البحث

عبارات مقترحة:

المتين

كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

حالنا مع الدنيا

العربية

المؤلف محمد بن إبراهيم الشعلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الزهد
عناصر الخطبة
  1. خير الزاد التقوى .
  2. الانشغال بالدنيا .
  3. أسباب الغفلة .
  4. الاستعداد للدار الآخرة .
  5. إيثار السلف للآخرة. .
اهداف الخطبة
  1. التحذير من الغفلة والانشغال بالدنيا
  2. بيان أسباب الغفلة للحذر منها.

اقتباس

العاقل من يقدم الأعمال الصالحة في دنياه لآخرته، قبل الموت وانقطاع الأعمال، ويتخذ من سلف الأمة الصالح قدوة في إيثارهم الآخرة على الدنيا، وزهدهم في الدنيا، بل وجعلهم الدنيا وسيلة إلى الآخرة، فصارت أعمالهم الدنيوية وسيلة إلى الآخرة، فقرنوها بالنية الصالحة.

الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين ورسول رب العالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله –عباد الله-، فإنه سبحانه أهل أن يتقى، قال جلّ ذكره: (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المدثر:56، وقد جاء في الحديث عن أنس –رضي الله عنه-، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قرأ: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، قال: "قال ربكم: أنا أهل أن يتقى، فمن اتقاني، فأنا أهل أن أغفر له". رواه أحمد في مسنده، والدارمي في سننه، واللفظ للدارمي، وغيرهما، وقال كُميْل ابن زياد –رحمه لله- أحد التابعين: خرجت مع علي ابن أبي طالب –رضي الله عنه- فلما أشرف على الجبان التفت إلى المقبرة، فقال: يا أهل القبور! يا أهل البلى! يا أهل الوحشة! ما الخبر عندكم؟ فإن الخبر عندنا قد قسمت الأموال،و أيتمت الأولاد، واستبدل الأزواج، فهذا الخبر عندنا، فما الخبر عندكم؟ ثم التفت إليَّ فقال: يا كميل! لو أذن لهم في الجواب لقالوا: إن خير الزاد التقوى، ثم بكى وقال: يا كميل! القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر.ا.هـ.

فعليك تقوى الله فالزمها تفز

إن التقي هو البهي الأهيب
واعمل لطاعته تنل منه الرضا إن المطيع لربه لمقــرَّب

عباد الله: تفكير أكثرنا اليوم منصب على الدنيا، وليس للآخرة من تفكيرنا إلا النزر اليسير، نفكر في الدنيا في شهواتها وشؤونها، حتى صارت الدنيا عند بعضنا أكبر همه، ومبلغ علمه، يحزن لفقدها، ويسر لوجودها، يضحك إذا ذكرت، ويبكي إذا تركت، كما قيل:

مالي رأيت بني الدنيا قد اقتتلوا

كأنما الدنيا هم عرس
إذا وصفت لهم دنياهم ضحكوا وإن وصفت له أخراهم عبسوا

هؤلاء لا تذكر عندهم الموت، ولا تذكر عندهم الآخرة، فإنك إن ذكرت الموت والآخرة عندهم، اشمأزت قلوبهم، وظهر العبوس والتقطيب في وجوههم، فمثلهم كمثل من قال الله فيهم: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الزمر:45، لقد تعلقت قلوبهم بالدنيا كتعليق المولود بثدي أمه، يبكي إن منع منه، ويضحك إن أعطيه، لماذا عباد الله؟ إنه الجهل بالله –عز وجلَّ- وشرعه، والجهل بحقيقة الدنيا وضررها وفنائها وزوالها، والجهل بحقيقة الآخرة وأنها دار البقاء السرمدي، في نعيم وسرور، أو جحيم وحزن وعذاب، وأيضاً سبب ذلك مرافقة أصحاب الدنيا الذين يُلهون صاحبهم عن الآخرة، ويعلقونه بالدنيا، ويزينونها في نفسه وقلبه، حتى يهيم في حبها، ويصبو إليها، ويرى أن العيش عيش الدنيا لا عيش الآخرة، فيذهب عمره، ولم يجن من الدنيا إلا السراب، وعند الموت ينكشف له الغطاء، فيبصر الحقيقة، وتبرز له الرؤية الواضحة، ويرى أنه لم يقدم لآخرته أعمالاً صالحة، تكون له زاداً يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويرى أن كل ما جمع من الدنيا من أموال، وما استمتع به من لذات، قد خلفه من بعده، وتركه خلف ظهره، ولم يذهب معه بشيء منه، فتزداد حسرته ويعظم همه، قال أبو معاوية الأسود –رحمه لله-: من كانت الدنيا همَّه، طال غداً غمه، ومن خاف ما بين يديه، ضاق به ذرعه. ا.هـ. فيتمنى أن يعود للدنيا حتى يقدم زاداً صالحاً ينفعه يوم القيامة، قال سبحانه: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الشعراء:88-89، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة:254.

