الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
وهذا الخليفة الصالح الراشد الذي كانت تستحي منه ملائكة الرحمن عثمان بن عفان, كان يختم القرام في كل ليلة من ليالي رمضان, ومن مأثور قوله -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم"، وودع دنياه قتيلاً وسقط مضرجاً بدمائه والقرآن بين يديه. وهذا الأسود بن يزيد النخعي أحد أئمة التابعين كان يختم القرآن في كل ليلتين...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِسَنَدِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَالَ: "كَانَ لِلْمَأْمُونِ -وَهُوَ أَمِيرٌ إِذْ ذَاكَ- مَجْلِسُ نَظَرٍ، فَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ حَسَنُ الثَّوْبِ، حَسَنُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ. قَالَ: فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: إِسْرَائِيلِيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ حَتَّى أَفْعَلَ بِكَ وَأَصْنَعَ، وَوَعَدَهُ. فَقَالَ: دِينِي وَدِينُ آبَائِي، ثُمَّ انْصَرَفَ الْيَهُودِيُّ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ. فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ صَاحِبَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمْتَحِنَ هَذِهِ الْأَدْيَانَ، وَأَنَا مَعَ مَا تَرَانِي حَسَنُ الْخَطِّ، فَعَمِدْتُ إِلَى التَّوْرَاةِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْكَنِيسَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي. وَعَمِدْتُ إِلَى الْإِنْجِيلِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْبِيعَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي.
وَعَمِدْتُ إِلَى الْقُرْآنِ فَعَمِلْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، وَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا إِلَى الْوَرَّاقِينَ فَتَصَفَّحُوهَا، فَلَمَّا أَنْ وَجَدُوا فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ رَمَوْا بِهَا فَلَمْ يَشْتَرُوهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كِتَابٌ مَحْفُوظٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبَ إِسْلَامِي.
إِنَّهَا الْعَظَمَةُ الَّتِي أَبْقَاهَا الرَّحْمَنُ حُجَّةً بَاقِيَةً مَا بَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَدَعُونَا نَتَحَدَّثْ عَنْ عَظَمَةِ هَذَا الْقُرْآنِ، عَنْ عَظَمَةِ مَنْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةً تَحَدَّى بِهَا الثَّقَلَيْنِ، فَأَذْعَنَ لِفَصَاحَتِهِ الْبُلَغَاءُ، وَانْبَهَرَ بِأَسْرَارِهِ الْعُلَمَاءُ, عَنِ عَظَمَةِ هَذَا السِّفْرِ الَّذِي أَلَانَ بِهِ قُلُوبًا قَاسِيَةً، وَهَدَى بِهِ نُفُوسًا تَائِهَةً (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].
إِنَّهُ الْقُرْآنُ، أَبْهَرَ النَّاسَ بِإِعْجَازِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَرَاعَةِ إِيجَازِهِ، فَدَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ, وَتَأَثَّرَتْ بِهِ النُّفُوسُ, وَخَضَعَتْ لَهُ الْمَشَاعِرُ, وَانْقَادَتْ لِسَمَاعِهِ الْأَسْمَاعُ.
هَذَا ابْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَصْمًا عَنِيدًا، وَعَدُوًّا لَدُودًا لِلْإِسْلَامِ وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى قِيلَ: "لَوْ أَسْلَمَ حِمَارُ آلِ الْخَطَّابِ مَا أَسْلَمَ عُمَرُ" فَمَا الَّذِي غَيَّرَهُ؟ وَمَنِ الَّذِي حَوَّلَهُ مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ؟!
إِنَّهُ الْقُرْآنُ الَّذِي قَرَأَ مِنْهُ عُمَرُ قَوْلَ الْحَقِّ: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه: 1 - 8].
فَانْدَهَشَ عُمَرُ لِهَذِهِ الْقَوَارِعِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ, فَتَأَثَّرَ عُمَرُ، وَرَقَّ قَلْبُهُ، وَلَانَ صَدْرُهُ, حَتَّى عُرِفَ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ فِي وَجْهِهِ, ثُمَّ أَعْلَنَ بَعْدَهَا إِسْلَامَهُ.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: مَا أَجْمَلَ الْحَدِيثَ عَنِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ! وَلَكِنَّ أَجْمَلَهَا أَنْ نَتَذَاكَرَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ الْقُرْآنِ، هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي زَادَهُ الرَّحْمَنُ تَشْرِيفًا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] وَصَفَ اللَّهُ الْعَظِيمُ كِتَابَهُ الْعَظِيمَ بِأَوْصَافٍ عَالِيَهٍ سَامِقَةٍ، فَهُوَ كِتَابٌ عَظِيمٌ، حَكِيمٌ, مُبَارَكٌ، مُبِينٌ، نُورٌ وَهُدًى، شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
هُوَ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِدَاءُ الْقَانِتِينَ، مَا طَابَتِ الْحَيَاةُ إِلَّا مَعَهُ, وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123].
أَنْزَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَتَحَدَّى بِهِ الثَّقَلَيْنِ, فَأَذْعَنَ لِفَصَاحَتِهِ الْبُلَغَاءُ، وَانْقَادَ لِحِكْمَتِهِ الْعُقَلَاءُ، وَانْبَهَرَ بِأَسْرَارِهِ الْعُلَمَاءُ، جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا، وَإِلَى النُّورِ يَهْدِي وَيُرْشِدُ.
مَنْ رَامَ السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ فَلْيَلْزَمْ مَا بَيْنَ دَفَّتَيْهِ، وَلْيَجْعَلْهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَلْيَتَّخِذْهُ رَفِيقَهُ وَجَلِيسَهُ. قَدْ جَاوَزَتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ فَضْلٍ، وَحَازَ أَهْلُهُ أَعْلَى نُزُلٍ، فَخَيْرُ النَّاسِ فِي دُنْيَا النَّاسِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
تِلَاوَتُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَلَا تَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ, وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ".
حَازَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ مَنْ قَرَأَ حُرُوفَهُ وَكَلِمَاتِهِ، فَكَيْفَ بِسُوَرِهِ وَأَجْزَائِهِ؟! "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ".
هَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يَأْتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ, اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا. اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ".
شَرَفٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرِفْعَةٌ وَكَرَامَةٌ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]. وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ".
أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اغْتِبَاطًا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ: "يُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا".
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: لَقَدْ عَرَفَ عَظَمَةَ فَضَائِلِ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَجَّتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ, وَرَقَّتْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَاقْشَعَرَّتْ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ جُلُودُهُمْ.
نَعَمْ، لَقَدْ قَرَؤُوا حُرُوفَهُ، وَأَقَامُوا حُدُودَهُ، وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ، وَتَفَكَّرُوا فِي عَجَائِبِهِ، وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمَنُوا بِمُتَشَابَهِهِ، فَأَصْبَحُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَسِيرُ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَهُوَ يَحْمِلُ أَخْلَاقَ الْقُرْآنِ، وَآدَابَ الْقُرْآنِ, وَمَبَادِئَ الْقُرْآنِ, فَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا بِبَرَكَةِ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي هَذَّبَ أَهْلَهُ، وَزَكَّى نُفُوسَهُمْ، وَقَوَّمَ سُلُوكَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ أُسْوَةً وَمَثَلًا بَاقِيًا.
أَمَّا أَخْبَارُهُمْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ فَشَيْءٌ لَا تُطِيقُهُ هِمَمُ أَبْنَاءِ الْيَوْمِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.
كَانَ لَهُمْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ شَأْنٌ، وَأَيُّ شَأْنٍ؟! فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نُعَطِّرَ أَسْمَاعَنَا بِمِثْلِ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْمُشْرِقَةِ وَالصُّوَرِ الْمُبْهِجَةِ! لَعَلَّ الْهِمَمَ تَسْتَيْقِظُ مِنْ سُبَاتِهَا، وَحَتَّى لَا يَسْتَكْثِرَ أَحَدٌ مِنَّا طَاعَتَهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى طَاعَةِ الْقَوْمِ وَعِبَادَاتِهِمْ.
فَهَذَا قُدْوَتُنَا وَحَبِيبُنَا رَسُولُ الْبَشَرِيَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَهَّاجًا بِالْقُرْآنِ، قَوَّامًا بِهِ بِالْأَسْحَارِ، حَتَّى تَفَطَّرَتْ مِنْ طُولِ قِيَامِهِ قَدَمَاهُ. يَصِفُ لَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ طُولَ قِيَامِهِ فِي رَمَضَانَ فَيَقُولُ: "قُمْتُ مَعَهُ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، ثُمَّ النِّسَاءَ، ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ".
لَمَّا أَتَتْكَ (قُمِ اللَّيْلَ) اسْتَجَبْتَ لَهَا | الْعَيْنُ تَغْفُو وَأَمَّا الْقَلْبُ لَمْ يَنَمْ |
تُمْسِي تُنَاجِي الَّذِي أَوْلَاكَ نِعْمَتَهُ | حَتَّى تَغَلْغَلَتِ الْأَوْرَامُ فِي الْقَدَمْ |
اللَّيْلُ تَسْهَرُهُ بِالْوَحْيِ تَعْمُرُهُ | وَشَيَّبَتْكَ بِهُودٍ آيَةُ (اسْتَقِمْ) |
كَانَ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ مَزِيدُ اعْتِنَاءٍ وَاهْتِمَامٍ, فَكَانَ لَهُ مَوْعِدٌ مَعَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي رَمَضَانَ، يُدَارِسُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ, وَفِي آخِرِ عَامٍ مِنْ حَيَاتِهِ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ.
وَهَذَا الْخَلِيفَةُ الصَّالِحُ الرَّاشِدُ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ, كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ, وَمِنْ مَأْثُورِ قَوْلِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعْتُمْ مِنْ كَلَامِ رَبِّكُمْ" وَوَدَّعَ دُنْيَاهُ قَتِيلًا، وَسَقَطَ مُضَرَّجًا بِدِمَائِهِ وَالْقُرْآنُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَهَذَا الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْعَلَمُ الْهُمَامُ الْبَصْرِيُّ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ, فَكَانَ فِي عَامِهِ كُلِّهِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ خَتَمَهُ كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ خَتَمَهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ.
وَهَذَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الزَّاهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ, كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَيَخْتِمُهُ كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ خَتْمَةً أُخْرَى, فَكَانَ يَصْفُو لَهُ أَرْبَعُونَ خَتْمَةً خِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ.
أَمَّا الْإِمَامُ الْعَبْقَرِيُّ الْفَيْلَسُوفُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ, فَقَدْ بَلَغَ مَا يَخْتِمُهُ فِي رَمَضَانَ مَبْلَغًا يَعِزُّ نَظِيرُهُ فِي الدُّنْيَا, كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ سِتِّينَ خَتْمَةً، خَتْمَةً فِي النَّهَارِ وَخَتْمَةً فِي اللَّيْلِ.
أَمَّا حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ إِمَامٌ مَشْهُودٌ لَهُ بِالتُّقَى وَالْعِبَادَةِ, يَقُولُ: "نَظَرْتُ بِالْمُصْحَفِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرِي".
وَهَذَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ، حَضَرَتْهُ مَنِيَّتُهُ فَبَكَتْ عَلَى رَأْسِهِ بُنَيَّتُهُ, فَقَالَ: "لَا تَبْكِ، فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ".
تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- أَخْبَارُ الْقَوْمِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ، وَشَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ:
اللَّهُ يَشْهَدُ مَا قَلَّبْتُ سِيرَتَهُمْ | يَوْمًا وَأَخْطَأَ دَمْعُ الْعَيْنِ مَجْرَاهُ |
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29، 30].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: هَا هُوَ شَهْرُكُمْ قَدْ تَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ, فَسَارِعُوا وَسَابِقُوا إِلَى اغْتِنَامِ مَا بَقِيَ مِنْ لَيَالِيهِ وَاسْتِدْرَاكِ نَفَحَاتِهِ وَخَيْرَاتِهِ.
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُحْسِنًا فَيَزْدَدْ إِحْسَانًا, وَمَنْ كَانَ غَافِلًا مُقَصِّرًا فَلْيُقْصِرْ. وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قَالَهَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: نُفُوسُنَا إِذَا لَمْ تُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْقُرْآنِ فِي شَهْرِ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ حَرِيَّةٌ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ, وَإِنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي لَا تُحَرِّكُهَا مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ وَوَعْدُ الرَّحْمَنِ حَرِيَّةٌ أَنْ تَقِفَ مَعَ ذَاتِهَا وَقْفَةَ تَقْرِيعٍ وَمُعَاتَبَةٍ.
يَا أُمَّةَ الْقُرْآنِ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ دَائِمًا أَنْ نُذَكِّرَ أَنْفُسَنَا بِمَدَى صِلَتِنَا بِالْقُرْآنِ! كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَلِيًّا أَنْ نَعْرِضَ أَعْمَالَنَا عَلَى هِدَايَاتِ الْقُرْآنِ! هَلَّا سَأَلْنَا أَنْفُسَنَا عَنْ أَثَرِ الْقُرْآنِ فِي أَخْلَاقِنَا وَتَعَامُلَاتِنَا، وَصَلَاحِنَا وَخَشْيَتِنَا (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21]؟!
هَلَّا سَأَلْنَا أَنْفُسَنَا عَنِ أَثَرِ الْقُرْآنِ فِي تَعْظِيمِنَا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ, وَوُقُوفِنَا عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ؟!
فَيَا مَنْ قَصَّرَ مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ - وَكُلُّنَا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ- الْبِدَارَ الْبِدَارَ فِي التِّجَارَةِ مَعَ الْقُرْآنِ! لِنَجْعَلْ هَذِهِ الْأَيَّامَ نُقْطَةَ انْطِلَاقٍ مَعَ الْقُرْآنِ, وَبِدَايَةَ الْمُصَالَحَةِ مَعَ الْهُجْرَانِ. لِنَأْخُذْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ يَكُونَ لَنَا وِرْدٌ يَوْمِيٌّ مَعَ كَلَامِ رَبِّنَا, وَلْنَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ أَسَاسِيَّاتِ يَوْمِنَا وَأَوَائِلِ اهْتِمَامِنَا, مَعَ التَّوَاصِي عَلَى تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَقَالِ وَالْعِلْمِ وَالْحَالِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْمَالِ الْحَلَالِ، فَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ, وَفِي نُصُوصِ السُّنَّةِ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا" وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: 2].
يَا أُمَّةَ الْقُرْآنِ: هَذَا شَهْرُ الْقُرْآنِ، فَاسْتَنْهِضُوا الْهِمَمَ لِلْقُرْآنِ، وَحَرِّكُوا الْقُلُوبَ لِلْقُرْآنِ, فَذَاكَ كَسْبٌ عَظِيمٌ، وَنَفْحَةٌ مُبَارَكَةٌ مِنْ رَبٍّ كَرِيمٍ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ, وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...