الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
القدس مفتاح السلام، ومن الذي يكره السلامَ ولا يريد السلامَ، بل مَنِ الذي اعترض في الماضي أن يعيش اليهود والنصارى مع المسلمين في أرض الشام وفلسطين؟ ومارسوا عباداتهم وبقيت كنائسُهم ومعابدُهم، واختلطوا فيها بالمسلمين وتبادلوا المصالحَ والمنافعَ، بل وتصاهروا كما كان التاريخ القريب والبعيد، مَنِ الذي يكره السلامَ ولا يريد السلامَ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي -تعالى- في ملكوته وتقدَّس، واصطفى من البشر رسلا، ومن البقاع رباعا مباركة وقدَّس، وجعل القبلةَ الأولى والمحشرَ في الأخرى إلى البيت الْمُقَدَّس، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادة بها قام الإسلام وعليها تأسَّس، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين والتابعين وَمَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم اتقوا الله -تعالى- أيها المؤمنون واعلموا أنكم ملاقوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].
خطَب عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- بالجابية، وهو في طريقه لاستلام مفاتيح بيت المقدس فقال: "أيها الناس، أَصْلِحُوا سرائركم تَصلُحْ علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تُكْفَوْا أَمْرَ دنياكم، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وَمَنْ سرَّتْهُ حسنتُه وساءته سيئتُه فهو مؤمن".
أما بعد: أيها القدس، فمن أين أبدأ يا عيون فلسطين، وإن في قلب كل مسلم من قضيتك جروحًا دامية، وفي جفن كل مسلم من مآسيك عَبَرَاتٍ هامية، وله بإسلامه عهد لفلسطين من يوم اختارها الباري للعروج، إلى السماء ذات البروج.
يا فلسطينَ الإباء: إذا كان حُبُّ الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآربِ التي يُقَضِّيها الشبابُ، فإنَّ هوى المسلم لكِ أن فيكِ أُولَى القبلتين، والمسجدَ الأقصى الذي بارك الله حوله، وأنكِ كنتِ نهايةَ المرحلة الأرضية، وبدايةَ المرحلةِ السماويةِ، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودًا، بعد رحلة آدَمَ الواصلة بينهما هبوطًا؛ وإليكِ إليكِ ترامت هِمَمُ الفاتحينَ، وترامت الأيْنُقُ الذُّلُلُ بالفاتحينَ، تَحْمِل الهُدَى والسلام، وشرائعَ الإسلام، وتنقُل النبوَّةَ العامةَ إلى أرض النبوات الخاصة، وثمارَ الوحي الجديد إلى منابت الوحي القديم.
عباد الله: المسجد الأقصى والأرض المقدسة، وفلسطين وبيت المقدس، أرض النبوات، ومسرى الرسول، وإرثُ الأمةِ الخاتِمة الذي يسكن قلبَ كلِّ مسلم.
بقاعٌ باركها الله وبارك ما حولها، أكثرُ أرضٍ في هذه الدنيا خَطَا فيها الأنبياءُ، مازجت نسماتُها أنفاسَهم، وأصاخت أفياؤها لتراتيلهم ومناجاتهم. وتبلَّلَ ثراها بدموعهم ودمائهم، في أوديتها وعلى وهادها درَجَ أكثرُ الأنبياء، واستقبلت فجاجُهَا وحيَ الله من السماء.
لا يكاد وادٍ من أوديتها لم يشهد مرور نبي، ولا مَرْجٌ من مروجها لم يسمع تسبيحة رسول، لو نطقت حجارتها لَرَوَتْ لنا حكايةَ بعثةٍ، ولو تكلمت جبالها لقصت علينا مولد رسالة، ولو انحصر ظاهرها عن باطنها لهالتك كثرة مراقد الأنبياء هنالك، ووفرة رفاة الصالحين والأولياء من كل الشرائع كذلك.
كانت الأجيال التي تتعاقب على ثراها لا تخلو من نبي أو أنبياء، وكثيرًا ما كان يتوافر عدد من الأنبياء في زمن واحد، وربما قرية واحدة من قُرَى فلسطين، فضلًا عن المتألِّهين والنُّسَّاك المبثوثينَ على صُعُداتها كَبَثِّ الربيع أفانينَ الزَّهَر، محاريب المتبتلين تلقاها في منحنيات الأودية، وصوامع المتعبدين وَبِيَعهم نائية عن القرى والأبنية، عُبِدَ اللهُ فيها زمنا أطول من أزمان بقية الأرض.
