السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
إنَّ الاعتصام بالقرآن، والإخلاص لله وحده، والتمسك بالإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلها مما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم، وترابطهم، وتماسك مجتمعهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
وبعدُ: فقد وردت في القرآن العظيم آياتٌ تأمر المؤمنين، وتحثهم على لزوم الجماعة والائتلاف، وتُبين لهم أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وهي حقيقة جاء تأكيدها في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ومن ذلك:
1- قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا، وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[آل عمران:103].
2- وقال الله -تعالى-: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ)[آل عمران:105].
3- وقال الله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153].
4- وقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام:159]؛ فهذه الآيات وغيرها -مما جاء في معناها- واضحة الدلالة، وكلها تهدف إلى منع التفرق في الآراء والمعتقدات.
وقد ذكر ابن جرير -رحمه الله- بأسانيده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال في قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) قال: "الجماعة".
وذكر -بأسانيده- أقوالاً أخرى عن السلف، في تفسير معنى (حَبْل اللَّهِ) منها: القرآن، والإخلاص لله وحده، والإسلام.
وهذه الأقوال مؤداها واحد، ونتيجتها واحدة، فإنَّ الاعتصام بالقرآن، والإخلاص لله وحده، والتمسك بالإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلها مما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم، وترابطهم، وتماسك مجتمعهم.
وقال ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "يريد بذلك تعالى ذِكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه؛ من الألفة، والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله".
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله (وَلاَ تَفَرَّقُواْ) أمَرَهم بالجماعة، ونهاهم عن التفرقة... وقد ضُمِنَتْ لهم العصمةُ -من الخطأ- عند اتفاقهم، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا. وخِيفَ عليهم الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة؛ فافترقوا على ثلاث وسبعين فِرقة، منها فِرقةٌ ناجية إلى الجنة، ومُسَلَّمَة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه".
وقال الشوكاني -رحمه الله-: "(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا)، الحبلُ: لفظٌ مشترك، وأصله في اللغة: السبب الذي يُتوصَّل به إلى البُغية، وهو إمَّا تمثيل، أو استعارة. أمرهم سبحانه بأنْ يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام، أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق، الناشئ عن الاختلاف في الدين".
إخوتي الكرام: تَبيَّن لنا من قول هؤلاء العلماء الأجلاء المنهجَ الصحيح الذي يؤدي إلى اجتماع كلمة المسلمين وتآلفهم. فإننا نلحظ العبارةَ الدقيقة التي استعملها الطبري -رحمه الله-؛ حيث قال: "والاجتماع على كلمة الحق"؛ فإنه بدون هذا الضابط لا يكون الاجتماع صحيحًا.
فلابد من أن يكون أساس الاجتماع هو الحق، وكلمة الحق، وهذه الكلمة غالبًا ما تُطلق على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ولازِمَتُها "محمد رسول الله"، وذلك على فهم السلف الصالح لها؛ بمراعاة شروطها، ولوازمها، وحقيقتها، ومعناها الصحيح مع معرفة نواقضها؛ للاحتراز منها.
ثم نلحظ: أنَّ ابن كثير -رحمه الله- بعد ذِكره للاختلاف والفُرقة التي حصلت في هذه الأمة، جعل مناطَ النجاةِ والفوزِ أن يكون المسلم متمسكًا بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته -رضوان الله عليهم- فيكون بذلك من الفِرقة الناجية؛ وذلك لما ورد في حديث الافتراق.
ويقول الشوكاني -رحمه الله-: "أمرهم -سبحانه- بأنْ يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام، أو بالقرآن"؛ إذن فهي العودة الصحيحة إلى الينابيع التي قام عليها هذا الدِّين، وهي: الكتاب والسنة، وما كان عليه سلفنا الصالح.
أمَّا حقيقة الاعتصام بكتاب الله فيوجزها ابن القيم -رحمه الله- بقوله: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم وكشوفاتهم، ومواجيدهم. فمَنْ لم يكن كذلك؛ فهو مُنْسَلٌّ من هذا الاعتصام. فالدين كلُّه في الاعتصام به وبحبله، علماً وعملاً، وإخلاصاً واستعانة، ومتابعة، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة".
وأمَّا قوله -تعالى- في آخر الآية: (وَلاَ تَفَرَّقُواْ)؛ ولا تتفرقوا عن دين الله، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه؛ من الائتلاف، والاجتماع على طاعته، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والانتهاء إلى أمره.
وقال القرطبي -رحمه الله- في شأن ما يُستنبط من الآية من الأحكام: "قوله -تعالى-: (وَلاَ تَفَرَّقُواْ) يعني: في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم".
الخطبة الثانية
الحمد لله..
عباد الله: وكما تعددت الأدلة من كتاب الله -تعالى- في الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة؛ كذلك تعددت الأدلة من السنة النبوية، ومنها:
1- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا - وذَكَرَ منها: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا.."(رواه مسلم).
2- وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- في الفتن، والشاهد فيه: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». قُلْتُ -أي: حُذيفةُ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا". قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ". قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ"(رواه البخاري ومسلم).
وبوَّب النووي -رحمه الله- لهذا الحديث وغيره: "باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة".
ويقول ابن بطال -رحمه الله- عن هذا الحديث: "فيه حُجَّةٌ لجماعة الفقهاء، في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور".
3- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"(رواه مسلم).
4- وعن عَرْفَجَةَ -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ -وَهْيَ جَمِيعٌ- فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ"(رواه مسلم).
5- وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ -يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ- إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ"(رواه البخاري).
فهذه الأحاديث تؤكد على وجوب لزوم الجماعة، والتحذير من التفرق، ولو تمسك بها المسلمون، وحققوها؛ لكانوا على الخير الذي مضى عليه السلف الكرام؛ من الصحابة، ومَنْ تبعهم بإحسان، ولَعَاد -للمسلمين- سُؤْددهم وكرامتهم التي فُقدت في عصرنا الحاضر؛ بسبب التفرق، وعدم الإذعان لتعاليم الشريعة السمحاء، ومع ذلك: لا يزال الخير في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إلى أن تقوم الساعة، ما داموا متمسكين بالحق؛ قولاً وعملاً.
6- ومن النصوص التي تحث على الجماعة، وترغِّب بلزومها، وتُبَيِّن أجر من لزم ولم يفارق، وتؤكد: أن العصمة في وقت الفتن والمحن؛ هو في التمسك بجماعة المسلمين: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ"(رواه الترمذي). فانظر -أخي الكريم- عظم الأجر على لزوم الجماعة.
7- والخير كل الخير في لزوم الجماعة؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ"(رواه الترمذي).
فيد الله مع الجماعة، ويد الله على الجماعة، ينصرهم، ويؤيدهم، ويسددهم، وهو معهم معية خاصة: معية النصر والتأييد؛ متى ما كانوا مجتمعين على الحق، مجتمعين على طاعة الله، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فتبين لك -أيها المسلم- أهمية لزوم الجماعة ومدى الحاجة إليها؛ فهي من قواعد الدين، والخطر والشر في الفرقة.
وصلوا وسلموا...