن الخطأ لا يستلزم الإثم، بل المجتهد المخطئ مأجور، وقد قال الحكماء: "الفاضل من عُدَّت سقطاته".
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً | فأفعاله اللاتي سـررن ألـوف |
وأن يعلم أن زلة العالم والداعية والمتدين ليست من الشرع في شيء؛ فلا تُنْسَب إليه، ولا يجوز الاقتداء به فيها، بل يتعين تبرئة الشريعة منها.
قال الشاطبي: "إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، كما أنه لا ينبغي أن يُشنَّع عليه بها، ولا يُنْتَقص من أجلها، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين".
إنَّ الإسلام لا يعطي العصمة لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكننا -معشر المسلمين- في الواقع نعطي هذه العصمة للرجال، ويصعب علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نجلّها تخطئ وتصيب، كما يصعب علينا أن نقول هذا الرأي من قوله خطأ وهذا صواب، كما أننا عملياً لا يمكن أن نتعامل مع الشخصيات العلمية والدعوية الكبيرة إلا على أساس التسليم لهم بكل شيء أو رفض كل شيء، وتحوّل هذا الأسلوب إلى منهج مقرَّر يتحدَّى القواعد النظرية الإسلامية التي يحفظها كل الناس.
إن فئة من هؤلاء الذين يربطون بين أخطاء المتدينين وبين الدين نفسه إنما يستهدفون محاربة التدين نفسه ومحاربة شعائر الإسلام الظاهرة والتهوين منها؛ بحجة أنها لم تَحُلْ بين أصحابها وبين الهفوات والزلات؛ فاللحية لم تمنع صاحبها من ارتكاب معصية، وربما تستر بها من يبغي للبرآء العنت، والحجاب لم يمنع صاحبته من الوقوع في صبوة....
ونسي هؤلاء أو تناسوا أن وظيفة العبادات الظاهرة، ليس استئصال المعصية بالكليّة ومنعها، ولكن وظيفتها تضييق سبل ارتكابها، باتقاء المتدين لكل ما يكون سببًا في القدح به وبظاهره واتقاء المحجبة من نظرات الزيغ، والتحرش بها. والأمر الأهم كونه طاعة بذاته، ولو لم يكن لها أثر في الردع عن المعصية فالائتمار بأمر الله هو قطب المعايير، وأسمى المطالب ومنتهى الغايات.
هذه الكلمات ليست تبريرًا لأخطاء الصالحين والصالحات، وليست دعوة لهم للخطيئة، لكنها دعوة لأن نصحّح النظرة الخاطئة للمتدينين والقائمة على أساس استعظام ما يفعلونه دون غيرهم من أخطاء وما يتلبّسون به من ذنوب، وكأنهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، واتخاذ أخطائهم سُلّمًا للهجوم على التدين وشعائر الإسلام، أو جعلها معيارًا لقوة الإسلام وثباته أو ضعفه وانهزامه، وهي دعوة ثانية لكلّ متدين: إذا كانت أفعالك موقَّرة في بعض الأعين فقدِّر ذلك، فالأمانة ثقيلة والصبر بالتصبّر، وأنت قدوة، والنقط السوداء لا تظهر إلا على الثوب الأبيض، ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها، والملتقى عند الله، وكلكم آتيه يوم القيامة فردًا.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: إن دين الله منصور بنصر الله، باقٍ بحفظ الله، وأن بقاءه وعزّه ليس مربوطًا بأفراد أو جماعات أو حركات أو حكومات ودول، ولا يضره عالِم يَزِلّ أو مهتدٍ يضلّ.
في أثناء معركة أُحُد أُشِيعَ خبرٌ عن مقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فأصاب المسلمين الارتباك والحيرة، فترك بعضهم القتال، وأصابهم اليأس والإحباط؛ فمرَّ بهم أنسُ بن النضر؛ فقال لهم: "ما يحبسكم؟" قالوا: "قد قُتِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم-"، قال: "فما تصنعون بالحياة بعده؛ موتوا على ما مات عليه"، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِلَ. وأنزل الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران:144].
إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة والمتدينين على مرّ التاريخ.
إن المسلم الذي يحب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وورثته من حملة هذا الدين مطلوب منه أن يُفرّق بين شخص محمد -صلى الله عليه وسلم- والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الحي الذي لا يموت.
إن هذا الدين أقدم من دعاته وأكبر وأبقى، فدعاته يجيئون ويذهبون، ويبقى الدين على مر الأجيال والقرون.
لقد أراد الله -سبحانه- بهذا بهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلّقهم الشديد بشخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت رسول الله أو يُقتَل، وإن هذا الدين باقٍ وليبلغن ما بلغ الليل والنهار.
إنه لا يجوز أن نربط هذا الدين بالأشخاص وجودًا وعدمًا استقامةً وانحرافًا ثباتًا أو انتكاسًا؛ فكم لدين الله من أنصار، وإن سقط قائد خلفه ألف قائد، وإن هفا متدين؛ فإنما إثمه على نفسه، وإن نكث داعية فإنما ينكث على نفسه، وكم لله من خطيب وداعية، وكم لدينه من حماة وأمة واعية، (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التوبة:32].
اللهم صلِّ وسَلِّم...