الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
هناك أربعةُ أمورٍ مَن خَتَم بها شهره يُرجَى له القَبول، وحُصول المأمول، وجَبْرُ الخَلَل؛ وهي مطلوبة من المحسن والمسيء، والمشمِّر والمقصِّر، وهي: الدعاء، وحسن الظن والرجاء، والصدقة على الفقراء، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء.
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُمًا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إن ربنا -جل وعلا- هو مُصرّف الشهور، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وهو -سبحانه- بحكمته ورحمته جعل لكلِّ أجل كتابًا، ولكل عمل حسابًا، وجعل الدنيا سوقًا يغدو إليه الناس ويروحون؛ فبائعٌ نفسَه: فمعتقها أو موبقها.
فسبحان مَن جعل الأيام تمضي على نسق لا يخلف له وعد! وفي مُضِيِّ الأيام استنفاد للأعمال، واستكمال للآثار، وقرب من الآجال، وغلْق لخزائن الأعمال.
فلقد رأيتم -معاشر الكرام- كيف مضى شهركم، وكيف تتابعت أيامه، وكيف مضت تلك الليالي الغُرُّ بفضائلها ونفحات ربها، وأوشك باقيها القليل على الرحيل، وكأنه درب خيال، وما الحياة الدنيا إلا أنفاس معدودة، وآجال محدودة، وإن عمرًا يُقاس بالأنفاس لَسريع الانصرام.
وفي مرور الأيام وتسارع الليالي عِبَرٌ قائمةٌ لمن كان في عقله محل اعتبار، وفي قلبه ميدان فكر وادّكار، وفي بصره بصيرة يخترق من ورائها ما وراء حدود الأبصار: (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس:6].
من العبر المضمرة خلف مرور أعلام الأيام المشهرة تذكُّرُ الرحيل، فأمسُكَ سلَّمَكَ إلى يومك، ويومُك إلى غدك، وغدك إلى ما بعده؛ وهكذا، حتى تسلم إلى قبرك وحيدًا غريبًا فريدًا، فاحذر الاغترار بالسلامة والإمهال، ومتابعة سوابغ المنى والآمال، واستلف الزمن، وغالب الهوى، واجعل لك في بقية الليالي مُدَّخَرًا، فإنها أنفس الذّخر، وابكِ على خطيئتِك، واندَم على تفريطِك، واغتنِم ما بقي من شهرك في الدعاء، ففي رمضانَ كنوزٌ غالية، وسَلِ الكريمَ فخزائِنه ملأى، ويده سحَّاء الليل والنّهار، واستنزِل بركةَ المالِ بالصدقة، وودِّع شهرَك بكثرةِ الإنابة والاستغفار، وقيامٍ لله مخلصٍ في دُجى الأسحار.
أيها الأحباب: هل أدركتم حقًّا أن رمضان يستعد الآن للرحيل؟! يجمع خيامه، ويطوي أعلامه، أَلا سلامًا على رمضان، ألا سلامًا على أقدام في لياليه نصبت، وأكُفٍّ في أوقاته نصبت، ودعوات فيه رُفِعت! ألا سلامًا على أعين سهرت! ألا سلامًا على صفوف بروّادها ازدحمت، ومساجد بعُمَّارها تباهت! ألا سلامًا على أحرفٍ من القرآن تليت فأضاءت!
أيها الكرام: ها قد ولَّت العشر مؤذنة برحيل، ولم يبقَ من الشهر الفضيل إلا أقل القليل، ونصبت الأسواق، فأسواق الدنيا منصوبة، وأسواق الآخرة مطلوبة، ولكل منهما رُوَّادُه وعُوَّادُه.
أيها الأحباب: هذا والله مَن تعبَّد وتهجَّد وقرأ القرآن فختم وعدَّد، وأدخل الفرحة على قلوب الفقراء وما تردد، وصافى الإخوان وما هدَّدَ ولا توعَّد، وكف لسانه فما اغتاب ولا نَمّ، وكف عن المعاصي فما تعاطى ولا هَمّ، فيا سعده يوم ينقضي شهره وقد فاز بجائزة الاقتراب، ونال رضا رب الألباب.
ويوم لقاء ربه الرحمن تفتح له أبواب الجنان، ليدخل من باب الريان، لتداعب سمعه التهنئة العالية السامية: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24].
