الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
في سيرته آيات للسائلين، ومعالم للمهتدين، وأنوار للسالكين! في سيرته النور مضيء! والحق شامخ! والهدى واضح! والتوحيد عالٍ وصامد! لن تجدوا سيرةً ضربت أطنابها أقاصي الأرض، وشعشَع نورُها أباعدَ الكون، وبقي ذكرها وصداها منتهى الآباد سوى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله وحده، نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، والصلاة والسلام على رسوله القائل: "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده, وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري".
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد بعث الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- على حين فترة من الرسل، فشرح به الصدور، وأنار به القلوب، وهدى به من الضلالة، وجمع به من الشتات، ووحّد به من الفرقة، فكان بعثته عليه الصلاة والسلام حياة ورحمة, وهداية للخلق أجمعين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
وكان منارة الحق والنور والضياء، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأبان لهم سبل النجاة، وسبل الهلاك، ومن يردها من المؤمنين والكافرين: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة: 15]، وقال تعالى: (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) [الأحزاب: 46].
وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم كدعوات من سبقه من الأنبياء والمرسلين، متفقة في أصل الدعوة وأساسها: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59 ]، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].
وأيده ربه -سبحانه وتعالى- بالآيات البينات، والبراهين الواضحات، لكي يدحض شبه المجرمين، ويبطل حيل الكافرين والمبطلين، بل كانت جميع أحواله عليه الصلاة والسلام من أعلام نبوته وصدقه، وجلالته وكماله.
فسيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته، وشريعته من آياته، وأمته من آياته، ودينهم من آياته وكرامات صالحي أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حيث ولد وبعث إلى أن مات واختار الرفيق الأعلى -عليه الصلاة والسلام-؛ فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسباً، من صميم سلالة إبراهيم -عليه السلام- الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفاً بالصدق والبر ومكارم الأخلاق، والعدل، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم.
مشهود له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يعرف له شيء يُعاب به في أقواله، ولا أفعاله ولا في أخلاقه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم خلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أمياً من قوم أميين، لا يعرف هو ولا هم، ما يعرفه أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئاً من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدعِ نبوة، إلى أن أكمل الله له أربعين سنة.
فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره, وأخبر بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.
ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرئاسة وعاندوه، وسعوا في هلاكه وهلاك أتباعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه.
وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون، لا يرتدون عن دينهم، لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.
وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم -عليه السلام-، فتجتمع في الموسم، قبائل العرب فيخرج إليهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابراً محتسباً على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي، وإعراض المعرض إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود وقد سمعوا أخباره منهم وعرفوه.
فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر، والذي أخبرهم به اليهود ويهددونهم به، وكانوا سمعوا من أخباره، أيضاً ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار ثم حسن إسلام بعضهم.
ثم أُذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائماً بأمر الله -تعالى- على أكمل طريقة وأتمها، من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر لأحد.
بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال من حرب وسلم، وأمن وخوف، وقدرة وعجز وتمكن وضعف وقلة وكثرة، وظهور على العدو تارة، وظهور العدو تارة، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها.
حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة بعبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطعية الأرحام، لا يعرفون آخره ولا معادا فصاروا بعد إيمانهم بدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا : "ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء"، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم، تعرف العقلاء الفرق ما بين الأمرين.
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات ولم يخلف صلى الله عليه وسلم درهماً ولا ديناراً، ولا شاة ولا بعيراً، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير، ابتاعها لأهله وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئاً من ذلك.
وهو في كل وقت وحين يُظهر عجائب الآيات، وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث حتى أكمل الله دينه الذي بعثه به، وجاءت شريعته أكمل شريعة.
لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه وجمع محاسن ما عليه الأمم.
وكانت أمته أكمل الأمم في كل فضيلة، علماً وعملاً وديناً ونبلاً، وخلقاً وشجاعة وكرماً وجهاداً وكل مكرمة حازوها، فإنما كانت بسببه صلى الله عليه وسلم ومنه تعلموها وأخذوها.
فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن أتباعه.
اللهم اجزه خير الجزاء، وبلغه الوسيلة في دار البقاء، واجمعنا به وسائر المسلمين في جنات النعيم، قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً) [النساء: 69 - 70 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين , والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول الحق والهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان: إن سيرة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- سيرة عطرة مباركة، وحياته حياة حية عامرة، في سيرته آيات للسائلين، ومعالم للمهتدين، وأنوار للسالكين! في سيرته النور مضيء, والحق شامخ، والهدى واضح، والتوحيد عالٍ وصامد، لن تجدوا سيرةً ضربت أطنابها أقاصي الأرض، وشعشَع نورُها أباعدَ الكون، وبقي ذكرها وصداها منتهى الآباد سوى سيرته عليه الصلاة والسلام.
سيرته مثال للعلماء والمصلحين، وطريق رشيد للدعاة والمنقذين، وعظة وسلوى للمبتلين.
إنكم تلحظون في سيرته الجد والعمل، والصبر والنضال، والهمة والجهاد! سيرته بطولة وشجاعة، وبسالة ومضَاء، وشهامة وعطاء.
لقد حار الشرق والغرب أمام شخصيته الكريمة عليه الصلاة والسلام، إذ بدا لهم عظيماً شريفاً، وبطلاً هماماً، وقائداً مقداماً، جمع محاسن الخلال والآداب والأخلاق. فلله دره ما أعظمه وأحسنه وأكرمه: (وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
ما قرأوا سيرته إلا خضعوا هيبة ومحبة وإجلالاً له، فكم مر على الأرض من عظماء وذابت شخوصهم ومآثرهم، وادعى العزة شرفاء وفضلاء، فانقضت حياتهم بوفاتهم -والله المستعان-.
تذوب شخوص الناس في كل لحظة | وفي كل يوم أنت في القلب تكبرُ |
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا | وأنت لنا التاريخ أنت المحرِّرُ |
جعلت لنا درب الحياة منائرا | ودمرت ظلماً كان بالأمس يفخر |
شرفنا لعمر الله إذ كنت مجدنا | وحق لنا في الدهر ننهى ونأمر |
أيها الإخوة الفضلاء: اختار لكم من سيرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن حياته موقفين:
الأول: يفيض تواضعاً وتذللاً وسهولة وسماحة، مع أنزل طبقات المجتمع! من يحتقرهم الناس، بل ربما أهانوهم وسخروا منهم، وهم طبقة الفقراء والمساكين والأرقاء يتواضع لهم عليه الصلاة والسلام، ويتنزل إلى مستواهم لسماع حديثهم وقضاء وحوائجهم، ثبت في الصحيحين: أن الأمة من نساء المدينة كانت تأخذ بيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يقضي حاجتها.
ولكم أن تتأملوا ما حاجة هذه المرأة، وكيف طلبها وكلامها، وأين ستذهب به، إنها غاية التواضع وكمال خفض الجناح للمسلمين.
أين الكبراء والعظماء ليعجبوا من هذه الأخلاق الجبارة التي غرسها النبي -صلى الله عليه وسلم-، دالة على سمو الشريعة الإسلامية وعدلها ووفائها وسماحتها؟
أما الموقف الثاني: فيلتهب صبرا وثباتاً وتضحية، وتجردا لله -تعالى- من كل هوى وشهوة مع ترسل وأناة وشفقة، مع الكافرين الصادين، ثبت في المتفق عليه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت للنبي -صلى لله عليه وسلم-: "هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟" قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا لِيل ابن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل -عليه السلام- فناداني فقال: إن الله -تعالى- قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً".
ولا أظن هذا الموقف يحتاج إلى تعليق وإيضاح بل كاف في المراد، وشاف في المقصد والمرام.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
اللهم انصر دينك وعبادك المؤمنين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.