ولئن كان الضلال في كثير من بقاع الدنيا على هيئة وثنية أو إلحاد فإن الضلال في الشام وبيت المقدس خصوصا إذا وُجِدَ فقد كان تقصيرا في القيام بحقّ رسالة أو تحريفًا لمبادئ نبوة مع بقاء جزء من الحق فيما بين أيديهم من صحائف أو كُتُب؛ لذا كانت فلسطين هي ميراث النبوات وعهد الرسالات وميلاد الشرائع أولى بها وبخلافتها رسل الله وأتباعهم إلى يوم الدين. وقد كان من أوائلهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليه وعليهم السلام والذي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وكيف يكون ذلك (وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) [آلِ عِمْرَانَ: 65]، (وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 67-68].
واستمر ساكن الأرض المقدسة من بعده تسوسهم أنبياؤهم كلما سلف نبي خلفه نبي، تطاولت بهم الدهور وتتابعت عليهم الحِقَب، تعاقبت على فلسطين أمم وتغايرت أَلْسُن حتى أسلم الله مقاليدها لهذه الأمة الوارثة، لوحدانية الرسالات وخلاصة النبوءات، ولرسولها المبشَّر به في كل الأمم السالفة.
صلَّى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس بمكة ثلاثة عشر عامًا، وبعد الهجرة إلى المدينة أيضًا سبعة عشر شهرًا حتى نزل القرآن آمِرًا بالتوجه إلى المسجد الحرام؛ والذي ارتبط ارتباطًا أزليًّا بالمسجد الأقصى، فكان الإسراء إليه والمعراج منه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)[الْإِسْرَاءِ: 1].
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أِيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ" قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أِيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى"، قَالَ: قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً" الحديثَ... (متفق عليه).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا" الحديث... (أخرجه البخاري ومسلم)؛ فهو البيت الذي عظمته الملل، وأكرمته الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزَّلَة من الله عز وجل: الزبور والتوراة، والإنجيل والقرآن.
أيها المسلمون: الأرضُ لله يورثها من يشاء، فكما كانت للمؤمنين قبل بني إسرائيل فقد كانت للمؤمنين بعدهم (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 105]، حتى أَذِنَ اللهُ -تعالى- ببعثة سيد الثقلين، وخاتم النبيينَ، وبشارتِهم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي -صلى الله عليه وسلم-، وكان فتح بيت المقدس إحدى بشاراته كما في صحيح البخاري، وكانت وراثتُه ووراثةُ أمتِه للأرض المباركة هي سُنَّةَ اللهِ الممتدةَ على مر العصور، ومنذ عَهْدِ إبراهيمَ -عليه السلام-.
وإن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء في بيت المقدس ليلةَ الإسراء كانت إعلانًا بأن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر، أخذت تمامَها على يد محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن آخِر صبغة للمسجد الأقصى هي الصبغة الإسلامية، فالتصق نَسَبُ المسجدِ الأقصى بهذه الأمة الوارثة.
عباد الله: وفي السنة الخامسة عشرة للهجرة تحققت النبوة، ودخل المسلمون فلسطين وقال البطارقة: لا نسلِّم مفاتيحَ بيت المقدس إلا للخليفة عمر بن الخطاب، فإنا نجد صفته في الكتب المقدسة، وفي لحظة تاريخية جليلة جاء عمر -رضي الله عنه- من المدينة المنورة إلى فلسطين وتسلم مفاتيح بيت المقدس تسلما شريفا في قصة تكتب تفاصيلها بمداد النور وأشرف على مدينة القدس من جبل المكبِّر حيث كبر وكبر معه المسلمون وهناك قال قولته الشهيرة: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فَمَهْمَا ابتغيتم العزة بغيره أذلكم الله"، دخل عمر بعزة الإسلام وفتَح القدس بهذه الكلمة العظيمة في يوم من أيام الله وصلى في صدر المسجد مما يلي القبلة، وسأل عن الصخرة وكانت مدفونة تحت القمامة والزبل، فأزال عنها القَذَر بعباءته وتبعه الناس حتى طهر المكان، وكتب لعهد البلد عهدا وأمانا وحفظ لأصحاب الشرائع كلهم حقهم، فلم يمنع أحدا من ممارسة منسكه، ولم يضيِّق على صاحب صومعة أو بيعة، ولم يهدم جدارا أُسِّس على دين ولم يُهَجِّر ساكنا ولا مستوطنا، ولم يهدم بيتا ولا معبدا ولا دارا.
