البحث

عبارات مقترحة:

المؤخر

كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

بطولة داعية

العربية

المؤلف حمزة بن فايع آل فتحي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. شرف الدعاة إلى الله وعلو منزلتهم .
  2. الداعية الأول محمد -صلى الله عليه وسلم- .
  3. مواقف فريدة وبطولات نادرة في دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره وثباته .

اقتباس

أنسهم هداية الضال، وسعادتهم تنبيه الغافل، وبهجتهم صلاح البشرية، يستطيبون الصبر في الدعوة، ويستحلون النصب إليها، ويستروحون المشقة فيها، هممهم عالية، وعزائمهم خارقة، ونفوسهم شامخة، لا تعرف الخَور والهوان، أو الدعة والمنام هم أرباب الشرف، وربع المجد، وأهل...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل في كل زمان على فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله المولى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحبوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الناس: إن في الحياة أبطالا صناديد، وضراغمَ مغاوير! همّهم دينهم، وشغلهم رسالة ربهم، يبذلون أوقاتهم لهداية الخلق، وتزكية الناس، يحبونهم، ويحسنون إليهم، ويصبرون على أذاهم، أنسهم هداية الضال، وسعادتهم تنبيه الغافل، وبهجتهم صلاح البشرية، يستطيبون الصبر في الدعوة، ويستحلون النصب إليها، ويستروحون المشقة فيها، هممهم عالية، وعزائمهم خارقة، ونفوسهم شامخة، لا تعرف الخَور والهوان، أو الدعة والمنام هم أرباب الشرف، وربع المجد، وأهل السؤدد والمكانة.

قد جانبوا ربع الكلام والطعام والمنام، الذين لا وزن لهم ولا مقدار، ولا عظمة ولا إجلال، يروّون الدعوة بدمائهم، ويفدونها بمهجهم، ويسعون لأهداف جليلة، وغايات نبيلة، يحتملون لأجلها شدائد الحياة، ورزايا الدهر، وهؤلاء هم الدعاة بحق: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً) [نوح: 5 - 6].

كفرتُ بكل من عذلوا

وعن درب الهدى عدلوا

ومن لم يصبهم في العيش

إلا النوم والكسلُ

ومن بنديهم والنار تزحف

يكثر الجدل

ومَنْ بالوهم رغم التيه

ظنّوا أنهم وصلوا!

وأكبرتُ الذين مضَوا

وعما شقَّ ما سألوا

وعن غاياتهم رغم

اعتساف الدهر ما نكلوا

ومن دمهم أُضيئت

في دياجي الحيرة الشعلُ

إن هؤلاء هم الدعاة إلى الله -تعالى- منائر الهداية، وطرق الخير، ومصابيح الدجى والظلمات مناهم رضى ربهم، لا يطلبون جاها، ولا يسألون مالا، ولا يتكلفون حالا: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86]، خيرهم وسيدهم ومقدمهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أحسنهم كلاما، وأشدهم بلاء، وأكثرهم جهادا وصبرا، يحسن ولا يسئ، ويصفح ولا يعاقب، ويجود بوقته وماله ودمه دون اكتراث أو مبالاة أو أسف.

إن أنت إلا أصبعٌ دميتِ

وفي سبيل الله ما لقيتِ

لقد ارتدى صلى الله عليه وسلم جلباب الصبر والجلد المخلوط بالحلم والأناة، فاحتمل كل أوساخ السفه والعبث والأذى من الناس حتى يبلغ رسالة ربه، وهذا ما ستسمعونه في هذه القصة العجيبة التي هي بحق نموذج بطولة ورمز تضحية وفداء قل نظيره.

ذكر أهل السير: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رفض أهل مكة دعوته خرج إلى الطائف ماشيا على قدميه ليدعو أهلها إلى الإسلام وذلك سنة عشر من البعثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها، فلما انتهى إلى الطائف قصد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد يا ليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الإسلام، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة (أي يمزقها) إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، إن كنت رسولا لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك أبدا، فقام عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حبلة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار، فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنا مما لقي من الشدة والابتلاء، وأسفا على أنه لم يؤمن به أحد، قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يَحلَّ عليَّ سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".

أيها الإخوة الكرام: ما موقف أحدنا لو جرى له ما جرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والإصلاح؟! يشكو بعضنا زوجته، وآخر أبناءه وآخر جاره، ولم يلاقِ ما لاقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذاك الصابر المحتسب الذي لم تصده عراقيل الباطل، ولم يلتهمه النصب والكلل، ولم يضره وهج الصراع.

اللهم ألهمنا الصبر وحسن العمل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام: لقد كان يوم الطائف يوماً خطيراً، وحدثاً أليماً في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرغم صبره الطويل، وحلمه الكبير، وما قد لاقاه من شدائد ومحن إلا أنه لم ينس ذلك اليوم وشدته، أخرج الشيخان رحمهما الله عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أُحد؟ قال: لقيت من قومك ما لاقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا لِيل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا جبريل، فناداني ملك الجبال فسلم ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا".

عجباً -والله- في هذا الموقف الخطر الصعب، اشتد الإيمان واليقين، وشمخ الصبر والحلم، وانعدمت حظوظ النفس، وتجلت الحكمة الرشيدة، وبزغ الأمل البعيد، فالداعية ليس شديدا متعنفاً، بل شفيقا رحيما، والداعية ليس عجلا متحمسا، بل صبورا حكيما، والداعية ليس منتقما حاقدا، بل صافحا حليما، يغضب لله وحرماته، وليس لنفسه وشهواته، وأعجب من ذاك الصبر المنيع الذي يجعله كالطود الأشم، تهون عنده حرارة الأذى والاستهزاء، وحرارة السخرية والاستعلاء، ولذاذة الغلبة والانتقام، كأنه يقول لهم: ما تريدون؟! الدعوة سأنشرها، وعنادكم سأقهره، ومحاربتكم سأسحقها وبحمد لله تم النصر والفتح والظفر ولو كره المشركون ولو كره المجرمون.

أقول لكم وجنْحُ الليلِ

داجٍ مطبق أزلُ

سأبقى في جبين الصبر

وشما ليس ينفصلُ

أشرع هامتي للنار

للأشواك أنتعِلُ

أراقب هبة الإيمان

يحدوها الشذا الخَضِلُ

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...