العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء؛ إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله -عز وجل- كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده إلا بإذنه؛ لكمال سلطانه وعظمته
الحمد لله أهل التقوى وأهل المغفرة، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره؛ نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أخشى الناس لربه وأتقى، دلَّ على سبيل الهدى وحذر من طريق الردى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، معالم الهدى ومصابيح الدُّجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فأوصيكم -ونفسي- بتقوى الله، فتقوى الله جماع الخيرات، وحصون البركات، أكثر خصال المدح ذكرًا في كتاب الله، ما من خير عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن إلا والتقوى موصلة إليه، ووسيلة له، ودليل عليه، وما من شر عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن، إلا والتقوى حرز منه حصين ودرع منه مكين.
أيها المسلمون: الناس في هذه الدنيا يحتاج بعضهم إلى بعض في حياتهم الخاصة والعامة؛ لجلب نفع أو دفع ضر، وقد لا يتوصلون لبعض مصالحهم ومطالبهم إلا بشفاعة بعضهم لبعض عند أصحاب الحاجات.
والشفاعة: هي التوسط للغير لجلب نفع أو دفع ضر؛ ولما كان المشركون في قديم الدهر، إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما أخبر الله عنهم، وأن ذلك عين الشرك، فهم يعبدون الأصنام ويقولون: "إنَّها شفعاء لهم عند الله"، وهم يشركون بالله -سبحانه وتعالى- فيها؛ بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك، وهم بذلك يظنون أنهم مُعظمون لله، ولكنهم -في الحقيقة- منتقصون له؛ لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق، والقدرة التامة فلا يحتاج إلى شفعاء.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء؛ إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله -عز وجل- كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده إلا بإذنه؛ لكمال سلطانه وعظمته.
والشفاعة نوعان: شفاعة منفية، وهي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، وشفاعة مثبتة: وهي التي تُطلب من الله، وتكون يوم القيامة لأهل التوحيد، ومقيدة بأمرين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.
والناس في الشفاعة ثلاث طوائف: طرفان ووسط، فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى، والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين، أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكر الله في كتابه، ولا تُطلب إلا من الله، كأن تسأله تعالى أن يشفع فيك نبيك محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فإن الشفاعة محض فضل وإحسان.
قال تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام: 51]
يقول الله -سبحانه وتعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- خوِّف بالقرآن الذين يخافون أن يُجمعوا ويبعثوا إلى ربهم يوم القيامة، وهم المؤمنون المخلصون، أصحاب القلوب الحية الواعية الذين لم يتخذوا لهم من دون الله وليًا ولا شفيعًا، بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحد سواه فيما يرجون نفعه ويخافون ضره.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ليس لهم يومئذ: (مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، ويتركون التعلق على الشفعاء وغيرهم، لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملاً بدونه".
عباد الله: الشفاعة ملك الله -تعالى- وحده، قال تعالى: (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) [الزمر: 44]، لا تُطلب إلا منه لأنها عبادة، وتأله لا يصلح إلا له -سبحانه-، فمن طلبها من غير الله -تعالى- كالملائكة والأنبياء والصالحين؛ فقد أشرك شركًا أكبر.
وقال تعالى في الآية التي قبلها: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ) [الزمر: 43] أخبر -سبحانه- أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف عقلاً وشرعًا، فقوله: (لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فيجب إندراج ملك الشفاعة في ذلك، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها.
قال ابن جرير: "نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثانًا إلا لتقربنا إلى الله زلفى، قال الله: (لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فتعلمون أن من طلبها من غير الله أنه خاسر السعي وأنها غير حاصلة له؛ لأنه طلبها من غير مالكها، بل طلبُها من غير الله إفك وافتراء، كما قال تعالى: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأحقاف: 28]"
ومن عظمة الله -سبحانه- وجلاله وكمال سلطانه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده يوم القيامة إلا بإذنه، قال تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) وهذا استفهام معناه النفي البليغ يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.
وفي هذا رد على المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه.
وبيَّن عظيم ملكوته وكبريائه، وأن أحدًا لا يتمكن أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له، وأن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) [طه: 109] فبين -تعالى- أنها لا تقع إلا بشرطين: إذن الرب للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون فيه، وهو سبحانه لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقيه العبد به مُخلصًا غير مشرك.
وبيَّن -سبحانه- أنّ كثيرًا من الملائكة مع عظم مكانتهم عنده لا تنفع شفاعتهم لأحد؛ إلا إذا أذن الله -سبحانه- لهم أن يشفعوا فيمن شاء من عباده، وكان المشفوع فيه ممن رضي قوله وعمله، بأن يكون سالمًا من الشرك قليله وكثيره، وإذا كان هذا في حق الملائكة فغيرهم من باب أولى، قال تعالى: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) [النجم: 26]
عباد الله: يحرم طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا نبي الله اشفع لي عند ربك ليغفر لي، أو يا سيدي فلان اشفع لي عند ربك ليفرج كربتي.
فهؤلاء بهذا الاستشفاع المحرم قد جمعوا بين أمرين عظيمين:
الأول: دعاء غير الله، وهو شرك أكبر. والثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق حيث طلبوا واسطة كما تُطْلَب للمخلوق من ذوي السلطان، وجهلوا أن المخلوق قد يخفى عليه أمر الإِنسان، فيحتاج إلى من يُعَلِّمُه به، بخلاف الرب -تبارك وتعالى- فإنه عليم بأحوال عباده لا يخفى عليه من أمرهم شيء.
وقال -عز وجل- في سورة سبأ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) [سبأ: 22]
أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم) أنهم آلهة من دون الله، ليكشفوا الضر الذي نزل بكم، فقد قطع الله بها جميع الأسباب الواهية التي يتعلق بها المشركون في عبادة غير الله من المُلك والشركة، والمعاونة، والشفاعة، فنفى الله سبب هذه المراتب الأربع من غيره، فنفى أن يكون لغيره ملك بقوله: (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) من خير وشر، ونفع وضر.
ونفى أن يكون له شريك في قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ) لا يملكون شيئًا استقلالاً، ولا على سبيل الشركة، ونفى أن تكون هذه المعبودات عونًا له في قوله تعالى: (وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ)، عون يعينه بشيء، ونفى أن يكون لغيره شفاعة عنده تعالى إلا بإذنه، وذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).
قال تعالى تكذيبًا لهم حيث قالوا: (هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ) [يونس: 18].قال ابن القيم وغيره في هذه الآية: "أنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها". وقد أثبت -سبحانه- شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه.
ولم يجعل -سبحانه- الاستغاثة بالميت أو غيره سببًا لإِذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، لا ما يمنع الإِذن، فالمشرك قد أتى بأعظم حائل بينه وبين حصول الشفاعة، فهو كمن استعان في حاجة بما يمنع حصولها.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره مُلك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله؛ ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، وهو -سبحانه- لا يأذن إلا لأهل التوحيد، كما قال تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28]
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وهي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: "ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفَّع"، وقال له أبو هريرة: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه". فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
ثم قال شيخ الإِسلام: "وحقيقته أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإِخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإِخلاص".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس: 18]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
عباد الله: تنقسم شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قسمين:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي: الشفاعة العظمى التي يتأخر عنها أولو العزم من الرسل، حتى تنتهي إليه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "أنا لها" (وهي المقام المحمود)، وكذلك شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل الجنة في دخولها، وأيضًا: شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب.
القسم الثاني: الشفاعة العامة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولجميع المؤمنين: وهي الشفاعة لقوم من العصاة من أهل التوحيد أن لا يدخلوا النار، والشفاعة في إخراج العصاة من أهل التوحيد من النار، والشفاعة في قوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم.
وأسعد الناس بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحقهم بها هم أهل التوحيد والإِخلاص، فقد قيدها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه" لئلا يتوهم المشركون أنَّ لهم نصيبًا منها، وهم قد حرموا منها لما طلبوها من غير الله، وإنَّما ينالها الموحدون حتى الذين استحقوا دخول النار بسبب ذنوبهم؛ فيشفع لهم في الخروج بعد التطهير، كما ورد في الحديث: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان" رواه البخاري.
والشفعاء هم أعلى الخلق مقامًا، وهم: الملائكة والأنبياء والصالحون، وأعلاهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي إذن الله للشافع أن يشفع؛ إكرام له، وإظهار لشرفه وجاهه عند الله، ورحمة للمشفوع فيه.
وبهذا يتبين لنا: أن الشفاعة لا تكون لمن التجأ إلى الملائكة والأنبياء والصالحين بالعبادة بدعوى طلب الوسيلة والقربة، وأنّ المستحق للشفاعة هم أهل التوحيد، جعلنا الله وإياكم منهم.
هذا، وصلوا وسلموا.