الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه |
فالسلام من أعظم أسباب التآلف، وهو مفتاح لاستجلاب المودة، والمقصود بإفشاء السلام: نشره والإكثار منه، وأن يكون الإنسان مبادرًا به كل من يَلقى، ولا يَستقلُّ أن يُسلم على أُناس مهما كان عددهم، أو مهما كان صِغرهم في العُمر، أو في غير ذلك، والشريعة جاءت بتنظيم هذا الأمر؛ حتى لا يوجد مماحكات نفسية قد...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: إنه لا أحد أرحم من الخلق بالخلق من سيدهم محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهو رحمة في بَعثته، ورحمة فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام-، كما مدحه ربنا -جل وعلا- في كتابه الكريم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
ولو أن الناس تمثَّلوا توجيهاته، واقتفوا ما أمر به وما دعاهم إليه، لوجدوا خيرًا كثيرًا؛ فهو -عليه الصلاة والسلام- خيرٌ للناس كافة، جاء بالبر والهدى لكل أحد من المسلمين وغير المسلمين -من إنسان وجانٍّ وحيوان، وغير ذلك من الخلائق- فهو -صلى الله عليه وسلم- رحمةٌ للعالمين؛ فكل الخلق نالتْهم آثار بركته ورحمته -عليه الصلاة والسلام- بفضل ربه -جل وعلا- الرحمن الرحيم.
ومن جملة الوصايا العظيمة التي نتوقف وإياكم أمامها متدبرين ممتثلين؛ لعلنا ننال الخير ونَسلك طريق الهدى: وصية كريمة وصَّى بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أول ما وصل إلى المدينة لَمَّا هاجَر إليها، وينقل لنا هذه الوصية عالمٌ جليلٌ وحبرٌ كريم تَمَّم الله فضله بصحبته للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ إنه أبو يوسف عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-، يحدثنا عن ذلك فيما رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم، يقول -رضي الله عنه-: "لَمَّا قدِم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المدينة، انجفل الناس قِبَله، وقيل: قد قدِم رسول الله، قد قدِم رسول الله، قد قدِم رسول الله، فجئتُ في الناس لأنظر، فلما تبيَّنت وجهه، عرَفت أنه ليس بوجه بكاذب، فكان أول شيء سمعته تكلَّم به أن قال: "يا أيها الناس، أفشُوا السلام وأطعِموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام" (هذا الحديث صحَّحه الترمذي والحاكم وغيرهما).
هذا الحَبر اليهودي الذي أكرَمه الله بالإسلام، سمِع الناس يَتنادون، وكان تَنادِيهم: قَدِم رسول الله فرحًا به، ولذلك خرج الجميع، خرج الرجال والصبيان والنساء، وأهل الملل الذين كانوا يَقطنون المدينة.
ولذلك لَمَّا كان اليهود عندهم علم بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، كانوا يتحيَّنون قدومه، لعلمهم أن المدينة النبوية هي مهاجره، ولذلك كان يهوديًّا على أُطُمٍ من آطام المدينة وأسوارها، قد لحَظَ مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما أقبل واقترب من المدينة، ونادى أهلها؛ ليحضروا في استقبال هذا النبي الكريم.
خرج عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- وعندما كان مقدم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أول مدخله إلى المدينة من جهة قباء -ولم يكن حينئذ عبد الله هذا رضي الله عنه- قد أسلم، فهو ما زال على يهوديته، وعنده علم من الكتاب- رأى الوجه الشريف، رأى وجه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقرَّ الإيمان في قلبه قبل أن يَسمَعَ منه، رأى الوجه الكريم، رأى الوجه النضر، وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجه كالقمر ليلة البدر، وجه ينطق بالصدق، وينبئ عن الفضل والشرف والعِظَم، إنه محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ولَمَّا بادَر عبد الله بإسلامه كان له تزكية من الله نزَل بها القرآن كما في قوله -جل وعلا-: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأحقاف: 10].
ثم سمِع منه هذه الوصية التي هي من جوامع كلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي من منهل النبوة، وهي من جملة الأمور الجوامع العِظام الكبار التي يوصي بها الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا-.
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربع وصايا، هي قوام صلاح الفرد والمجتمع، ولا يمكن لمجتمع أن يهنأ دون أن يكون في أهله هذه الخصال الأربع: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وقيام الليل.
أما الوصية الأولى: إفشاء السلام.
