العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه |
"وفُجاءة نقمتك" قد تكون في أمور أخرى لا يَحسب لها الإنسان حسابًا، هي دون الموت، مما يكون من البلايا التي سببها إسراف الإنسان على نفسه بالظلم لها، والظلم لغيره، الظلم لها بالذنوب والآثام، والظلم لغيره بالتسلط عليهم وانتهاب حقوقهم، والإخلال بها، ولذلك فإنَّ الله -تعالى- يعاجله من حيث لا يشعر، إذا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإن من الأعمال التي يحبها الله -جل وعلا- ويَرتضيها من عباده: كثرة ذكره ودعائه -جل وعلا-، وقد تكاثرت نصوص القرآن والسنة المرغِّبة في سؤال الله -جل وعلا-، وفي ذكره وتسبيحه، وحمده وشكره، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن بالقدر الأسنى والمقام الأعلى، وكانت دعواته -عليه الصلاة والسلام- دعواتٍ حكيمات متضمِّنةً جملاً بليغةً في معانيها، عميقة في دلالاتها، وهذا يحمل المسلم على أنْ يتعلَّم هذه الدعوات التي كان عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنها تجمع خيرَي الدنيا والآخرة، وتَقِي المؤمن شرورَهما.
ومن جملة هذه الدعوات البليغة التي كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحافظ عليها؛ ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان من دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نِقمتك، وجميع سَخطك".
أربع جمل إذا تأمَّلها المؤمن وجد فيها الخير العظيم، إذا استجاب الله -تعالى- منه هذا الدعاء، وخاصة أنَّ فيه التجاء إلى الله -جل وعلا-، ورغبةً إليه بأن يكون المؤمن مستقيمًا على الطاعة، محفوظًا من صوارف الليل والنهار من الذنوب والمعاصي والبلايا.
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك" هذا التجاء إلى الله -جل وعلا-، فهو الذي -سبحانه- بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، والمؤمن يجب أنْ يكون قلبه معلقًا بمن بيده تصريف الأمور، وبيده الأمر والنهي، وبيده مقاليد كل شيء.
"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك"، وذلك أنَّ المؤمن إذا أنعم الله -تعالى- عليه فإنه يحب هذه النعمة أن تدوم وتستمر، بل هذه جِبِلَّة في بني آدم كلهم، إذا أُعطوا ما يحبون من أنواع النعم، ألِفوها وأحبوها، وأعظم نعمة يؤتاها المؤمن هو هدايته للإسلام، فيسأل الله -تعالى- أن يثبت عليه، ويستعيذ به من أن يزول، وهذا الأمر قد يُستبعد في أول وهلة، لكن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، ولذلك أخبر سبحانه أنَّه قد يحال بين الإنسان وبين قلبه، فلا يستطيع الثبات على الإيمان، ولا يستطيع اختياره ابتداءً؛ كما قال سبحانه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال: 24].
وأخبر -جل وعلا- أنَّ عباده الراسخين في العلم من دعائهم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8]، وأخبرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنَّ من دعاءِ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يكثر منه: "اللهم مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"، وهو الذي غُفِر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وهو المثبَّت بأمر الله، فقالت له عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال: "يا عائشة، إنَّ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن؛ فإنْ شاء أقام قلب هذا، وإن شاء أزاغه".
ولئن كان هذا الأمر مستغربًا أن تزول نعمة الإسلام، وأن يرتدَّ المسلم عن دينه بعد أن ذاق لذته، واستروح في رياضه، ووجد الطمأنينة في غضونه، لكن وجود من يرتد متكرر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وُجِد في زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من ارتدَّ عن الإسلام بعد أن كان من أهله، وإن كان ذلك قليلاً ومعدودًا بالأفراد في المتقدمين، لكنه اليوم وللأسف الشديد صار يظهر ويَشتهر، وصار بعض الناس يجاهر بالإلحاد، وصاروا يتجمعون على مسميات لهم، وخاصة عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، لهم تجمعات يُسمُّون أنفسهم المرتدين، ويسمُّون أنفسهم الملحدين، وغير ذلك من التسميات التي فيها سوء أدب مع الله -جل وعلا-، وغرَّهم إمهاله سبحانه وتعالى، فهؤلاء وُجِدوا في كنف الإسلام ووُلِدوا من آباء وأمهات من أهل الإسلام، ولكن زالت هذه النعمة، وهذا يحمل المسلم على أن يعظِّم الرغبة، ويلح في الدعاء أن يثبِّته الله على الإسلام، وأن يبقى عليه إلى آخر رمقٍ على الإسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
فالمؤمن يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك"، وفي ذهنه وفي خلده نعمة الإسلام أساس النعم وتاجُها، ويبذل الأسباب في الثبات عليه، إلى غير ذلك من أنواع النعم الأخرى التي يمنُّ الله بها على عباده، نِعمٌ لا تُعدُّ ولا تحصى؛ كما قال -عز من قائل-: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].
ومما يخطئ به بعض الناس أنْ يظن أنَّ النعمة إنما هي في المال، أنَّ النعمة إنما هي في الجاه، في المنصب في الولد، في غير ذلك، تجدُ هذا الإنسان قد غُطِّي بنعم الله -تعالى- من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، لكنه لا يلتفت إلى هذه النعم، ولا يكاد يتأملها، والسبب في ذلك أنَّه يقارن نفسه بالآخرين، يحاسب ربه لِمَ لمْ تجعلني مثل فلان وفلان؟! يريد أن تكون حياته كالآخرين، ولا يعلم أنَّ أولئك لم تكمل في حقهم النعم مع كثرتها، وإغداق الله عليهم وعليه هو أيضًا، فكل أحدٍ له حاله، وكل أحدٍ له رزقه، ولذلك قال ربنا -جل وعلا-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [طه: 131]، فهذا الذي ترى أنه مغدقٌ عليه بالنعم وهو كذلك، لكن ثمت ما يكدره ولا يكدرك، قد ترى إنسانًا يملك الملايين، لكنه لا يأكل كما تأكل، قد تجد إنسانًا يملك ما يملك من عقارات وغيرها، لكنه ليس في نعمة راحة البال التي مثلك، وقد تجد آخرين يفوقونك في شيء من المجالات، لكنك أنت تفوقهم في مجال آخر، والإنسان لا يحاسب ربه: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الزخرف:32]؛ فالله -جل وعلا- يُعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، والمؤمن يدرك أنَّ نعمَ الله -تعالى- عليه لا تُعدُّ ولا تحصى.
ومن أعظم من يدرك ذلك من كان له علم بالطب والعلوم المختصة ببدن الإنسان، فكل لحظة تمر على الإنسان فهو مغدقٌ عليه بأنواع النعم، ذلك أنَّ هذا البدن بما فيه من الصحة والعافية -وإن تفاوت الناس فيها- فإنها نِعمٌ فوق نِعم، في توازنات هذا البدن ومقاييسه في كل مليمتر منه، أو أقل مما يضبط للإنسان له عافيته وصحته.
ومن العجيب: أنَّ هذه النِّعم يقتحم بها الإنسانُ مساخطَ الله -جل وعلا-، ولن يستطيع أحدٌ أن يقتحم معصية إلا وهو مستعينٌ عليها بنعمة من نِعم الله -جل وعلا-؛ في بصره في سمعه، في نطقه في بَطشه ومشيه، وفي غير ذلك، والمقصود أنَّ هذا الدعاء يشمل هذا الأمر: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك".
والنعمة هنا كما يقول العلماء: اسم جنس يشمل كل النِّعم؛ نعمة الإسلام، نعمة العافية في الأبدان، نعمة الرزق، نعمة الصحة، نعمة أنواع الوظائف في البدن، نعمة التمييز، أنواع النعم التي كما قال الله -جل وعلا-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وهذا يحمل المؤمن على أن يشكر هذه النعم، ويبذل مسعاه شكرًا لهذا المنعم.
ومن العجيب في شأن ابن آدم أنه مستعد لئن يشكر إنسانًا مثله أحسن إليه إحسانًا محدودًا، أن يشكره طولَ عمره، لكنه يتناسى شكر خالقه ومُوجِده الذي تفضَّل بكل أنواع النعم، فلو أنَّ إنسانًا مرت به ضائقة، ثم قام معه أحد من الناس قريب أو صديق، وأسنده في هذا الأمر، فإنه سيبقى -في الغالب- حافظًا لهذا الإحسان والمعروف، شاكرًا لصاحبه لا ينساه، وإن كان هذا الأمر محمودًا، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان؛ لكن ينبغي أن يقارن الإنسان في تصرفه مع خالقه وموجده، ومع الخلق الذين هم ضعفاء مثله.
"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك"، والنِّعم كل أحد له مجال فيها؛ سواء ما تقدم ذكره، وأعظم النعم نعمة الإسلام، أو نعمة العافية في الأبدان، أو نعمة الأمن في الأوطان، والاستقامة في الأمور وصلاح الأحوال، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (رواه الإمام ابن ماجه بسند جيد).
"من أصبح منكم آمنًا في سربه" آمنًا في بيته، آمنًا في حيِّه، آمنًا في مدينته ووطنه.
"معافًى في بدنه" عافية في الجملة، ليس إنسانًا يحتاج إلى تنفس اصطناعي، أو يحتاج إلى إعانة خارجية للقيام بالوظائف المعتادة.
"عنده قوت يومه" قوت يومه، وأما الأيام القادمة، فعلمها ويتكفل بها الخالق الرزاق الموجِد -جل وعلا-.
"فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" وهذا هو واقع أعظم الناس غِنًى، فإنَّ المال يحصِّل له أمنًا في سربه، ويحصِّل له عافيةً في بدنه إذا شاء الله، ويجد من هذا المال الكثير ما يكفيه لقوت هذا اليوم وحده، وأما ما بعد ذلك، فعِلمه عند الله.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام- في الجملة الثانية: "وتحوُّل عافيتك"، وهذا التفات على واحدة وجزء من النعم المشار إليها في الجملة الأولى من هذا الدعاء العظيم، وهي العافية هي السلامة من المعطبات والمؤثرات على الإنسان في دينه أو في حياته، قد يكون الإنسان معافًى من شبهات في دينه، فيتحوَّل هذا الأمر، ويفتح عليه باب من الشبهات والشهوات حتى تُهلك عليه دِينَه، وتُهلكه في دينه، وقد يكون الإنسان معافًى في أمور أخرى ليس عليه دَين، ليس به مرض، ليست عنده مشكلة زوجية ولا عائلية ولا مجتمعية، فتتحوَّل هذه النعمة، تتحوَّل هذه العافية وتكون بضدها، فالمؤمن يستشعر دومًا عظيم إنعام الله، ويستشعر ما يجب أن يحافظ عليه؛ لأنَّ الله كريم جَوَاد، وهو القائل سبحانه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ: هذا الحديث الجليل العظيم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتَحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك" أما فُجَاءة النقمة، فهي أن يُفاجأ الإنسان بأمرٍ من الأمور التي هي جزاء فعله وصنع يده، وما كسبت، بأن يحل عليه سَخط الله -جل وعلا- بتبدُّل الحال التي هو عليها.
ومِن العلماء من يقول: إنَّ فُجَاءة النقمة هي موتُ الفجأة، الموت الذي يحل بالإنسان فجأة دون مقدِّمات، أصبح في عافية وسلامة لا يشكو مرضًا، ولا هو في خطر يهدده، ثم جاءه الموت فجأة بلا مقدمات، والسبب في ذلك أنَّ موت الفجأة لا يكون الإنسان مستعدًّا للانتقال من هذه الحياة الدنيا؛ لأن كثيرًا من الناس يسوِّف ويؤجل التوبة والإقلاع عن الذنوب، ويؤجل إرجاع الحقوق والاستسماح من الناس، يؤجله إلى أمدٍ معين إذا بلغ كذا وكذا من العمر، إذا رجع إلى بلده، إذا وصل إلى حال معينة، فهو يؤجِّل هذه الأمور، ويدرك أنَّه على خطأ وعلى خطر، لكنه يؤجلها، فيحصل ما لم يكن في الحسبان وهو موت يمنعه من ذلك.
وهذا ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث رواه البخاري في صحيحه حين خطَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خطًّا مربعًا، ثم خطَّ من هذا الخط المربع خطًّا خارجًا منه، هذا الخط الخارج نصفه داخل المربع ونصفه خارجه، ثم حول هذا الخط الخارج من المربع خطَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خططًا صغارًا في داخل المربع عن يمين هذا الخط وعن يساره، فقال: "هذا الخط الطويل خارج المربع هو الإنسان وهذه الخطط الصغار من حوله هي أعراض الدنيا، والجزء الخارج من المربع هو أمل الإنسان، وأما ضلع المربع القاطع له، فهو أجله"؛ فالإنسان له آمالٌ هي خارج الحياة، آمالٌ كما يقال في اللفظ الدارج اليوم في الوقت الضائع الذي لا ينفعه، ولا يمكن أن يصلح ولا يبدل.
"وفجاءة نقمتك"، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن موت الفجأة أخذة أسفٍ على الكافر"، لماذا؟ لأنَّه لا يستطيع أن ينقذ نفسه من عذاب أبدي بسبب كفره، ولذلك عند الموت يقول أحدهم: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100].
