الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | وليد بن سالم الشعبان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أَصْلُ البَرَكةِ؛ النَّماءُ والزِّيَادةُ, وكَثرَةُ الخيرِ ودوامُهُ؛ فالبركةُ ما كَانتْ في صَغيرٍ إلا كبَّرَتْهُ، ولا في قَليلٍ إلاَّ كثَّرَتْهُ، ولا في كَثيرٍ إلا نَفَعَتْهُ وأبْقَتْهُ؛ لا غِنَى لأَحَدٍ عن بَركةِ اللهِ، حتَّى الأنبياءُ والرسلُ يَطْلُبُونَها مِن خَالقِهِمْ؛ فهَذا نبيُّ اللهِ أيُّوبُ يُقْسِمُ ويَقولُ: "وعِزَّتِكَ، لا غِنى بي عَن...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له ومن يضلل الله؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله وصفيّه وخليله وأمينه على وحيه ومبلِّغ الناس شرعه؛ -فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين-، أما بعد:
فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فهي العُدَّةُ في الشدائد، والعونُ في المُلِمَّات، وبها صلاح الأفراد والدول والأمم، وبها تكثر الخيرات وتستجلب البركات، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: في دعواتنا عبارةٌ تستحقُّ منّا التأمُّلَ، وفي مناسباتنا ومراسلاتنا كلمةٌ تستحقُّ منّا التدبّر، بل نحن نُردِّدُها كل يومٍ بيننا، وفي صلواتنا، إنها الدعاءُ بالبركة؛ يلقَى المُسلمُ أخاه؛ فيقول له: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته؛ فهل تأمَّلنا معنى الدعاء بالبركة؟ وفي صلاتنا ندعُو: "وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على إبراهيم" وفي دُعاء الوتر: "وبارِك لي فيما أعطيتَ"، ونقول للزوجَين: "باركَ الله لكما، وباركَ عليكما"؛ فما حقيقةُ هذه البركات؟؟
عباد الله: أصلُ البركة؛ النَّماءُ والزيادةُ وكثرةُ الخير والدوامُ؛ فالبركةُ ما كانت في صغيرٍ إلا كبّرته، ولا في قليلٍ إلاَّ كثَّرته، ولا في كثير إلا نفَعَته و أبقته؛ والبركةُ كلُّها من الله، فإن الربَّ -تعالى- هو الذي تباركَ وحدَه، ولا يُقال: تبارك في حقِّ أحدٍ غير الله -سبحانه وتعالى-، ولا غِنَى لأحدٍ عن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقِهم، فهذا نبي الله أيّوبُ يقسم ويقول: وعزّتِك، لا غِنى بي عن بركتك.
أيها المسلمون: البركةُ هِبةٌ من الله -تعالى-، لا تُقاس بالأسباب الماديَّة ولا بالعمليات الحسابية؛ فإن الله إذا باركَ في العُمر: أطالَه على طاعته ونفع بآثار عمله، وأصبحت أعوامه كمئات السنين؛ وإذا باركَ الله في الصحةَ حفِظَها لصاحبِها ومتّعه بقواه كلها؛ وإذا باركَ الله في المال نمَّاه وكثَّرَه، وأصلحَه وثمَّره، ووفَّق صاحبَه لصرفه في أمور الخير وأبواب الطاعات من أوقاف وصدقات؛ وإذا باركَ الله في الأولاد: رزقَ أباهم بِرَّهم ودعاءهم، وأذاقَه نفعهم وزينتهم؛ وإذا باركَ الله في الزوجة: أقرَّ بها عينَ زوجها، إن نظرَ إليها سرَّتْه، وإن غابَ عنها حفِظَتْه؛ وإذا باركَ الله في علم الرجل: قاده للعمل والخشية، وانتفع به أهله وكل من خالطه، فأهل العلم باقون ما بقي الدهر, أعيانهم مفقودة, وآثارهم في القلوب موجودة، وأجورهم جارية مسطورة:
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم | وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ |
كم رأى الناسُ من بركة الله في الأشياء والأوقات، والأقوال والأعمال والأشخاص: الشيء العجيب والغريب!! بل وكانت البركةُ من قبلُ واضحة في حياة الناس؛ فقد كان يكفِيهم القليلُ، ويغنيهم رِزقُ كل يومٍ بيومِه، ويُؤوِي البيتُ الواحدُ جمعًا من الأُسَر والأفراد، وطعامُ الواحدِ يَكفِي الاثنين، وكانت تعلُوهم والقناعة والسعادة؛ فيا للعجب: ما بالُ الناس اليوم؟! ضاقَت أرزاقُهم وضاقَت نفوسُهم!! قصُرَت أوقاتُهم وقصُرَت هِمَمُهم!!
لقد فُتِح على الناس من أسباب الرَّخاءِ ما لم يُفتَح على أحدٍ قبلَهم، وتفجَّرَت كنوزُ الأرض، وتوافَرَت الأموالُ والتجارات، وتعدَّدت المُخترعات والصناعات؛ فهل ازدادَ الناسُ إلا فقرًا، وهل كسَبوا إلا شِقوةً وقهرًا ؟! فمن أين الخلل؟!
غلَبَ على العالَم الشكوَى من الفقر وضيقِ العيش، وشُحِّ الوقت، وتدهور الصحة، والخوف من المُستقبَل - مع توافُر كلِّ أسباب الرَّخاءِ؛ فمن أين الخلل؟! إنه -واللهِ- محقُ البركة ونقصها.
