الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المعاملات |
من هذا المستقيل؟ ولمن يوجه كلمات الاستقالة؟ إليك قصة هذا كلِّه! ومع قصر القصة إلا أنها طويلة في معانيها، عريضة في مبانيها؛ فهي تعطي منهج حياة ودستور أمة، وهي تعطي -أيضاً- نزاهة موظف احتاط لدينه، وحرص على إبراء ذمته؛ فلله دره ما أقواه في الحق! ويزيد إعجابك بهذا الفرد من الناس حينما...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: فــــ"اقبل عني عملك، قال: " وما لك؟ قال: لا حاجة لي في عملك".
معاشر الإخوة: هذه كلمات الاستقالة واضحة صريحة، فهو لا يريد العمل، بل إنه بقول: لا حاجة لي في عملك!
من هذا المستقيل؟ ولمن يوجه كلمات الاستقالة؟ إليك قصة هذا كلِّه! ومع قصر القصة إلا أنها طويلة في معانيها، عريضة في مبانيها؛ فهي تعطي منهج حياة ودستور أمة، وهي تعطي -أيضاً- نزاهة موظف احتاط لدينه، وحرص على إبراء ذمته؛ فلله دره ما أقواه في الحق! ويزيد إعجابك بهذا الفرد من الناس حينما تدرك أن كلمات الاستقالة القوية الواضحة مرفوعة إلى الإمام الأعظم في الدولة!.
تلك الكلمات موجهة للنبي -صلى الله عليه وسلم- من أحد عماله الذين وكل إليه عمل من مصالح المسلمين؛ إذن قصتنا هي صحابي يستقيل من عمله! صحابي يستعفي النبي -صلى الله عليه وسلم- من منصبه! ثم تأتي إقالته والعفو عنه من منصبه بناء على طلبه؛ فمن هذا الصحابي؟
لم تفصح الرواية عن اسمه الذي يعينه! ولكننا نجد في الرواية سجل وصفاً في خلقته؛ فهو رجل أسود من الأنصار! وأكرم ببشرة سوداء إذا كانت تحوى قلباً أبيض ناصحاً للإسلام والمسلمين! وقبح بشرة بيضاء قد أكنت قلباً أسود، ملؤه الغش والتحايل على عباد الله!.
طال شوقنا إلى تفاصيل القصة وحقيقة ما حدث؛ فاستمع إليها -رحمك الله ونفعك بها-.
روى مسلم في صحيحه عن عدي بن عَميرة الكندي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مِخيطا فما فوقه؛ كان غلولا يأتي به يوم القيامة"، فقام إليه رجل أسود من الأنصار، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: "وما لك؟" قال: لا حاجة لي في عملك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم؟" قال: إني سمعتك آنفا تقول كذا وكذا، قال: "وأنا أقوله الآن، من استعملناه منكم على عمل؛ فليجيء بقليله وكثيره؛ فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى".
معاشر الإخوة: هذا الحديث -على اختصاره- هو في حقيقته لائحة عمل، وتنظيم عمال؛ فالعمل ليس سلماً لتحقيق المصالح الشخصية، ولا للاستكثار من المال بغير ما اتفق عليه، وجرى عليه توقيع الطرفين؛ فهنا عمل وهنا مرتب فالزيادة عليه إن لم تكن بإذن صاحب العمل فهي بصريح بنود الشريعة غلول لا يحل أخذه مهما تعسف صاحبه في تحليله، ونسج الخيوط الضعيفة لتبريره! "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مِخْيَطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة".
و(الغلول) هو الخيانة المالية مطلقاً، ومن أعظمها الخيانة في الغنيمة! وفي هذا يقول الله -تعالى-: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[آل عمران:161].
والمخيط: هو الإبرة، أعجبت صاحبها، فأخذها لنفسه، وسكرة رغبته بها أعمته عن كونها مالاً عاماً ليس له أن يستأثر به! وبالله عليكم كم قيمة المخيط؟! وكم ينقص أخذه خزانة الدولة؟! لا شيء يذكر؛ ولكن أخذه عنوان على طوية مَن أخذه؛ فآخذه قليل الحيطة لدينه، ضعيف في تنقية دخله، ذمته واسعة، وحيث وسعت المخيط؛ فلعلها تتسع لما يخاط بالمخيط، ومن أخذ المخيط حين رآه ولم يتمالك نفسه؛ سوف يأتي اليوم الذي يطلب فيه المخيط حينما لا يراه، ومخيط كل إنسان بحسبه؛ فمن الناس من مخيطه مال يأخذه بيده ويضعه في جيبه!
ومن الناس من مخيطه لا يتحمله جيبه، ولكن يتحمله حسابه البنكي حينما يودع فيه مال ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب. نعوذ بالله من عذاب الله.
ومن الناس من مخيطه رواتب على عمل لم يقم بمعشاره، وعلى دوام يتأخر في أوله وينصرف قبل نهايته، وهو حاضر غائب فيما بين ذلك! نسأل الله السلامة.