فالسلام من أعظم أسباب التآلف، وهو مفتاح لاستجلاب المودة، والمقصود بإفشاء السلام: نشره والإكثار منه، وأن يكون الإنسان مبادرًا به كل من يَلقى، ولا يَستقلُّ أن يُسلم على أُناس مهما كان عددهم، أو مهما كان صِغرهم في العُمر، أو في غير ذلك.
والشريعة جاءت بتنظيم هذا الأمر؛ حتى لا يوجد مماحكات نفسية قد يقود إليها فكرُ بعض الناس؛ فالقاعدة أن الصغير يُسلم على الكبير، والقليل يسلم على الكثير، والواحد يسلم على من أكثر منه، والماشي يسلم على القاعد؛ حتى لا يوجد نوع من التنازع، أنت تبدأ بالسلام، أو أنا أبدأ به، لكن الشريعة حسمت كل ذلك أيضًا. حتى في لحظات الخلاف: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، فالبادئ بالسلام خيرٌ له عند ربه، حتى لو لم يرد عليك من سلَّمت عليه، فإنه يرد عليك مَن هو خير منهم، مَن هو خير من هذا الذي لم يرد عليك السلام.
السلام اسم من أسماء الله -جل وعلا-، والمعنى في ذلك أنَّك تُلقي هذه التحية المضمَّنة الدعاءَ على هذا الذي تَلقاه، ولذلك هي تحية أبينا آدم -عليه السلام-: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فإن كنت قد أتيتَ بها كاملة، كان أعظم لأجرك وأكثر لثوابك عند ربك، وإن اقتصرت على واحدة "السلام عليكم"، كان لك ثوابها، وكان لك فضل المبادرة؛ فقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلَا أَدلكم على شيء إذا فعلتُموه تحاببتُم، أفشُوا السلام بينكم"، فعُلِم بهذا أن السلام هو البوابة الكبرى النضرة الحسنة لقلوب الناس، أن تبدأهم بالسلام.
وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- لشرف أخلاقه وعظيم قدره، يُسلم حتى على الصغار إذا مرَّ بهم، فالمؤمن يبادر بهذه التحية؛ لأنها خير وفضل، وهي من الحقوق فيما بين المسلمين، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "حقُّ المسلم على المسلم سِتٌّ" قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيتَه فسلِّم عليه..." إلى آخر الحديث (رواه مسلم).
وواجب حينئذ أن يرد عليك التحية والسلام، فأنت ابتدأت بالفضل، فأوجب الله على هذا الذي سلَّمت عليه أن يرد عليك السلام؛ كما قال الله -تعالى-: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86].
وإفشاء السلام من أعظم خصال الإسلام؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل: أي الإسلام خير؟ قال: "تُطعم الطعام، وتَقرأ السلام على مَن عرَفت ومَن لم تَعرِف" (رواه البخاري).
فمن كمال إسلامك ومِن معرفتك بحقيقة دينك: أنك تبدأ السلام على كل من قابلت؛ مَن تَعرِف ومَن لم تَعرِف، وهذا يُزيل الوحشة، ويُبعد المرء عن الخصال المذمومة من الكبر والاحتقار ونحوهما، ويُحبب الإنسان في قلوب الناس، فهو تحية مباركة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين" (رواه البخاري في الأدب المفرد).
والسلام زيادة في الأجر والثواب؛ لأن المرء إذا بادر به كان له في هذا الأجر؛ كما في حديث عِمران بن حُصين -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: السلام عليكم، فرد عليه السلام، ثم جلس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عشر"، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، فجلس، فقال: "عشرون"، ثم جاء آخر، وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فجلس، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثون" (رواه الطبراني)؛ فدلَّ ذلك على أن مزيد التحية فيه مزيد الثواب والأجر من الله.
أما الوصية الثانية، فهي: إطعام الطعام: "أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام" الطعام قِوام الإنسان، ولا حياة للإنسان بلا طعام، والمجتمعات تمرُّ عليها أحوال من نقص الغذاء ونقص الطعام، والشريعة فتحت الأبواب على مصراعيها مُرغبةً في إطعام الطعام، بتعظيم الثواب لأهله، وأيضًا بأن جعلت في عدد من الكفارات إطعام المسكين الذي يحتاج إلى الطعام، ثم إنها أيضًا أكدت ما ينبغي من المبادرة به، وخصوصًا في أحوال الحاجات والجوع، ونحو ذلك.
والله -جل وعلا- أثنى على عباده الأخيار؛ فقال -عز من قائل-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9].