وبقيت الكنائس والمعابد من عهده إلى يومنا هذا وطيلة فترة حكم المسلمين مع تتابع قرون لم يتعرض لها أحد، كل ذلك تَمَّ وعمر أقوى حاكم على وجه الأرض وسلطانه أعز سلطان تحت أديم السماء، لم تكن حينها منظمات تلاحِظ حقوقَ الإنسان ولا جمعيات تطالِب بتعايُش الأديان، كان الإسلام أسبقَ من ذلك وأولئك، لم يضمّ أحد في سلطان الفتح الإسلامي، ولك أن تقارِن ذلك بما يحدث الآنَ في ظِلّ المنظمات والجمعيات وبعد إعلان المبادئ والمواثيق، بعد أن مَلَكَ الصهاينةُ مقدارًا قليلا من القوة؛ ليتبين لك الدعوى من الحق، والزيف من الصدق.
أيها المسلمون، عباد الله: إن فلسطين لم تكن مجردَ أرض دخلت تحت سلطان المسلمين يومًا من الأيام، ويمكنها في يوم آخَر أن تكون خارجه، إن فلسطين تاريخًا وأرضًا ومقدسات ومعالِم هي إرثٌ واجب القَبُول، متحتِّم الرعاية، لازمُ الصَّوْن، إنه ليس خيارًا يتردد فيه المترددون أو شأنًا يتحير فيه المتحيرون، القدسُ آيةٌ في الكتاب، وستبقى ما بقي الزمان، ولن يستطيع بشر أن يغير هذه الحقيقة. وإن لهذه الأمة جذورًا أعمقَ مِن أن تُستَأصل.
فلسطين وبيت المقدس آلت إلى المسلمين بأيلولة الشرائع إلى شريعة الإسلام (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[الْمَائِدَةِ: 48]، آلت تلك المقدسات لأهلها الذين هم مازالوا متشبثين بها حتى الآن رغم المرارة والأوجاع، آلت بوعود قرآنية وتراتيب إلهية، وقد صدَقَت تلك الوعودُ، وآخِرُها لم يتحقق بعدُ؛ وهو أن الساعة ستقوم وبيت المقدس بأيدي المسلمين؛ لذا فإن الثابت منذ الفتح وحتى المحشر أن بلاد فلسطين ومدينة القدس بلاد إسلامية عربية، والطارئ والاستثناء هو وقوعها في يد غيرهم. وما مضى من تاريخ أكَّد هذه النبوةَ وصدَّق ذلك الوعدَ، وإنا لَمؤمنون وموقنون أن هذا الوعد سيصدق حتى منتهاه؛ وعليه: فكلُّ إرادة وقوة تَفْرِض غيرَ ذلك إنما تعبث في الدماء وتؤجِّج العنفَ والبغضاءَ، وتُحدث شرخًا في الإنسانية وتشوهات في الحضارة، ثم تؤول عاقبةُ أمرِها خُسرا.
ولنا في الحملات الصليبية والحروب التي ترادفت على الشام أكثر من مائتي عام وفتكت بنسبة كبيرة من سكان الأرض لم ينتج عنها إلا احتلال القدس تسعين عاما، ثم زال الاحتلال وبقي في النفوس الاختلال، ولا عِوَض عن الجهود المهدورة والنفوس المزهوقة، إنه وعد الله الذي لا يُضَادّ ولا يُعَانَد، ولو تم توفير جهود تلك الحملات إلى البناء لا الهدم وإلى السلم لا الحرب لكانت الدنيا في يومها هذا خيرا مما هي عليه، خصوصا وأن السلطات المسلمة في كل العهود لم تمنع حُجَّاجًا لمقدسات فلسطين ولم تُسِءْ لمتعبدينَ وناسكينَ ولم يعرف أهل الكتاب التهجير والتهوين في حكم المسلمين.