"وفُجاءة نقمتك" إنما تكون بسبب مقدمات، وهي إسخاط الإنسان لربه، وخيانته لله -جل وعلا-، وخيانته لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وخيانته لنفسه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]، وأعظم الخيانة أن يتسبَّب الإنسان لنفسه بعذاب أبدي في الدار الآخرة.
"وفُجاءة نقمتك" قد تكون في أمور أخرى لا يَحسب لها الإنسان حسابًا، هي دون الموت، مما يكون من البلايا التي سببها إسراف الإنسان على نفسه بالظلم لها، والظلم لغيره، الظلم لها بالذنوب والآثام، والظلم لغيره بالتسلط عليهم وانتهاب حقوقهم، والإخلال بها، ولذلك فإنَّ الله -تعالى- يعاجله من حيث لا يشعر، إذا ظلم هؤلاء وانتقص حقوقهم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه قال في شأن دعوة المظلوم: "إنَّ الله يرفعها فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين"، فيحذر الإنسان من ظلم الخلق؛ لأنَّ الله -جل وعلا- ينتصر لهم ويفاجئه من حيث لا يشعر، فيأتيه الخوف من حيث يأمن، ويأتيه البلاء من حيث اطمأن.
"وجميع سخطك" كل ما يُسبب سخط الله -جل وعلا-، ينبغي على الإنسان أن يلجأ إلى الله في أن يكفه عنه؛ لأنَّ شهوات الدنيا وشبهاتها سيل هادر لا يسلم منه إلا من شاء الله، تُعرض الفتن على القلب كالحصير عُودًا عُودًا، حتى إذا أُشربها القلب، عاد كالكوز مُجخيًا المقلوب، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، ولذلك يلجأ العبد إلى ربه أن يَقِيَه هذه الفتن -فتن الذنوب والمعاصي، والشبهات والشهوات-، ولذلك كان من أعظم إنعام الله على عباده المؤمنين أنْ يحول بينهم وبين الآثام، أنْ يمنعهم من ارتكاب المساخط؛ لأنَّ الله يحبهم، ولذلك قال -عز من قائل- مُمتنًّا على عباده المؤمنين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7].
تأمَّل -يا عبد الله- هذه الآية تُدركْ أنها أعظم من مُلك الدنيا كله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) [الحجرات: 7]، رحمة من الرحمن وإنعام من المنان: أنْ يجعلك مُحبًّا للإيمان، مطمئنًّا إليه، لا تعدل به ملك الدنيا: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:7]؛ فالصلاة محبوبة، والزكاة محبوبة، والصدقة محبوبة، والصيام محبوب، والحج والعمرة والأعمال الصالحات تجدها محبوبة عند المؤمن، يقبل عليها وكأنما نال كنزًا، بخلاف المنافق فإنه يأتي هذه الأعمال كأنما يُدفع إليها دفعًا: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142]، (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) [الحجرات:7]، فالكفر مبغضٌ عند المؤمن، والفسوق مبغضٌ عنده، والعصيان مبغضٌ عنده، ولذلك إذا نال المؤمن ذنبًا أو اقترفه، صار عنده همٌّ عظيم، كأنما فوق رأسه جبل، لماذا؟ لأنه أسخط حبيبه، وبَعُد عن حياضه، وصار طريدًا عن رحمته، فلا يرتاح حتى يعود ويؤوب ويتوب: (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات:7-8].
وبعدُ، فهذا الدعاء دعاءٌ عظيمٌ جليل، ينبغي على المسلم أن يحافظ عليه، وأن يكثر منه في سجوده، وفي أوقات إجابة الدعاء.
اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتَحوُّل عافيتك، وفُجاءة نِقمتك، وجميع سَخطك.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ، وعلى إخوانه من النبيين، وعلى آل كلٍّ من الصحابة والتابعين.
اللهم أصلح أحوالنا، اللهم اهدِ قلوبنا، اللهم ارزقنا الإيمان، وحبِّبنا إليه، اللهم زيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم للإيمان، ووفِّقهم لما فيه خير العباد والبلاد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في كل البلاد؛ في فلسطين وفي سوريا، وفي بورما وفي غيرها يا رب العالمين.
اللهم ارفع ما نزل بهم من الضر والبلاء، اللهم اكشف كربهم، اللهم سلِّط على مَن تسلَّط عليهم يا قوي يا عزيز.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:181-182].