والله -جل وعلا- يُثني على هؤلاء الذين هم أهل الجنة -وهم الأخيار- أنهم يطعمون الطعام، وقال: (عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:8]؛ يعني: على حب الله -سبحانه-؛ لأن الدافع لهم هو ابتغاء مرضات الله، وقيل: (عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان: 8]؛ يعني: على حب الطعام، وهذا أظهر كما رجَّحه ابن جرير وغيره؛ يعني أنهم حتى في حال حبِّهم لهذا الطعام، وتعلُّق نفوسِهم به؛ إما لشهوتهم له، وإما لقلة الموارد فإنهم يُبادرون بإطعام الطعام مع شدة حبِّهم له؛ لأنه مأكولٌ، أو لأنه مُتموَّل مُتملَّك، لكن رضا الله مُقدَّم عندهم على ما يُحبونه.
ولذلك لَمَّا حصَل ما حصَل للمسلمين في فترة من الفترات من شدة الحاجة للطعام، وكان سيدنا عثمان -رضي الله عنه- قد جاءت القوافل بطعام له، فجاء التجار يَشترون منه، فكانوا يُزايدون له في الثمن، فيقول: "أعطيتُ أكثر من هذا" فيزيدون، فيقول: "أعطيتُ أكثر من هذا" فيزيدون، ولأنهم تجار ويعلمون أمثالهم ونظراءَهم، علموا أنه لا يمكن أن يزيد بهذه القيمة أحدٌ غيرهم، قالوا: مَن؟! إننا أهل التجارة ولا أحد يستطيع الزيادة على ما زِدنا، قال: "إنَّ الله هو الذي زادني بأن مَن يُنفق، فإن الله يضاعف له أضعافًا كثيرةً".
وأُثِر عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه اشتهى مرة عنبًا في أول موسمه، فأمرتْ زوجته الخادم، فاشترى قِطْفًا من العنب وأحضره للدار، ولَمَّا وصل إذا بأثرٍ وراء هذا الخادم، سائل يسأل ويطرق الباب، السائل عند الباب، فسمِعه ابن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "أعطوه العنب، واستشعر واستحضر قول الله -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:8].
ولا شك أن المجاعات التي تَحُلُّ بكثير من الأقطار، من آثار حلولها بتلك البلاد تقصير إخوانهم من أهل الإسلام، وإلا فإن الطعام والمال في أيدي المسلمين لو بادر به تجارهم لكفاهم، وكفى إخوانهم، وغطى ما يحتاجون، ولكنها الأثرة التي تحمل الإنسان على ألا يُفكر إلا في نفسه، ولذلك كان من دوافع الجشع التي تحث عليها المبادئ الرأسمالية التي لا تعترف بإسلام ولا بإنسانية، أن التجار حينما تفيض المحاصيل عندهم في الحبوب والفواكه، فإنهم يتلفونها في البحار، أو في غير ذلك؛ حتى يحافظوا على الأسعار، مع أنها لو أُنفقت للجياع والمحتاجين، لكان خيرًا كثيرًا، ولم يضر ذلك بما يريدونه من الحفاظ على الأسعار.
والمقصود أن من القواعد الكبرى التي حثَّ عليها سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- -: الحرص على إطعام الطعام، فأنت -يا عبد الله- تحسَّس من حولك، وتلمَّس حاجات جيرانك وأقاربك وإخوانك، فليس كل دار أُغلق بابها، فإن أهلها قد وجَدوا كل ما يحتاجون، فكم من بيت لا يَجدون كثيرًا من الأساسيات، ومن أعظمها الطعام!
ولذلك كان من الموجبات التي أوجب الله بها دخول الجنة: إطعام الطعام؛ كما جاء عن هانئ أنه لَمَّا وفَد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: يا رسول الله أي شيء يوجب الجنة؟ قال: "عليك بحُسن الكلام، وبذل الطعام" (رواه الطبراني).
ولذلك كان كثير من الصحابة والتابعين وسلفنا الصالحين يَحرِصون على ألا يمر يوم إلا وقد تصدَّقوا فيه بالطعام؛ ولو بكعكةٍ، ولو ببصلةٍ، ولو بشيء يسير؛ لأنهم يعلمون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة".
يقول الإمام الخطابي -رحمه الله-: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل أفضل الأعمال إطعام الطعام الذي هو قِوام الأبدان، ثم جعل خير الأقوال في البر والإكرام إفشاء السلام الذي يعم ولا يَخص، ومَن عرَف ومن لم يعرف؛ حتى يكون خالصًا لله بريئًا من حظ النفس والتصنع؛ لأنه شعار الإسلام، فحق كل مسلم فيه شائع".
