البحث

عبارات مقترحة:

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

الهجرة

العربية

المؤلف محمد راتب النابلسي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. الهجرة في القرآن الكريم .
  2. مقاصد الهجرة وأسرارها .
  3. لماذا الهجرة .
  4. سعة دائرة الهجرة وشموليتها. .

اقتباس

وإذا كان باب الهجرة قد أغلق بين مكة والمدينة بعد الفتح؛ فباب الهجرة من المعصية إلى الطاعة مفتوحٌ على مصاريعه إلى يوم القيامة؛ لابدَّ من التحرُّك، الهجرة تعني التحرُّك، يجب أن أقيم علاقةً مع هذا الأخ المؤمن، ويجب أن أقطع هذا الصديق الفاسق، هذا تحرُّك، يجب أن أجعل من...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلَّم-، رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر، أما بعد:

أيها الأخوة المؤمنون: مرَّت ذكرى الهجرة، وهي الذكرى العزيزة على كل مؤمن، كيف لا وقد جُعِلَت بداية التاريخ الإسلامي، حدث الهجرة من أكبر أحداث الدعوة الإسلامية، وقد جُعِلَت بدايةً للتاريخ الإسلامي، وحُقَّ لها أن تُجْعَل بداية التاريخ لأنها المظهر العملي للإيمان، الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه اللسان، والإيمان، كما قال --عليه الصلاة والسلام--: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقته الأعمال"؛ فالهجرة يا أيها الأخوة المؤمنون مِصْداق الإيمان، المظهر العمليُّ للإيمان، تجسيدٌ للإيمان، ترجمةٌ للإيمان.

أيها المؤمنون: آيةٌ في كتاب الله تتحدَّث عن الهجرة، وتتحدث عن دورها الخطير، يقول الله -عزَّ وجل-: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) [الأنفال: 72]؛ أي؛ أنَّ الإيمان مواقف، الإيمانُ عمل، والدليل أن الله -سبحانه وتعالى- في أكثر من مئتي آية يقول: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [  محمد: 2 ]، والدليل -أيضاً- أن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) [آل عمران: 133-134]، وهناك دليلٌ آخر: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) [الكهف: 110 ].

ولو تتبعت -أيها الأخ الكريم- الآيات الكريمة التي تربط القول بالعمل، وتجعل العمل دليلاً على صحة القول، وتربط السلوك بالإيمان لوجدت هذه الآيات أكثر من أن تُحْصَى، وأعظم من أن تستقصى؛ فالهجرة مظهرٌ عمليٌ للإيمان، هذا النموذج الذي يشيع في هذه الأزمان؛ إنسان يتعاطف مع الإسلام، ولكنه لا يقف في بيته، وفي بيعه، وفي شرائه، وفي علاقته الموقف الإسلامي، متعاطفٌ مع الإسلام بعواطفه، متَفَهمٌ للإسلام بعقله، ولكن عقله وعواطفه في واد وأفعاله ومواقفه في وادٍ آخر.

إن لم يظهر الإسلام في بيتك، في طريقة تعاملك مع أهلك، في مظهر أهلك وبناتك، إن لم يظهر الإسلام في طريقة بيعك وشرائك، في علاقاتك بالآخرين؛ تصل مَن، وتقطع مَن، في ضوء ماذا تقيم علاقة مع زيد وتقطع علاقةً مع عبيد ؟ ما الأساس ؟ المسلم الحق يبني علاقاته كلها على أساس إيمانه، يصل ما أمر الله به أن يوصل، ويقطع ما أمر الله به أن يُقْطَع، ويعطي من أمر الله أن يعطى، ويمنع عمَّن أمر الله أن يمنع، ويقيم علاقةً حميمة مع الذي يرقى بعلمه وحاله، ويبتعد عن الذي يفسد عليه عقيدته وإيمانه.

أيها المؤمنون: ما من مسلمٍ على وجه الأرض؛ إلا ويعلم بالتفاصيل أحداث الهجرة، ولكنني أؤثر في هذه الخطبة الحديث عن العَبَرِ والمواعظ التي تستنبط منها:

العبرة الأولى: أنَّ الهجرة موقفٌ عملي من مواقف الإيمان، والمؤمن الحق ما لم يأخذ هذه المواقف، ما لم يحدِّد علاقاته في ضوء إيمانه، فإيمانه لا يقدِّم ولا يؤخِّر ولا ينفعه، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].

أيها الأخوة: مرَّةً ثانية أتلو على مسامعكم هذه الآية: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) [الأنفال: 72 ]؛ لا شكَّ أن باب الهجرة أُغْلِقَ بين مكَّة والمدينة بعد الفتح، لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا هجرة بعد الفتح" (متفق عليه).