نعم -يا عباد الله-؛ فَقْدُ البركة خلل ومصيبة سببها أفعالنا، وبلية سببها معاصينا - وصدقَ الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، وقال: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليست السَّنةُ بألا تُمطَروا، ولكنَّ السَّنةَ أن تُمطَروا وتُمطَروا ثم لا يُبارَكُ لكم فيه" (رواه مسلم).
نعم -يا عباد الله- الذنوبُ والمعاصي تمحَقُ البركةَ أقصد ذنبي وذنبك وإياك أن تعلق ذلك بذنب غيرك فهذا هو عين المخادعة، فهي تُنغِّصُ العيشَ، وتُضيِّقُ الأرزاق، قال الله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
بل إن من آثار الذنوبِ وعواقب المعاصِي ما لا يخطُر على بالٍ، وما لا يحسب على خيال؛ فهي تمحق بركة العمر وبركة الرزق، وتمحق بركة العلم وبركة العمل، وتمحق بركة الطاعة وبركة الصحة، وهي سبب لهوان العبد على الله وسقوطه من عينه، وعدم نصرته ولا الدفاع عنه، وتسبب الرعب والخوف في قلب العاصي، وتسلط الأعداء عليه - وبالجملةِ فالمعصيةُ تمحق بركةَ الدين والدنيا والآخرة.
فاللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك.
اللهم وفقّهنا في دينك وزدنا من فضلك وبركتك؛ أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، تباركَ في ذاته وباركَ من شاءَ من خلقه، ولا يُوفِي قدرَه بشرٌ، ولا ينفكُّ مخلوقٌ عما قدّر، هو الأول؛ فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر؛ فليس فوقه شيء، وهو الباطن؛ فليس دونه شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً- إلى يوم لقائه، أما بعد:
عباد الله: فإنه ينبغي للمسـلم أن يسعى جاهداً في الأسباب التي ينال بها بركة العُمر والعلم والعمل، وبركة المال والولد والأهل؛ فيصبح بذلك سعيداً ومسعداً، صالحاً ومصلحاً، حياً وميْتاً.
فمن الأسباب الشرعية الجالبة للبركة:
أولاً؛ تقوى الله في السر والعلن؛ فبعض الناس يتقي الله في العلن وإذا خلا بمحارم الله انتهكها؛ فبالتقوى -يا عبدالله- يبارك لك وتفتح أبواب الخيرات والبركات، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
ثانياً: تعلّم القرآن وتدبره، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)؛ فكلام ربنا بركة علينا، ورحمة بنا، وشفاءً وعلماً وهُدى لنا.
ثالثاً: ومن أسباب حصول البركة؛ اتباع السُنة في كل شيء، في الملبس والمأكل والمدخل والمخرج؛ فسُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تجعل العبد مباركاً أينما كان.
رابعاً: الدعاء؛ فإنه ينبغي للمسلم أن يُكثر من الدعاء بالبركة في ماله ووقته وزوجته وأولاده وسائر شؤونه؛ وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يسأل الله تعالى البركة لنفسه ولأصحابه: "اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ".
خامساً: ومن أسباب حصول البركة؛ صلة الرحم وزيارة الأقارب، فهي توسِّع في الأرزاق، وتزيد في الأعمار، وتبارك في الأوقات؛ يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-:"مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رِزقه وينسَأ له أثره فليصِل رحمه" (رواه البخاري)، وما يُدريك أيها الشاكي من قلة البركة في عُمره ووقته ورزقه أن ذلك بسبب قطيعتك لأرحامك وجفوتك؛ فإن من قطع رَحِمَه قطعه الله، ومن وصلها وصله الله.
سادساً: ومن أسباب حصول البركة؛ الصدق في المعاملة من بيع وشراء وتجارة وشراكة، جاء في الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا".
سادساً: ومن أسباب حصول البركة؛ التبكير بالأعمـال والتجـارات وطلب العلم وغير ذلك وقضـاؤها أول النهار، قال -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" (رواه أحمد، وصححه الألباني).
و-أيضاً- من الأسباب الشرعية الجالبة للبركة وهي كثيرة؛ إنفاق المال وإخراج الزكاة، وأخذ المال بسخاوة نفس من غير شره ولا إلحاح في المسألة، والرضى والقناعة بما قسم الله، وصلاة الاستخارة، كل هذه من أسباب البركة في العُمر والعلم، والمال والأهل.
اللهمَّ يا حيُّ يا قيومُ يا ذَا الجلالِ والإكرامِ، إنَّا نسألك بأنك أنتَ الله لا إله إلا أنتَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
اللهمَّ اكتبْ لنا مِن البركةِ والتوفيقِ أَوفرَ الحظِّ وأتمَّ النصيبِ، اللهمَّ بارِكْ لنا في أعمارِنا، وباركْ لنا في أعمالِنا، اللهمَّ وباركْ لنا في أزواجِنا وذرياتِنا، اللهم باركْ لنا في أموالِنا وفي أوقاتِنا.
اللهم وباركْ لنا في صِحتِنَا وعافيتِنا، واجعلْنَا مبارَكِينَ أينما كنَّا. اللَّهُمَ قَنِّعْنِا بِمَا رَزَقْتَنَا، وَبَارِكْ لنا فِيهِ، اللهم مَتِّعْنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقُوَّتِنا ما أَحييتَنَا، اللهم أصلحْ قلوبَنَا وأعمالَنَا وأحوالَنَا، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ ارفعِ البلاءَ عن المستضعفينَ مِن المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ احقِنْ دِماءَ المسلمينَ، واحفظْ عليهِم دينَهُم وأَمنَهُم وأعرَاضَهُم وأمَوالَهُم يا ربَّ العالمينَ، اللهم اكْفِنَا والمسلمينَ شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجارِ.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِهِ أجمعينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.