وتزداد فضيلة إطعام الطعام حينما يُبذل في أوقات الحاجات؛ كما قال الله -تعالى-: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [البلد:14]؛ أي: في وقت الشدة والجوع.
ولذلك كانت كل صور بذل الطعام للآخرين محمودة؛ سواء أكانت للمساكين والفقراء والجياع، أو حتى كانت مبذولة للضيف وللجيران، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم جاره"، والإكرام يكون ببذل الطعام، وبغير ذلك من أنواع الإكرام، ولهذا أكَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- تعاهد الجيران بإكرامهم بالطعام، لا لأنهم محتاجون جياع، ولكنه رمز للحب والوفاء والصلة؛ يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "يا أبا ذر، إذا صنعتَ مَرقةً، فأكثِر ماءَها، وتعاهَد جيرانك"، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "يا معشر المسلمات، لا تَحْقِرَنَّ جارة لجارتها ولو فِرسِنَ شاةٍ"؛ يعني: لا يَحتقر الناس الجيران فيما بينهم هدية الطعام؛ ولو كان شيئًا يسيرًا، فِرسن شاه، وهو موضع الظِّلف من الدابة، لو أنها طُبِخت برغم أنه عَظمٌ أو موضع ليس فيه لحمٌ، لكنه لو طُبِخ على مائِه، فإنه كاف في أن يكون هدية للجيران، لا تَستصغر ولا تستقل: "يا معشر المسلمات، لا تَحقِرنَّ جارة لجارتها".
الوصية الثالثة التي أوصى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- عند مقدمه للمدينة، كما في حديث عبد الله بن سلام هذا، قال: "وصِلوا الأرحام"، والأرحام هو كل مَن يربطك به رحمٌ، أو قرابة من جهة الأب أو الأم، وهذا موضوع حفَل به القرآن وعظَّمه، وأجلَّ أهلَه، وقدَّر مقامَهم، ولذلك حذَّر الله من قطيعة الأرحام، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) [النساء:1]، اتقوا الأرحام أن تقطعوها: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
والله حذَّر قاطعي الأرحام وعدَّ عملهم إفسادًا في الأرض مُستحقين به اللعن؛ فقال: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23]، إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة هذا المعنى.
ولذلك إن الذي يقطع الرحم إنما يبلغ به هذا الأمر ضَعف إيمانه وقلة أخلاقه، وعدم وفائه، فإنه من لم يقم مع رحمه، فحقيق ألا يقوم مع آخرين بخير ولا برٍّ؛ لأن أَولَى الناس بخيرك وبرِّك هم الأرحام الذين ارتبطَت بهم من خلال أبيك أو أمك، ولذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يدخل الجنة قاطع رحمٍ" (رواه البخاري في الأدب المفرد).
وحذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يُصر على قطيعة الرحم، فذكر أن عقوبة الله له عاجلة في الدنيا قبل الآخرة، ففي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من ذنبٍ أجدر أن يُعجِّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا (مع ما يدَّخر له في الآخرة) مثل البغي، وقطيعة الرحم" (رواه أبو داود).
وأكَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- تحمُّل قطيعة الأقارب، وألا يقابلهم الإنسان بقطيعة مثلها، ولا بإساءة مثل إساءتهم، ولكنه يصل لا لأنهم وصلوه، وإنما لأنه يبتغي الثواب من الله، قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعت رحمُه وصلَها" (رواه البخاري).
فحقيقٌ بالمؤمن أن يكون هذا الأمر على بال منه وحضور، وعناية واهتمام؛ لأن المجتمعات التي تَكثُر فيها الصلة بين أرحامها، يَكثُر خيرها وبرُّها وبركاتها، وأما المجتمعات التي تقل فيها الصلة، فتقل البركة فيها، وتقل معايشها، ويزداد فيها غلاء الأسعار، ويكون في أهلها كثير من المشكلات؛ لأن صلة الرحم بركة بين الأهل، حتى إنه جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل الناحية وأهل الحي ليكونون على فقرٍ، فيتواصلون، فيزيد الله في مالهم، ويبارك فيه، وإن أهل الناحية أو الحي ليكونون في ثراء، فيتقاطعون، فتقل بركات مالهم، ويظهر فيهم الفقر.
فما استُجلِب المال وما استُجلِبت بركاته بمثل صلة الأرحام، وما قلَّت بركات الأموال بمثل قطيعتها، وهذا ما يدل عليه ما رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليَصِل رحمه"، يُبسط له في رزقه بصلة الرحم، فهذا باب تُبارَك فيه الأرزاق، وتَكثُر فيه منافعها.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه الوصايا الكريمة العظيمة التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أول ما قدِم إلى المدينة، وهو يؤسس لهذا المجتمع -مجتمع دولة الإسلام التي لم يخرج في الناس مثلها- يؤسس لهم هذه المبادئ الاجتماعية التي فيها قُرب من الله -جل وعلا-: "يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
قد تقدَّم ذكر هذه الخصال الثلاث، وأما الخصلة والوصية الرابعة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وصَلُّوا بالليل والناس نيام"؛ فالصلاة أعظم شغل، وأكثر بركة تفيض على الإنسان، ومن أعظمِها وأشرفها للإنسان قيامُه بالليل والناس نيام، وهذا مما أثنى الله -تعالى- به على عباده المؤمنين في كتابه الكريم؛ إذ قال: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة:16]؛ فقيام الليل ومنه الوتر لا شكَّ أنه عمل صالح محبوب عند الله -جل وعلا-.
ومما يذكره العلماء في هذا الباب: أن قيام الليل لا يوفَّق إليه إلا مَن أحبَّه الله -جل وعلا- أن يقوم الإنسان من نومه، أو أن يكون مستيقظًا في ليله، وخاصة في الثُّلث الأخير، ثم يُهيأ للصلاة ومناجاة الرب -جل وعلا-، فهذا توفيق واصطفاء واختيار من الله، لا يُهيأ له إلا مَن أحبَّه الله -جل وعلا-، وذلك أن هذا الوقت وقت شريف وزمن فاضل عظيم؛ كما جاء في الحديث في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل، فينادي: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، هل من مُستغفر فأغفر له، وذلك كل ليلة حتى يخرج الصبح"؛ فالله -جل وعلا- يوفِّق من شاء من عباده لأن يتعرَّضوا لهذه النفحات الإلهية والأُعطيات الربانية.
ولذلك قرَّر العلماء أنه إذا وُفِّق الإنسان لهذه النعمة العظيمة، فإن الله -تعالى- يكافئه عليها خيرًا وبركات متتابعات في الدنيا؛ تَوطئةً لِما يكون في الآخرة؛ لأن الله قال بعد هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16]؛ يعني: أنهم يقومون ويتركون هذه المضاجع ومواضع نومهم، ويقومون يَصُفُّون أقدامَهم مُصلِّين لله، ثم جعل الله ثوابهم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17].
وقد جاء في الحديث أن قيام الليل شرف المؤمن، فهو أعظم الشرف، أعظم من المال، أعظم من المناصب والرُّتب والمراتب، ومن كل شيء، وهل وجدت -يا عبد الله- شيئًا أعظم من أن تكون بحضرة ربك، تناجيه فيُعظم شأنك، ويَستجيب دعاءك؛ أليس في عرف الناس أن المرء إذا حضر مجلسًا لعِلْيَةِ الناس وكُبرائهم، ممن لهم الشرف الفضل في المجتمع، فإنه يفرح بهذا ويناله الحُبور ويفتخر به؛ فما ظنُّك بمن يكون في حضرة الرب -جل وعلا-، فيدعوه ويناجيه، ويُعظم الله شأنه، ويَقذف في قلبه من الرضا والطمأنينة والخير والبركات، ما لا يوصف.
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص مرةً: "يا عبدالله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"، فمن تركه فرَّط في فوز عظيم وكَنز جليل، لا ينبغي أن يُفرَّطَ فيه، فخُذْ نصيبك -يا عبد الله- ولو أن تُصلي أول الليل، أو إذا قُدِّر لك ونهَضت في آخر الليل، فصليتَ ما شاء الله، فإن هذا فضل عظيم لا ينبغي أن تُفرِّط فيه، خُذ نصيبك من هذا الكنز العظيم الذي عظَّم الله شأنه، وعظَّم رسولُه قدرَه.
وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- فهذه وصايا عظيمة من نبينا -عليه الصلاة والسلام-، بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام، وثواب ذلك تدخلون جنة ربكم بسلام.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بهذا، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم مَن أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا، فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا في بلادنا أمنَنا وإيماننا، واستقرارنا وقيادتنا، ووفِّق ولاة أمورنا لِما تُحبه وترضاه.
اللهم وفِّقهم لما فيه خير الناس في دينهم ودنياهم، وأعِذنا وإياهم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفِر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180-182].