الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الشكر هو الاعتراف بالنعم باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وصرفه فيما يحب مسديها وموليها -جل وعلا-. الشكر كما قال العلماء مبني على خمس قواعد: "خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثنائه عليه بها، وأن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، أشكره سبحانه على جزيل عطائه وإنعامه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكامل في ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائم بحقوق ربه وحقوق خلقه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كملت معرفتهم بربهم، وبما يقرب من دار كرامته ورضوانه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله -يا عباد الله- واشكروه على نعمه، فبالشكر تدوم النعم وتزيد.
عباد الله: الشكر على النعم هو الغاية والهدف الذي من أجله خلق الله الخلق، وأمرهم بما أمر، بل هو أجل المقامات وأعلاها، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
وأخبر سبحانه أن ما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته؛ فقال عز وجل: (وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل: 114].
وأثنى سبحانه على خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بشكر نعم الله، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [النحل: 120 - 121] فأخبر أنه أمة، أي قدوة يؤتم به في الخير، وأنه قانت لله، والقانت هو المقيم المطيع القائم على أمر الله، والحنيف هو المقبل على الله المعرض عما سواه، ثم ختم له بهذه الصفات بأنه شاكر لأنعمه، فجعل الشكر غاية خليله.
والشكر -يا عباد الله- هو الاعتراف بالنعم باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وصرفه فيما يحب مسديها وموليها -جل وعلا-.
الشكر كما قال العلماء مبني على خمس قواعد: "خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثنائه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره".
والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح فمن استكملها فهو الشاكر لله حقا.
أيها المسلمون: جاء في سنن الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا كُتِبَ لَهُ شُكْرُهَا، وَمَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَشْتَرِي الثَّوْبَ بِالدِّينَارِ فَيَلْبَسُهُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ"، وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلب شاكر، ولسان ذاكر، وبدن على البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه خونا في نفسه ولا ماله"، وروى الإمام أحمد بإسناده عن ثابت قال: "كان داود -عليه السلام- قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فيها، قال: فعمهم الله -تعالى- في هذه الآية: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
ومن الشكر: أن تظهر على المرء آثار النعمة، فالله -عز وجل- يحب من عبده أن يرى أثر نعمته عليه، فإن ذلك شكرها بلسان الحال، وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف؛ فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
والشكر -يا عباد الله- يكون على المحاب من الأكل والشرب والكساء والأمن والهداية، وغير ذلك من النعم، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا من مواطن الشكر ومناسباته؛ فمنها: ما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي -صلى الله عليه وسلم- على طعام, فانطلقنا معه, فَلَمَّا طَعِمَ وَغَسَلَ يَدَهُ، أَوْ قَالَ: يَدَيْهِ، قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ، مَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا، وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكُلَّ بَلاءٍ حَسَنٍ أَبْلانَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مُوَدَّعٍ وَلا مُكَافَئٍ، وَلا مَكْفُورٍ وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبَّنَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَسَقَى مِنَ الشَّرَابِ، وَكَسَى مِنَ الْعُرْيِ، وَهَدى مِنَ الضَّلالَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ الْعَمَى، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ تَفْضِيلا".
الحمد لله رب العالمين.
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"، فكان الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء رضوان الله -عز وجل- في مقابلة شكره بالحمد، وقال عليه الصلاة والسلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال ولا ولد، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى في أهله آفة دون الموت"، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أخبر بأمر يسره خر ساجدا لله -عز وجل- شكرا له، وعلى كل حاسة وجارحة شكر ما أعطيت من النعم.
قيل لأبي حازم: ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً أخفيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً، قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله -عزّ وجلّ-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون: 5 - 6] قال: ما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت خيراً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت شراً مقته كففتهما عن عمله، وأنت شاكر لله عزّ وجلّ، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله رجل له كساء يأخذ بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحرّ والبرد والثلج والمطر.
وربنا -تبارك وتعالى- يحمد على إعطاء هذه الحواس، وهذه الجوارح من السمع والبصر واليدين والرجلين، وإن قل ما في يدي صاحبها من المال فهو غني بها مع الإيمان، قال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "إن رجلاً بسط له في الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله ويثني عليه، حتى لم يكن له فراش إلا باري (أي حصير من قصب) فجعل يحمد الله، ويثني عليه، وبسط لآخر في الدنيا، فقال لصاحب الباري: أرأيتك أنت علام تحمد الله؟! قال: أحمده على ما لو أعطيت به ما أُعطي الخلق لم أعطهم إياه به؛ قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك.
وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس أيسرك ببصرك مائة ألف درهم؟ فقال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف درهم؟ قال: لا، قال: فبرجليك؟ قال: لا، فذكره بنعم الله عليه، فقال يونس: أرى عند مئات الألوف وأنت تشكو الحاجة، ولربما يزوي الله -عز وجل- بعض الدنيا عن عبد من عبيده ويكون ذلك نعمة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الرجل ليشرف على الأمر من التجارة أو الإمارة حتى يرى أنه قد قدر عليه يذكره الله -عز وجل- من فوق سبع سموات، فيقول للملك: اذهب فاصرف عن عبدي هذا فإني إن أيسره له أدخله جهنم، فيجيء الملك فيعوقه فيصرف عنه، فيظل الرجل يتطير بجيرانه إن فلان سبقني فلان وما صرفه عنه إلا الله -تعالى- رحمة به" (رواه ابن المبارك والدارمي بإسناد صحيح).
فاشكروا الله -تعالى- على نعمه ولا تعرضوها للزوال بمعصيته، واعتبروا بغيركم؛ فإن الله -تعالى- يمهل ولا يهمل، قال عز وجل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235]، وقال تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
وإذا كان الإنسان يتقلب في نعم الله وهو يسارع في معصيته، ويتهاون بفرائضه ولا يحاسب نفسه، فذلك هو الاستدراج: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [القلم: 44].
نعوذ بالله من كفران النعم، ونسأله أن يجعلنا من الشاكرين.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، لا إله إلا هو تصير الأمور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وحده اللطيف الخبير، وأن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -يا عباد الله- وكونوا من الشاكرين لله على نعمه، ولا تعرضوا نعم الله للزوال باستعمالها فيما يغضب الله.
أيها المسلمون: حين يحدثنا الله -عز وجل- عن قصة سبأ في كتابه، ويقص علينا من أنبائهم بخطاب في القرآن مفهوم، وبكلام معلوم؛ فإنه يوضح أنه لا فضل لنا على سبأ، ولا لسبأ علينا فضل، ولا فرق بيننا وبين القوم إلا بالإيمان والتقوى؛ فالأصل واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والله لا يحابي أحدا، فمتى حصل الكفر والطغيان والبطر والأشر والعدوان وظلم الناس، فالعقوبة جاهزة، والنقمة حاضرة: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
ولذلك ختم الله قصة سبأ بقوله عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5] فلا يعي الدروس ولا يستلهم العبر إلا من اتصف بالصبر والشكر.
والصبر والشكر ليس كلاما فارغا، ولا عبارات جوفاء؛ إنما قيام بطاعة الله، وأداء لفرائضه، وتعظيما لشعائره، وإعزازا لدينه، والقائمين به.
والصبر هو توطين النفس على طاعة الله، وكفها عن محارمه، وبذل النفس والنفيس لإرضاء الله -جل جلاله-: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].
سبحان الغني الشاكر الشكور الذي لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي.
اللهم اجعلنا ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.