ولكننا إذا أردنا أن نوسِّع معنى الهجرة؛ أي التحرُّك، لابدَّ من أن تقف موقفاً جديداً، في ضَوْء معرفتك الجديدة، لابدَّ من أن تسأل نفسك هذا السؤال: ماذا ينبغي أن أفعل؟ هذا الأعرابي الذي جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: يا رسول الله علِّمني من غرائب العلم؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: فماذا صنعت في أصل العلم ؟ فقال: وما أصل العلم ؟ قال: هل عرفت الرب ؟ بيت القصيد في هذا الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأله: هل عرفت الرب ؟ أجاب هذا السائل: ما شاء الله. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: فماذا صنعت في حقه ؟ هذا سؤال، يجب على كل منا أن يسأل نفسه: ماذا صنعت في حق الله ؟ ماذا فعلت ؟ مَن قطعت ؟ مَن وصلت ؟ ماذا أعطيت ؟ ماذا منعت ؟ على من أقبلت ؟ عمَّن أعرضت في سبيل الله ؟ هل واليت فيَّ ولياً ؟ هل عاديت فيَّ عدواً ؟ هل امتنعت عن هذه النُزهة خشيةً من الله -عزَّ وجل- ؟ هل أقبلت على هذا العمل ولا مصلحة لك به إطلاقاً إلا أنه يرضي الله -عزَّ وجل-؟ هل حضرت مجالس العلم ؟ هل حافظت على حضورها ؟ هل كنت في مستوى هذا الكِتاب الكريم أم هناك بَوْنٌ شاسعٌ بينك وبينه؟.

أيها الأخوة: أحداث الهجرة وقعت وانصرمت، وبقيت الدلائل والعِبَر، بقيت الدروس المُحْكَمَة؛ فمن ذلك:

الدرس الأول من دروس الهجرة: إنها موقفٌ عمليّ، وما لم تقف موقفاً عملياً بدءاً من علاقاتك الخاصَّة جداً؛ بدءاً من علاقاتك بأهلك، بدءاً من علاقاتك بأولادك، من علاقاتك بجيرانك، من طريقة خروج زوجتك وبناتك في الطريق، ما لم تقف الموقف الإسلامي في طريقة البيع والشراء، في نوع الكلام، نوع العلاقة، ما لم تبنِ حركتك في الدنيا، ونشاطك في الدنيا، وسعيك في الدنيا على أسسٍ إسلاميةٍ صحيحة، فهذا الموقف النظري، والتعاطف الفكري، والمشاركة الوجدانية مع الإسلام لا تقدِّم ولا تؤخِّر، ولا تنفع ولا ترفع.

أيها الأخوة: أعداد المسلمين فوق الحَصْر، إنهم يزيدون عن ألف مليون، ولكن المواقف العملية التي ينبغي أن يقفوها قليلاً ما يقفوها، فلذلك ليست كلمتهم هي العليا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 38-40]؛ فالمؤمن ينْفِرُ في سبيل الله، يُشَمِّر لأن الأمر جِد، يتأهَّب لأن السفر قريب، يضع ماله، ووقته، وخبرته، وعلمه، وعضلاته، ووقته في سبيل الله، لأن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، دار ابتلاء، منزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إيَّاك والتنعُّم فإنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين".

أيها المؤمنون: عودةٌ إلى الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) [الأنفال:72 ]؛ وبما أن باب الهجرة من مكة إلى المدينة أُغْلِقَ بعد الفتح؛ فالهجرة بمعناها الواسع تحرُّكٌ من المعصية إلى الطاعة، تحركٌ من الجهل إلى العِلْم، تحركٌ من الضياع إلى الوجدان، تحركٌ من المخالفة إلى الالتزام، تحركٌ من حظوظ النفس إلى معرفة الحق، لابدَّ من التحرُّك، لابدَّ من أن تقف الموقف الصحيح، لابدَّ من أن يظهر الإسلام في بيتك، وفي حديثك، وفي نزهتك، وفي عملك، وفي تجارتك، وفي جدِّك، وفي لهوك، وفي حِلِّك، وفي ترحالك، لابدَّ من أن يظهر المسلم ظهوراً صارخاً، وإلا إذا كان هناك تعاطفٌ بالقلب، ومشاركةٌ في العقل، والسلوك كسلوك عامَّة الناس الجهلة، فأين هو الإسلام ؟!

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها الأخوة: توسيعٌ لمعاني الهجرة، يقول -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه عن ربه: "عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ "، وهذا المعنى الواسع أكده النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (البخاري).

وإذا كان باب الهجرة قد أغلق بين مكة والمدينة بعد الفتح، فباب الهجرة من المعصية إلى الطاعة مفتوحٌ على مصاريعه إلى يوم القيامة؛ لابدَّ من التحرُّك، الهجرة تعني التحرُّك، يجب أن أقيم علاقةً مع هذا الأخ المؤمن، ويجب أن أقطع هذا الصديق الفاسق، هذا تحرُّك، يجب أن أجعل من الإسلام منهجاً في بيتي، هذا تحرُّك، يجب أن أحمل زوجتي وبناتي على طاعة الله ورسوله، في خروجهنَّ من البيت، هذا تحرك، لابدَّ من موقفٍ عملي، لابدَّ من تحركٍ نحو ما يرضي الله -عزَّ وجل-، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف: 110].

أيها الأخ الكريم: تأمَّل في اليوم لبضع دقائق، ماذا ينبغي أن أفعل ؟ ما المخالفات التي أنا واقعٌ فيها ؟ ما المعاصي التي أنا متلبسٌ فيها ؟ ما التقصيرات التي ينبغي أن أتجاوزها ؟ دقق، تأمَّل، ابحث، اسأل نفسك هذا السؤال، لابدَّ من خلوةٍ مع الله كل يوم، لابدَّ من محاسبةٍ للنفس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، لابدَّ من تقييمٍ للعمل، لابدَّ من ضبطٍ للوقت، لابدَّ من تخطيطٍ للمستقبل، لابدَّ من أن تصل إلى درجةٍ دُنيا من المعرفة بالله -عزَّ وجل-.

أيها الأخوة: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.