تتعدد المخايط وهي كثيرة، وكل أدرى بمخيطه الذي يغله! (بَلِ الإِنسَـانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[القيامة:14-15].
هذا الوضوح في بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي حمل ذاك الصحابي الأسود على أن يرد على النبي -صلى الله عليه وسلم- عمله -ومعاذ الله أن نتهم صحابياً بسوء ولكنها الورع يحمل على الأعاجيب- فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: "وما لك؟" قال: لا حاجة لي في عملك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم؟" قال: إني سمعتك آنفا تقول كذا وكذا، قال: "وأنا أقوله الآن، من استعملناه منكم على عمل، فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى".
هذا هو الضابط الشرعي الذي تتخلى بعده عن عملك، وتقدم فيه استقالتك حينما تحس أن عملك يزاحم براءة ذمتك، وأنك غير قادر على توفية العمل ما يطلب أو منع نفسه مما لا يحل لها ويطب؛ فلا تنتظر سن التقاعد، ولا نهاية سنوات خدمة معينة! (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:1-2].
فانظر -يا عبد الله-؛ فكل من استعمل على عمل واستؤجر عليه؛ فإن ما جاءه بسبب كونه في هذا العمل زيادة على مرتبه الذي هو أجرته؛ فإنه لا يحل له أخذه، ما دام سبب هذا الذي جاءه كونَه في هذا العمل؛ فهو لم يهد له لعادة بينهما في التهادي، أو لكونه قريباً منه أو نحو! وفي ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟".
أقول قولي...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فهذا الحكم النبوي يستوي فيه ذوو الأعمال والمناصب الوضيعة من العمال والأجراء وصغار موظفي الدولة، وكذا كبار الموظفين من المدراء والوكلاء والوزراء والأمراء وغيرهم.
والناس يتحدثون عن فساد إداري هنا أو هناك، وربما قرنوا ذلك بإعجاب بأنظمة عدالة ونزاهة غريبة أو شرقية ولا شك أن العدل برد القلوب، وأمان الضعفاء، وحاجز التسلط من الأقوياء.
ولكن لا ينس هؤلاء المعجبون أن هذه أخلاقنا أخذها غيرنا، وهذه قواعد التعامل في ديننا، ولكن أضعناها فضاعت كثير من حقوقنا، وحين تساهلنا فيها سهل تسلل ضعاف النفوس إلينا حتى ساومونا على مخصصاتنا، وشاطرونا أموالنا. "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب"؛ فهدايا العمال غلول لا تجوز.
فعلى مدراء الشركات ورؤساء الأقسام، وكــــذا قادة المدارس والمدرسين ونحوهم من الموظفين الذين لهم مرتبات من الدولة عليهم أن يحتاطوا لدينهم، ولا يحملنهم الخجل على أن يحابوا في حكم شرعي، وألا يقبلوا هدية سببها العمل مهما برر المهدي، وقال: أنها هدية لله، ولم يتكلف شراءها، أو أنها بعض نتاج مزرعته، أو هي شيء من متجره ونحو ذلك.
وعلى هذا فتاوى اللجان الشرعية، والمشايخ المحققين، ولا فرق أن يكون الموظف باقياً في عمله أو مغادراً، ولا فرق بين أن يكون الطالب مستمراً في الدراسة أو متخرجاً، ولا فرق أيضاً بين كون الهدية للمعلم قبل إعلان النتيجة ورصد الدرجات أو بعد ذلك!
على أن بعض ما يسمى هدايا قد تبلغ أن تكون من الرشوة التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله الراشي والمرتشي"(رواه أحمد وغيره، وله طرق).
وإنه يتأكد على إدارة المدرسة أن تؤكد على منسوبيها مـــن المدرسـين ألا يقبلوا شيئاً من الهدايا من طلابهم، وليت الإدارة تستبق الحدث، وتشعر طلابها بعدم استقبال أيِّ نوع من الهدايا؛ لا ترفعاً عنها ولكنها لحرمتها شرعاً.
وقد أدرك المربون أن هذه الهدايا فيها من المفاسد الشيء الكثير؛ فقد كانت محل تنافس مذموم بين الطلبة؛ أيهم يهدي معلمه أكثر؟، وأيهم يبـــدع في اختيارها وتنميقها وتحسين تغليفها؟، ولا يخفى أنَّ هذه قد تكون مثقلة لكاهل الأب، ومزاحمة لدخلة المحـــدود لا سيما إذا تعدد المهدون من أبنائه أو بناته، وربما أهدى أحد الطلبة معلمه مجاملة ومجاراة لزملائه وقلبه على غير هذه الهدية!.
وما قيل في حق الطلاب مع معلميهم؛ فهو في حق المعلمات مع طالباتهن آكد وأشد، ومكافأة المحسن من هؤلاء تكون بالدعاء له، والثناء عليه بحسن صنيعه، والكلمة الصادقة تقولها مشافهة، أو ترسلها عبر جوالك لها أثر في التشجيع قد يفوق ما تبذله من مالك، بل إنه يفوق ذلك بكثير.