أيها الأحباب: هذا أوان ختام الموسم، فأين العبَرات؟! وأين الحسرات؟! وأين التدارك؟! فأَرِ الله من نفسك حزنًا وتذللاً، عسى أن يحشرك مع المتخشعين المنكسرين، فيقول: "وله قد غفرت، همُ القوم لا يشقى بهم جليسهم".
إذا لم تحسن البكاء فتباكَ، وإذا لم يكن لك من القيام نصيبٌ فالحقْ بالقائمين ولو في دعائهم وختام صلاتهم، وإن لم يكن للسانك من القرآن نصيب فافتح المجال لأذنك، واعلم أنه لا يهلك على الله في هذه الأيام إلا هالك.
وقد أمَّن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على دعاء جبريل عندما قال: "يا محمد: مَن أدرك رمضان فلم يُغْفَر له فأبْعَدَهُ اللهُ، قُل: آمين. فقلتُ: آمين".
ولمن تكاسل فيما مضى وتماطل نقول: ما زالت الفرصة أمامك، فربما تدرك ليلة القدر فيما بقي من هذا الشهر الأغر، وفضل الله لا يحصر.
لا زالت أمامنا ليلة السابع والعشرين، وهي أرجى ليلة لموافقة ليلة القدر، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عمر عند أحمد، وحديث معاوية عند أبي داود، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين".
وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب كثير من الصحابة، حتى إن أبي بن كعب -رضي الله عنه- كان يحلف بذلك تحقيقًا وتوثيقًا، قال له ذر بن حبيش: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذز؟! قال: العلامة -أو: بالآية- التي أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها". رواه مسلم.
وبعضهم استنبط أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين لأن كلمة (فِيهَا) من قوله -تعالى-: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر:4] هي الكلمة السابعة والعشرون من سورة القدر، وهذا من باب الاستئناس لشد العزم، وليس من باب القطع والجزم.
لكن كونها ليلةَ سبعٍ وعشرين أمر غالب، والله أعلم، وليس دائمًا، فقد تكون أحيانًا ليلة إحدى وعشرين كما جاء في بعض الروايات، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في غيرها.
ورجح بعض العلماء أنها تنتقل وليست معينة كل عام، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وهذا هو الظاهر المختار، لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها".
إنها ليلة الشرف الذي لا يطال، إنها ليلة العطايا والمنح التي لا تنقطع ولا تنقضي، فمَن أدركها فقد حاز المنى، ومن فاتته فقد فاته خير لا عوض منه.
قال الإمام مالك -رحمه الله-: "بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراه الله أعمار الناس قبله -أي: أعمار الأمم قبله-، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- تقاصر أعمار أمته أن رآها قصيرة بالنسبة لأعمار الذين سبقونا، تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، وهذا من إشفاقه -صلى الله عليه وسلم- وحبه لهذه الأمة المباركة، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وذلك من ربنا تصديقًا لوعده لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5].
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري ومسلم.
وفي المسند عنه -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قامها ابتغاءها -أي: مطالبًا لها- ثم وقعت له -أي: صادفها- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر منه".
أيها الأحباب: إن المعوّل على قبول العمل ليس مجرد الاجتهاد، وإن الاعتبار في بِرِّ القلوب لا بمجرد عمل الأجساد، وهنا أفتح قوسًا مهمًا بعد ذكرنا بر القلوب، فكثير من الناس يشكون قسوة قلوبهم، أو بمعنى آخر يأتي أحد ويقول: لا أجد قلبي عند الذكر وعند العبادات، وسبب ذلك وجود الحاجز والمانع، وهو المعبر عنه في لغة القرآن بالران، قال -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].
قيل لأحد السلف: عبدٌ فقد قلبه، متى يجده؟! قال: إذا نزل فيه الحق. قيل: متى ينزل فيه الحق؟! قال: إذا ارتحل عنه ما دون الحق. أي: إذا أفرغ قلبه من الباطل.
وعليك -أخي الحبيب- أن تدرك أمرًا غايةً في الأهميةَّ، وهو أن الله لا يرُدُّ القليل لقلته، ولا يقبل الكثير لكثرته؛ ولكن (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ)، فقد قيل: "مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب".
فأقْبِلْ على قلبك، وأَفْرِغْهُ من الشهوات والشبهات، واملأه بمعرفة الله، وحبه، والأنس به، وإذا شكوت بعد ذلك قسوة فابك عليه، وتضرع إليه أن يزيل الحجاب بينك وبينه، فإنه هو البَر الرحيم.