إنك –يا عبد الله- لن ترى يوم القيامة –يوم الحساب والجزاء- إلا ما قدمت في الدنيا من أعمال صالحة أو سيئة، ففي صحيح مسلم وغيره عن عدي بن حاتم –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وهذا اللفظ لمسلم، وقد قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر:18، فأمر سبحانه أن تنظر كل نفس ما قدمت لغد، وهو يوم القيامة، هل قدمت خيراً؟ فلتحذر من ذلك وتدرك الوقت والعمر قبل نفاده وفواته، قبل التحسر والندم، فالعاقل اللبيب من يقدم لآخرته أعمالاً صالحة، تنفعه يوم لقاء ربه، فإن الأعمال الصالحة هي الذخر الحقيقي، والكنز النافع والغنى المفيد، يوم تبلى السرائر، وتفتقر الخلائق إلى الأعمال الصالحة، كما قيل:
وإذا افْتقرتَ إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال

فالعاقل من يقدم الأعمال الصالحة في دنياه لآخرته، قبل الموت وانقطاع الأعمال، ويتخذ من سلف الأمة الصالح قدوة في إيثارهم الآخرة على الدنيا، وزهدهم في الدنيا، بل وجعلهم الدنيا وسيلة إلى الآخرة، فصارت أعمالهم الدنيوية وسيلة إلى الآخرة، فقرنوها بالنية الصالحة، فالمال اكتسبوه بالطريق المشروع، بلا حرص ولا هم، وقاموا بحق الله فيه، والأعمال الدنيوية قاموا بها على أكمل وجه تجارة أو زراعة أو صناعة أو وظيفة، وأطاعوا ربهم فيها، ولم يجعلوها أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، ولم يطيعوا المخلوق في معصية الخالق، فمثلهم كمثل من وصفهم الله –عزَّ وجلَّ- في كتابه بقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) النور:36-37، فذكر الله –عزَّ وجلَّ- أنهم يزاولون البيع التجارة، ولكن لم يلهيهم البيع، ولم تلههم التجارة، عن ذكر الله، وعن عبادته، وأثبت لهم سبحانه الخوف من يوم القيامة، اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار من هوله وعظمه، لِما قام في قلوبهم من الإيمان بالله- عزَّ وجلَّ- والخوف منه، ومعرفة قدر الآخرة، ومعرفة قدر الدنيا، وأن الدنيا دارُ فناء، والآخرة دار بقاء، فعمروا دنياهم بطاعة الله، وصالح الأعمال، ولم يجعلوا المواسم الفاضلة تفوتهم دون استغلال لأيامها ولياليها في طاعة الله، لما يرجون فيها من الخير العظيم، والثواب الجزيل، وتكفير السيئات، ومحو الخطايا والآثام، ومضاعفة الحسنات، ونزول رحمة الله بهم وعفوه وإحسانه، فهم في شوق لهذه المواسم وحب لها، يفرحون بها أشد من فرحهم بالأبناء والبنات والأموال والملذات، اقرءوا –عباد الله- أحوالهم مع شهر رمضان قبله وفي أثنائه وبعده، ترون العجب، حرص عليه، وشوق إليه، وحزن عليه، يكاد الواحد منهم يطير فرحاً وشوقاً عندما يدرك شهر رمضان، ومع اجتهادهم في العبادة، وكثرة أعمالهم الصالحة، إذا جاء أحدَهم الموتُ بكى حزناً على انقطاع العمل، لما احتضر عامر ابن عبد القيس –رحمه الله- بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام الليل.

فاتخذوهم –عباد الله- قدوة لكم، واعمروا أوقاتكم بطاعة ربكم، وسخروا دنياكم في مرضاة ربكم، وأنتم بعد أيام قليلة يحل بكم ضيف كريم، ووافد عزيز، ألا وهو شهر رمضان، فادعوا الله –عزَّ وجلَّ- أن يبلغكم إياه، فإذا بلغتم الشهر فأحسنوا الوفادة والقرى، وأروا الله من أنفسكم خيراً، صوموا نهاره، وقوموا ليله، وتوبوا إلى الله –عزَّ وجلَّ- واصدقوا في التوبة، ومن علامة الصدق فيها تعظيم شعائر الله، والبكاء على ما سلف من الذنوب، والخوف من الوقوع في الذئب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار، نسأل الله –عزَّ وجلَّ- أن يبلغنا شهر رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وذكره سبحانه وعبادته...

قال أبو جعفر الباقر –رحمه الله-: من دخل قلبه ما في خالص دين الله شغله عما سواه، ما الدنيا وما عسى أن تكون؟! هل هو إلا مركب ركبته، أو ثوب لبسته، أو امرأة أصبتها؟. وهذا هو هدف كثير من الناس فيها؛ لأن هذه الأمور شهوات وملذات، والنفس تميل إلى الشهوات، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت.