الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
نصر الله -تعالى- نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالرعب، يهابه أعداؤه من مسيرة شهر، ولم يكن يملك عليه الصلاة والسلام ترسانة حربية، ولا مفاعلات نونية، ولكن كان يملك سلاح الإيمان الوهاج، المتصل بالله العظيم، قاهر الجبابرة، وكاسر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله -تعالى- مولى المؤمنين، ونصير المتقين، وكاسر شوكة المعتدين، أحمده وأشكره ومن كل ذنب أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
معاشر المسلمين: آية في كتابكم تقرؤونها، ويتمثل بها قراؤكم، ويرددها أطفالكم، لو تأملتموها لارتقى الإيمان وصح اليقين، وهانت عندكم قوى المجرمين، وضجيج المتكبرين: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً) [الأحزاب: 24].
يدخل المؤمنون المعركة وقد استيقنت قلوبهم بنصر الله -تعالى-، ينصرهم وهم أذلة، ويثبتهم وهم قلة، ويمكنهم وهم مساكين مستضعفون: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران: 123].
يتدرع الأعداء، ويشددون الحراسة ويستنفرون الهمم، والطاقات فيقتلهم الله وهم لا يشعرون، ويبيدهم وهم يبصرون: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر: 2].
نصر الله -تعالى- نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالرعب، يهابه أعداؤه من مسيرة شهر، ولم يكن يملك عليه الصلاة والسلام ترسانة حربية، ولا مفاعلات نونية، ولكن كان يملك سلاح الإيمان الوهاج، المتصل بالله العظيم، قاهر الجبابرة، وكاسر الأكاسرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
سلاح الإيمان المتين الذي يسحق كل كبير، ويهد كل صعب وشديد، ويفلق هام المشركين: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
ولم يكن أهل الإيمان يتوكلون على الأسلحة والكثرة، وإنما يتوكلون على القوى العزيز، ومن توكل عليه كفاه ونصره: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173 - 174].
ويحاول الشيطان أن يُدخل الوهْن، والخوف في قلوب المؤمنين، فيهوّل عندهم الأعداء، ويُعظم عندهم الأخطار، ولكن الله يقول لعباده المؤمنين: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً) [الأحزاب: 25].
إن الله -تعالى- يا مسلمون لا ينصر عباده فحسب، بل يكفيهم شر الأعداء فيأمنون الخسائر والشدائد والأزمات: (وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ) [الأحزاب: 25].
تارة يجمعهم بأعدائهم، وينصرهم عليهم، وتارة يقمع أعدائهم بلا قتال، وتارة يكفيهم شر القتال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر: 31].
أما الجنود المؤمنة فإنها إذا فاضت بالإيمان لم تبالِ بالموت، فتراها تسارع في الأهوال، وتقتحم الشدائد! موقنةً بالنصر، متوكلة على الله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]. يقذف الإيمان فيها حب البذل والتضحية، وشمم العز والإقدام، فتطلب الموت، فتوهب لها الحياة، وتدرك الفلاح، فترتفع عن أدناس الدنيا وشهواتها، وكل فرحها المضي قدما إلى الله -تعالى-، إما نصر مبين، وأما شهادة في عليين.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا | ولكن على أقدامنا تقطر الدِما |
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجدْ | لنفسي حياةً مثل أن أتقدما |
نفَّلق هاماً من أناس أعزةٍ علينا | وهم كانوا أعق وأظلما |
أيها الإخوة الكرام: يقول الله -تعالى-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً) [الأحزاب: 25] كانت هذه الآية هي نتيجة غزوة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة، وفيها تحزب الأحزاب من قريش وغطفان واليهود على المسلمين لقمع الدعوة، واستئصال خضرائها، فجاؤوا بجيش عظيم عرمرم، فتهيب الناس ذلك الجيش، وأحسوا بالخطر، وكثرت الأراجيف: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب: 10 - 11].
فكانت هذه الجموع بلاء شديدا للمؤمنين، هزّت قلوبهم، ومحّصت نفوسهم، واختبرت إيمانهم، فكان من جراء ذلك أن ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض، قال تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) [الأحزاب: 12]،
وحاولت بعض القبائل الاستئذان من النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرجوع إلى المدينة لبيوتهم، وبزعمهم أنها عورة، وما هي بعورة، إن يريدون إلا فراراً.
وقد صد الله -تعالى- جموع الأحزاب بما أشار به سلمان الفارسي -رضى الله تعالى عنه- بحفر الخندق، فقال: "يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا؟ وبالفعل اقتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشورة سلمان، وأمر صحابته -رضوان الله عليهم- بالحفر، وقسم العمل والمهام، وشارك هو عليه الصلاة والسلام في الحفر، وبادر الصحابة إلى العمل مسرورين مبتهجين مع ما فيهم من ضعف وفقر، وكانوا يرددون:
لئن قعدنا والنبي يعملُ | فذاك منا العمل المضللُ |
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
اللهم إن العيش عيش الآخرة | فاغفر للأنصار والمهاجرة |
وأثناء حفر الخندق وقعت آيات كمضاعفة الطعام، وحصول البركة فيه، وكرؤيا بشائر بتمكين هذا الدين؛ فقد روى أحمد والنسائي بسند حسن عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "لما كان حين أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، عَرضت لنا في بعض الخندق صخرة، لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءنا فأخذ المِعول، فقال، بسم الله. فضرب ضربة فيها فكسر ثلثها، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية، فقطع الثلث الثاني وقال :الله اكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضربها الثالثة فقال الله اكبر: أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة".
وقد كانت هذه الآيات والبشائر بمثابة التثبيت للمؤمنين، والتذكير للمرجفين، وقد قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيما) [الأحزاب: 22].
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان لا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الناس: انذهلت جموع الأحزاب الكافرة من الخندق الذي حال بين اصطدام الفريقين وقالوا: والله ن هذه المكيدة من مكائد فارس، وليس للعرب بها معرفة قط!
ولم يحصل قتال، وإنما تراشقوا بالنبال، واستطاعت فوارس من المشركين اجتياز الخندق منهم عمرو بن عبد ود العامري، ودعا إلى المبارزة، فبرز له أبو الحسن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقتله، وسحق غروره وكبرياءه، وانصدم المشركون بذلك.
ولما اشتد الحصار على المسلمين أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفكك جموع الأحزاب، بأن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة، ويعودوا لرحالهم، فشاور في ذلك السعد بن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة -رضي الله عنهما- فقالا: "يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا ثمرة، إلا قِرى... أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟! والله لا نعطيهم إلا السيف،...، فرجع رسول الله لرأيهما، وقال: "إنما هو شيء اصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة".
فبالله عليكم -يا مسلمون- هل سمعتم بمثل هذه الشجاعة، وتلكم التضحية؟! الأحزاب طوقت المدينة، والنفاق نجم والنفوس تزعزعت، ويقول السعدان: "والله لا نعطيهم إلا السيف!".
ما الذي كان يملكه سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حتى يلتجئ للخيار العسكري، خيار المواجهة والجهاد؟ العدد قليل! والعدة ضعيفة! لقد كان يملك قوة الإيمان المتسلحة بعظيم التوكل، وقوة الثقة بالله -تعالى-، وقد قال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، وقال: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
أيها الإخوة: هكذا كانت غزوة الأحزاب صمود من المؤمنين، ونصر من الله، وتأييد لأوليائه، وتباشير وآيات تقضى بالتمكين لأهل الإسلام، وأن الله معهم ولن يسلمهم لأعدائهم.
وفيها: عظم ما تحلى به الصحابة من الإيمان والصبر الذين بهما انقشعت كل المخاوف وانزاحت كل التحديات، وقد أرشدهم ربهم -تعالى- إلى ذلك، فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21].
وفيها: إشارة إلى عظيم صبره صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وإلى مرابطته وثباته، وانتظار الفرج من ربه، وفى ذلك أسوة حسنة.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...