وتأسيسًا على ما سبق: فإن الخطوة التي تم اتخاذها مؤخرًا لتكريس احتلال القدس، واعتبارها عاصمة لاحتلال ظالم طارئ خطوة لن تنتج إلا مزيدًا من الكراهية والعنف، وستستنزف كثيرًا من الجهود والأموال والأرواح بلا طائل، ومضادة للقرارات الدولية، وهو قرار يثير المسلمينَ في كل مكان، ويسلب الآمال في التوصل إلى حلول عادلة كما أنه انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، وسيزيد المسلمينَ والعربَ إصرارًا على التحرير، خصوصًا وأن المقدسيينَ ومَن وراءهم من المسلمين مصدقون بوعود الله التي تحقق أكثرها. وما ملُّوا ولن يملوا.
القدس مفتاح السلام، ومن الذي يكره السلامَ ولا يريد السلامَ، بل مَنِ الذي اعترض في الماضي أن يعيش اليهود والنصارى مع المسلمين في أرض الشام وفلسطين، ومارسوا عباداتهم وبقيت كنائسُهم ومعابدُهم، واختلطوا فيها بالمسلمين وتبادلوا المصالحَ والمنافعَ، بل وتصاهروا كما كان التاريخ القريب والبعيد، مَنِ الذي يكره السلامَ ولا يريد السلامَ، وقد قدَّم العربُ مبادراتِهم في ذلك وما زالوا، ولكن أن تُغتصب أرض وتهجَّر أُسَر، ويُنفى شعبٌ ويزوَّر تاريخٌ ويعبث بمقدسات وتغير معالِم، ويقع ظلم شديد بشعب مازال يُسقى المرَّ منذ سبعين عاما، فإن ذلك كله عبث ببرميل بارود لا يُدْرَى متى يبلغ مداه.
إن الذي يُمَارَس اليومَ هو إحداثُ صراعِ ثقافةٍ وحضارةٍ ودينٍ، وتصرُّفٌ يُوقِع العالَم في حرَج وخطَر، ويُنذر بشرٍّ لا يعلم مداه إلا الله.
وعلى المخلصين من أمة الإسلام، وعلى العقلاء من قادة العالَم أن يتداركوا ما يجري من مسلسل التجاوزات والاعتداءات على الأرض والإنسان، وممتلكاته التراثية والدينية، والمعالِم الإسلامية، والحفريات الأرضية التي تنخر أساس مسجد عظَّمَه الأنبياءُ، وقدسه رب السماء، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 114].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
وبعد عباد الله: إن قضية فلسطين ليست قضية شعب أو عرق، أو حزب أو منظَّمَة، إنها قضية كل المسلمين، ولقد كانت دومًا تستجيش ولاءاتِ المسلمينَ لبعضهم، تجمع كلمتَهم وتوحِّد صفَّهم، وهي عنوان تلاحمهم وترابطهم ومحل اتفاقهم، ولا يجوز أن تكون مثارًا لتبادل الاتهامات وتكريس الخلافات، ولا أن تُستغل لإسقاطات وتصفية حسابات.
والعدل يقتضي أن نقول: إن الفلسطينيين عمومًا، والمقادسة خصوصًا، قد ضحَّوْا تضحيةً عزَّ نظيرُها؛ فقد عاشوا أطول احتلال في هذا العصر، وهم متمسِّكون بأرضهم متشبِّثون بها، مرابطون على الأكناف بلا أسلحةٍ إلا الحجارةَ والهُتَاف، منذ أكثرَ مِن سبعين عامًا وقُرَاهُم تتعرض لمجازرَ ومذابح؛ وذلك لإرهابهم وتهجيرهم، فما زادتهم الأحداثُ إلا ثباتًا، جرَّبُوا قهرَ الرجال في سلب الأرض ومضضَ التهجير.
مضت أجيال منهم وَقَضَوْا وهم لم يعرفوا من رفاهية الحضارة شيئًا، وُلِدُوا في خوف وعاشوا في خوف، وماتوا عليه. تكالبت قُوَى العالَم عليهم وهم صامدون، عاشوا في المخيمات في حين أن الرفاه مِن حولهم، وُلِدَتْ كثيرٌ من أجيالهم في المنافي والشتات، ويعيشون فيها بأقلِّ أجرٍ وحرمانٍ من فُرَص وظيفية مناسبة؛ فَأَقِلُّوا عليهم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا. أقيلوا عثرات مَنْ عثَر منهم بسبب ضغط الواقع عليهم وشدته، ولئن أساء بعضُهم أو أخطأ في تقدير موقف فإن البقية ليسوا كذلك، وَهُمْ أَوْلَى الناسِ بإقالة العِثَار والتماس الأعذار.
والمرابطون في أكناف بيت المقدس يؤمنون بحقهم في أرضهم ويؤمنون بما صح عن نبيهم فيما رواه أبو ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقَيْدُ قَوْسِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني).
وفي المقابل: يا أيها الفلسطينيون الكرام، لئن كان صبركم على الاحتلال وعلى عدوكم مضربَ مثلٍ فإن صبركم على إخوانكم أَوْلَى، فإن قضيتكم هي قضية العرب والمسلمين، وقد بذلوا منذ عقود وما زالوا يبذلون، سواء كان حربًا أو سِلْمًا معونةً أو مواقفَ سياسيةً، وَلِعَدُوِّكم مصلحة في فَكّ ارتباطكم بعمقكم العربي والإسلامي؛ يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كي لا تلتحم.
والإشاعةُ سلاحٌ مجرَّب للعدو، فاستعجال بعضكم باتهامات أو سوء ظن يعود على قضيتكم وقضيتنا بالفشل والتأخر، وإن بعض الأصوات الشاذة غيرِ المتعقِّلة لَتُفرِحُ العدو، وتُوهِن الصلةَ وتضعف التعاطف، ولستم في حاجة لمزيد من العداوات.
أيها المسلمون: سيبقى القدس في قلوبنا وفي وعي الأمة، وقد أكدت المملكة مرارًا دعمَها المستَمِرَّ لقضية القدس، وأن مواقفها ثابتة على مر العصور، وأنها تسعى بكل جهد من أجل حصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه التاريخية، والمملكة دعمت ولازالت تدعم القضية الفلسطينية، وتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني دائمًا، وتعمل لنصرة قضية القدس التي آمنت بها باعتبارها قضية المسلمين الأولى في جميع المحافل الدولية، والواجب على الإعلام العربي أن يقوم بدوره في إبراز هذه القضية؛ فهي قضية العرب الأُولَى.
على أهل العلم والثقافة والفكر أن يُعْنَوْا بما يحفظ للأمة بقاءَها وبقاء تراثها وحياتها، الواجب المتحتِّم في زمن الجِدّ والصراع، هو اليقظة والاجتماع، والعمل الجادّ والائتلاف، وتَرْك الخلاف، لا يليق بأمة الإسلام أن تغرق في خلافات جانبية، ونظرات إقليمية أو أنانية، يجب أن تقدَّم مصالح الأمة الكبرى على كل مصلحة فرعية، وأن تُسمع نداءاتُ الحقِّ والعدلِ ومبادرات الحَزْم والعقل بأن تُطَّرَح الخلافاتُ، وتتوحد الأمة في وجه الأزمات واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، فلن ننجح مادمنا مختلفين، ولن ننتصر إن كنا متفرقين.
حفظ الله المسجد الأقصى وأهله، حفظ الله المسجد الأقصى وأهله، وطهره من ظلم واحتلال.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على مَن أرسلَه الله رحمةً للعالَمين، وهَديًا للناسِ أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامِين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدَة والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك المؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكَر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمُسلمين ودينَهم وديارَهم بسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلِك في فِلسطين، اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلِك في فِلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم، اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين، واجعله شامخا عزيزا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألُك باسمِك الأعظَم أن تلطُفَ بإخوانِنا المُسلمين فلسطين وفي كل مكانٍ، اللهم كُن لهم في فلسطين، وسُوريا، والعراق، واليمَن، وبورما، وفي كل مكانٍ، اللهم الطُف بهم، وارفَع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفرَج، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوالهم وأحوال المسلمين، واجمعهم على الهُدى، واكفِهم شِرارَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن عاونَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن عاونَهم.
اللهم وفِّق ولِيَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحِبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائبَه وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ.
اللهم احفَظ وسدِّد جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا وحُدودِنا، المُجاهِدين لحفظِ أمنِ بلادِنا وأهلِنا وديارِنا المقدَّسة، اللهم كُنْ لهم مُعينًا ونصيرًا وحافِظًا.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
ربَّنا اغفِر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وثبِّت أقدامَنا، وانصُرنا على القومِ الكافِرين، اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغْنَا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميعُ الدعاء، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطِين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا، سحًّا طبَقًا مُجلِّلًا، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والباد.
اللهم سُقيَا رحمةٍ، اللهم سُقيَا رحمةٍ، اللهم سُقيَا رحمةٍ، لا سُقيَا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرَقٍ، ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.