واعلم أنه ما دام قلبك بغير الله مُعَلَّقا، فإن الباب سيكون لا محالة مغلقًا، إن الاعتبار بِبِرِّ القلوب لا بمجرد عمل الأجساد، فرب قائم حظه السهر؛ لفقدان النيَّة، وفساد الطويَّة، وقد قيل قديمًا: "كم من قائمٍ محروم، ونائم مرحوم"؛ لأن هذا نام وقلبه طاهر ذاكر، وذاك قام وقلبه غافل فاجر، نعوذ بالله من فساد الضمير.
فأقبِلْ على الله بقلب طاهر ذاكر معلق بالله، عندها ستفتح لك الأبواب، ويرد الجواب بالإيجاب: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين. والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وفق أقوامًا لخدمته، وهيأ لهم أسباب طاعته، وأفاض عليهم من بركاته، فسعَوا إلى مرضاته، نحمده على ما به جاد ومَنَّ، وهو البَرّ الرحيم.
وأصلي وأسلم على الطاهر المطهر سيدنا محمد سيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله النجوم الدرر، وعلى من سار على نهجه واقتفى الأثر.
أيها الأحباب: إن الغبن كل الغبن، والحرمان كل الحرمان، والضياع كل الضياع، أن يخرج رمضان ولم تكتب في ديوان أهل السعادة، ولم تنخرط في سلك أهل الحسنى وزيادة، إنه والله عين الحرمان، عياذًا بالرحيم الرحمن.
ألا قل لأقوام سهروا لياليهم على المعازف والمعاصي والقانيات: ماذا كسبتم؟! ألا قل لأهل الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق الذين دعوا إلى الإفطار فيه تحت دعوى الحرية: خِبتم وخسرتم؛ فها هو الزائر الكريم والوافد الحبيب قد استقل راحلاً ليشهد لكل عبد يوم القيامة بماذا استقبله، وكيف قضى أيامه ولياليه.
وهنيئًا لأقوام وفقوا فيه لصالح الأعمال، فقاموا وصاموا وتصدقوا وأحسنوا فيه الفعال، هنيئًا للذين تسابقون إلى الصفوف، هنيئًا للذين أصغوا السمع لآيات الله، هنيئًا للذين ذرفت عيونهم شوقًا وحبًّا وخوفًا من الله، ربِحَ البيع، ربح البيع.
أيها الأحباب: مهما عملنا فإننا مقصرون ومفرطون في جنب مولانا، ولن نؤدي حقه علينا شكرًا وطاعة وامتثالاً، ولكنها أعمال دافعها الحب، وللحب أسرار، وللمحب أعذار: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة:165].
أيها الكرام: كلنا يطمع في فضل الله، كلنا يرجو أن يكون من عتقاء الله من النار، وذلك الظن بربنا، وإننا إن قصرت بنا الأعمال، فإنه لم تنقطع منا الآمال، فربنا دائم الجود والنوال.
أيها الأحباب الكرام: هناك أربعةُ أمورٍ مَن ختم بها شهره يُرجَى له القَبول، وحُصول المأمول، وجَبْرُ الخَلَل، وهي مطلوبة من المحسن والمسيء، والمشمِّر والمقصِّر، وهي: الدعاء، وحسن الظن والرجاء، والصدقة على الفقراء، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء.
أما أولها، وهو الدعاء: فإنه السلاح الذي لا يكبو، والصارم الذي لا ينبو. ولمثل هذا الدعاء شروط وآداب، مَن التزمها ترجى له الاستجابة.
قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "من آداب الدعاء أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة، كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعة الليل؛ وأن يغتنم الأحوال الشريفة، كحال الزحف، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلاة، وعند إفطار الصائم، وحالة السجود، وفي حال السفر؛ وأن يدعو مستقبلاً القبلة، مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر، وأن لا يتكلف السجع في الدعاء، فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع، والتكلف لا يناسبه".
الإخلاص في الدعاء، والتضرع، والخشوع، والرغبة، والرهبة، وأن يجزم الدعاء، ويوقن بالإجابة، ويصدق رجاءه فيه؛ وأن يلح في الدعاء، وأن يكرر الدعاء ثلاث مرات، كما ينبغي له أن لا يستبطئ الإجابة، وأن يفتتح الدعاء ويختتمه بذكر الله -تعالى-، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يبدأ بالسؤال، ثم التوبة، ورد المظالم، والإقبال على الله بكل هِمة، وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة، وتحرّي أكل الحلال.
من راعى شروط وآداب الدعاء أدرك طلبته، وحقق الله أمله ورغبته، يقول ربنا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186].
ومن تأمل هذه الآية وجدها جاءت عقب الإشارة إلى إكمال صيام رمضان، في إشارة إلى توقع الاستجابة عند إكمال الصيام على وجه التمام، قال -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:185-186].
قال ربنا: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ...) [الفرقان:77]، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة". رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء". رواه الترمذي وأبو داود.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، وهي ساعة خفيفة". يعني وقتها قليل.
وأرجح الأقوال في مسألة وقتها أنها آخر ساعة من يوم الجمعة قبل أذان المغرب، فاستغلوها بالدعاء والتضرع إلى الله بالعتق من النار، والدخول في سلك المقبولين الأبرار، وتذكروا قول النبي المختار -صلى الله عليه وسلم-: "ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء". رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وغيرهما.
أما الثاني فهو حسن الرجاء؛ وهو شأن المؤمن العارف بربه عند إكماله الأعمال، حتى وإن شابها تقصير وإهمال فإنه يُحسن ظنه بربه، ويوقن في قرارة نفسه أن الله الكريم المنان سيقبل منه عمله بمحض فضله، وهو بذلك يسد الباب أمام إبليس وأعوانه الذين يوجهون إلى قلب المؤمن سهام اليأس والتقنيط، قال -تعالى-: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]، وقال: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر:56].
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن حسن الظن بالله تعالى من حسن العبادة". رواه أبو داود والترمذي.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يرويه عن ربه من الأحاديث القدسية: "أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله". رواه الإمام أحمد، وصحّحه الألباني.
وإنّي لآتي الذنْبَ أعرِفُ قَدْرَهُ | وأعـلمُ أن اللهَ يعفـو ويغفِرُ |
لَئِنْ عظَّم الناسُ الذنوبَ فإنها | وإن عظُمَتْ في رحمةِ الله تصغُر |
أما الأمر الثالث: وهو الصدقة والإحسان إلى الفقراء، فهو من الأسباب العظيمة لتكفير الذنوب، وسد العيوب، ونيل المرغوب، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف:88].
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الطويل لكعب بن عجرة -رضي الله عنه-: "يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان، والصوم جُنة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار". رواه الترمذي.
فالصدقة يمحو بها الله الخطايا والذنوب، وهي كفارة لما فات، وجلْب للتوفيق فيما هو آتٍ، وأنتم تلاحظون -معاشر الأحباب- أن كل الكفارات في شرعنا فيها إطعام المساكين، فهو من الصدقة المرتبطة بتكفير الذنوب.
قال عبد العزيز بن عمير -رحمه الله-: "الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه".
أما الرابع: فإنه من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الكبير المتعال، وهو الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى، والرسول المرتضى، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
يكفي في بيان فضل الصلاة على النبي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات". رواه مسلم.
وفي رواية عبد الرحمن بن عوف عنه -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لقيت جبريل فقال لي: إني أبشرك أن الله -تعالى- يقول: مَن سلم عليك سلمتُ عليه، ومن صلى عليك صليتُ عليه". رواه الإمام أحمد.
وفي حديث ابن مسعود حينما قال له: "أجْعَلُ صلاتي كلَّها لك؟!"، قال له المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إذن؛ تُكْفَ همَّك، ويُغفَر ذنبُك".
فأكثِروا من الصلاة والسلام عليه؛ فإنها من أفضل أعمالكم، وأذكاها عند مليككم، ومن خصائصها: تكفير السيئات، ورفعة الدرجات، والإكثار منها عند الدعاء سبب لإجابته.
ومَن أدمن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- حالفه التوفيق والثبات، ونوَّر الله وجهه وقلبه، وسدد رأيه ونطقه، ووسع رزقه، وختم له بالسعادة، ونوَّر قبره، ويسر حسابه، ويمَّن كتابه.
اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين، وصل على سيدنا محمد في الآخِرين، وصل على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، صلاة ترضيك وترضيه، وترضى بها عنا يوم القيامة يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوالنا...