الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
أيها المسلمون: في هذا الشهر -أعني شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة- كانت وقعة الخندق التي اجتمع فيها أحزاب الشيطان على أولياء الرحمن. وذلك أن يهود بني النضير حين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة أرادوا أن يأخذوا بالثأر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهب جمع منهم إلى قريش وغطفان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله: (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)[الفتح:28].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وكان الله قويا عزيزا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعرفوا نعمة الله عليكم بما أمد به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه من النصر العزيز، والفتح المبين، وهذه سنة الله التي لا تبديل لها، فمن ينصر الله ينصره إن الله لقوي عزيز.
أيها المسلمون: في هذا الشهر، أعني شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة، كانت وقعة الخندق التي اجتمع فيها أحزاب الشيطان على أولياء الرحمن.
وذلك أن يهود بني النضير حين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة أرادوا أن يأخذوا بالثأر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهب جمع منهم إلى قريش وغطفان، وحرضوهم على حرب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتحزب الأحزاب لقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فخرجت قريش بأربعة آلاف مقاتل، وخرجت غطفان ومعهم ألف فارس، وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة، وخرجت بنو أشجع وبنو سليم في نحو سبعمائة مقاتل، وخرجت بنو أسد، وكان عدد الأحزاب عشرة آلاف مقاتل.
فلما سمع بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار أصحابه: أيخرج إليهم أم يبقى في المدينة؟
فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقا على المدينة، يمنع العدو عنها. فأمر صلى الله عليه وسلم بحفره شمالي المدينة من حرتها الشرقية إلى حرتها الغربية، وشاركهم في حفره.
وكان المسلمون ثلاثة آلاف رجل، وقد لحقهم من الجهد والجوع؛ ما وصفه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كنا نحفر يوم الخندق، فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله هذه كدية عرضت في الخندق؟ فقام وبطنه من الجوع معصوب بحجر، فلبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعول فضربه، فكان كثيبا مهيلا، قال جابر: فاستأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتيت أهلي وقلت لامرأتي: لقد رأيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا ما كان عليه من صبر، فهل عندك من شيء؟ قالت: صاع شعير وعناق، وهي الصغيرة من المعز، فذبحتها وطحنت الشعير، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله طعيم لي، فقم أنت ورجل أو رجلان معك، فقال: ما هو؟ فقلت: شعير وعناق، فقال: كثير طيب، ثم دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- المهاجرين والأنصار، وقال: ادخلوا ولا تزاحموا، فجعل يكسر من هذا الخبز، ويجعل عليه من اللحم، وكلما أخرج شيئا من اللحم غطى القدر، ومن الخبز غطى التنور، فما زال كذلك حتى شبع المهاجرون والأنصار، وبقيت بقية، واشتدت الحال بالمسلمين.
وكان مما زاد الأمر: أن يهود بني قريظة، وكانوا شرقي المدينة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضاق الأمر بالمسلمين، كما قال تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ)[الأحزاب: 10].
يعـني: الأحـزاب.
(وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ)[الأحزاب: 10].
يعني: بني قريظة.
(وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزاب: 10 – 11].
وانقسم الناس إلى قسمين: ف(الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب:12].
والمؤمنون: (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب: 22].
ومكث الأحزاب محاصرين للنبي -صلى الله عليه وسلم- قريبا من شهر، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم، فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قوية أسقطت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وزلزلت بهم، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[الأحزاب: 9].
وبعد تفرق الأحزاب توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة الذين نقضوا عهده، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتى طال عليهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.
فلما اشتدت بهم الحال طلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه-.
وكان سيد الأوس الذين هم حلفاء بني قريظة في الجاهلية.
وكان سعد -رضي الله عنه- قد أصيب بسهم يوم الخندق في أكحله؛ فدعا الله -تعالى- أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة الذين نقضوا العهد.
فاستجاب الله دعاءه، فطلبه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة ليحكم في بني قريظة، فلما أقبل قال رضي الله عنه: "لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم".
فلما جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن هؤلاء وأشار إلى اليهود قد نزلوا على حكمك؛ فاحكم فيهم بما شئت؟".
قال: وحكمي نافذ عليهم؟
قال: "نعم".
قال: وعلى من ها هنا، وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال: "نعم".
قال: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم، وأموالهم.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"(البخاري(3593) مسلم (1768) أبو داود (5215) أحمد (3/22)).
ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأخدود فخدت، فجيء باليهود مكتفين، فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة رجل، وسبيت ذريتهم ونساؤهم وأموالهم.
وهكذا انتهت هذه الغزوة العظيمة بهذا النصر العزيز، بعد أن لحق المسلمين ما لحقهم من المشقة والبلاء، فكانت العاقبة لهم؛ لأنهم يقاتلون لله وبالله، لا يقاتلون رياء ولا سمعة، ولا عصبية، ولا يقاتلون بإعجاب بأنفسهم، واعتماد على قوتهم دون الله -عز وجل-، وإنما يقاتلون دفاعا عن الحق، وإذلالا للباطل، وإعلاء لكلمة الله، وصيانة لدين الله، فكان الله معهم يتولاهم بولايته ويعزهم بنصره، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وكانت النتيجة؛ كمـا قال تعالى: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)[الأحزاب: 25 – 27].
أقول قولي هذا، وأسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجمع المسلمين على الحق، وأستغفر الله لي ولكم...