الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
إِنَّ الحِفَاظَ عَلَى هُوِيَّةِ الأُمَّةِ المُسلِمَةِ وَقِيَمِهَا وَأَخلاقِهَا، لَيسَ مَسؤُولِيَّةَ الحُكُومَاتِ وَحدَهَا وَلا مَسؤُولِيَّةَ الوُلاةِ، وَلا هُوَ مَسؤُولِيَّةَ العُلَمَاءِ وَحدَهُم وَلا الخُطَبَاءِ وَلا الدُّعَاةِ، وَلَكِنَّهُ مَسؤُولِيَّةُ مُجتَمَعٍ بِأَسرِهِ، وَحِملٌ مَنُوطٌ بِجَمِيعِ أَبنَائِهِ، وَالمُجتَمَعُ المُسلِمُ يَجِبُ أَن يَكُونَ مُنفَرِدًا بِبِنَاءِ قِيَمِهِ، وَأَن يَستَمِدَّهَا...
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ الَّذِي بِنِعمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ، نَحمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَنَا إِلَيهِ مِنَ الحَسَنَاتِ، وَنَشكُرُهُ عَلَى مَا أَولانَا مِنَ الخَيرَاتِ، وَنَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ في الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ وَالأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ، شَهَادَةً نَرجُو الثَّبَاتَ عَلَيهَا في الحَيَاةِ وَعِندَ المَمَاتِ، وَنَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ مِن جَمِيعِ البَرِيَّاتِ، أَكمَلَ اللهُ بِهِ الرِّسَالاتِ، وَبَعَثَهُ رَحمَةً لِجَمِيعِ الكَائِنَاتِ، وَأَنزَلَ عَلَيهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، مَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ فَازَ بِالجَنَّاتِ، وَمَن خَالَفَ هَديَهُ وَسَارَ وَرَاءَ الضَّلالاتِ، مُنِيَ في حَيَاتِهِ بِالضَّنكِ وَالحَسَرَاتِ، وَطُرِحَ في الآخِرَةِ في الدَّرَكَاتِ. صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ البَرَرَةِ الثِّقَاتِ، وَعَلَى أَزوَاجِهِ الطَّيِّبَاتِ الطَّاهِرَاتِ، وَمَن تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ إِلى يَومِ الدِّينِ وَنَشرِ العِظَامِ البَالِيَاتِ.
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: أَمسِ كُنَّا في رَمَضَانَ، وَاليَومَ نَحنُ في عِيدِ الفِطرِ، يَومَانِ مُتَتَالِيَانِ، أَوَّلُهُمَا يَحرُمُ فِطرُهُ، وَالآخَرُ يَحرُمُ صَومُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِأَمرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا عَلَينَا إِلاَّ الاستِسلامُ وَالانقِيَادُ التَّامُّ، نَتَعَبَّدُ اللهَ بِالفِطرِ كَمَا تَعَبَّدنَاهُ بِالصَّومِ، وَنَعِيشُ اليَومَ فَرحَةَ الِفطرِ، وَنَرجُو أَن نَنَالَ الفَرحَةَ الكُبرَى في الآخِرَةِ بِصَومِنَا، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "لِلصَّائِمِ فَرحَتَانِ يَفرَحُهُمَا، إِذَا أَفطَرَ فَرِحَ بِفِطرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَومِهِ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ). اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لِكُلِّ أُمَّةٍ ثَوَابِتُ تَتَوَارَثُهَا أَجيَالُهَا، وَيَتَنَاقَلُهَا أَبنَاؤُهَا، وَهِيَ مَعَالِمُ تُكَوِّنُ شَخصِيَّتَهَا وَتُمَيِّزُهَا عَن غَيرِهَا، وَتَحفَظُ كِيَانَهَا وَتُحَافِظُ عَلَى وُجُودِهَا، وَمَهمَا يَكُنْ مِن حَتمِيَّةِ تَأَثُّرِ الأُمَمِ بِبَعضِهَا بِحُكمِ الجِوَارِ أَوِ المُخَالَطَةِ, أَو بِسَبَبِ تَبَادُلِ المَنَافِعِ الدُّنيَوِيَّةِ المُختَلِفَةِ، إِلاَّ أَنَّ مِمَّا يُعَدُّ دَلِيلًا عَلَى عُمقِ حَضَارَةِ أُمَّةٍ وَقُوَّةِ شَخصِيَّتِهَا، قُدرَتَهَا عَلَى التَّأثِيرِ في غَيرِهَا، وَقُدرَتَهَا عَلَى ضَبطِ تَأَثُّرِهَا بِغَيرِهَا وَتَرشِيحِهِ، وَاقتِصَارَهَا عَلَى مَا لا بُدَّ لَهَا مِنهُ، وَإِلاَّ كَانَت أُمَّةً تَابِعَةً غَيرَ مَتبُوعَةٍ، بَعِيدَةً كُلَّ البُعدِ عَن التَّأثِيرِ وَالقِيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ. اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد جَاءَ الإِسلامُ مِن عِندِ اللهِ كَامِلاً مُكَمَّلاً؛ لِتَشكِيلِ الوَاقِعِ وَتَغيِيرِهِ، لا لِلاستِسلامِ لَهُ وَالسَّيرِ عَلَى مَا يَفرِضُهُ, لَكِنَّ تَغَافُلَ المُسلِمِينَ عَن هَذِهِ الحَقِيقَةِ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم، أَدَّى إِلى تَهَاوِي كَثِيرٍ مِن أَحكَامِ الشَّرِيعَةِ وَقِيَمِهَا، أَمَامَ سُلطَةِ الوَاقِعِ الَّذِي فَرَضَ نَفسَهُ وَضَغَطَ عَلَى المُجتَمَعَاتِ شَيئًا فَشَيئًا, حَتى أَصبَحَ مَظهَرُ المُسلِمِينَ في بَعضِ بُلدَانِهِم لا يُعَبِّرُ عَن دِينِهِم وَلا يُمَثِّلُ تَارِيخَهُم، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيجٌ مِن تَنَاقُضَاتٍ بَشِعَةٍ، وَتَدَاخُلٌ بَينَ هَيئَاتٍ اجتِمَاعِيَّةٍ مُستَورَدَةٍ، وَبَينَ مُكَوَّنَاتٍ أَصِيلَةٍ بَاهِتَةٍ، تَظهَرُ حِينًا وَتَغِيبُ أَحيَانًا.
وَإِنَّهُ مَهمَا يَكُنْ مِن أَسبَابِ هَيمَنَةِ الاستِعمَارِ وَطُغيَانِ قِيَمِهِ الهَشَّةِ وَمُبَادِئِهِ الرَّخِيصَةِ وَأَخلاقِهِ المُنحَطَّةِ، فَإِنَّهُ لم يَكُنْ لِيُؤَثِّرَ هَذَا التَّأثِيرَ المُؤلِمَ، لَولا غِيَابُ المُمَانَعَةِ المُجتَمَعِيَّةِ أَو ضَعفُهَا؛ وَتَشَرُّبُ النَّاسِ لِمَا يُصَبُّ عَلَيهِم مِن مُنكَرَاتٍ وَرِضَاهُم بها، ومُشَارَكَتُهُم فِيهَا وَخِفَّتُهُم إِلَيهَا، جَريًا وَرَاءَ الأَهوَاءِ المُضِلَّةِ، وَانقِيَادًا لِلرَّغَبَاتِ الجَامِحَةِ.
وَإِنَّنا حِينَ نَقُولُ إِنَّ المُجتَمَعَ المُسلِمَ، يَجِبُ أَن يَقتَصِرَ عَلَى دِينِهِ وَبِيئَتِهِ وَتَارِيخِهِ وَمُقَدَّرَاتِ أَرضِهِ وَلُغَتِهِ في إِنتَاجِ آدَابِهِ وَأَخلاقِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَعَادَاتِهِ وَأَعرَافِهِ، وَأَن يَرفُضَ تَبَنِّيَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنَّنَا لا نَدعُوهُ إِلى الانكِفَاءِ عَلَى نَفسِهِ وَرَفضِ التَّأَثُّرِ بِالآخَرِينَ بَإِطلاقٍ، وَلَكِنَّ المَقصُودَ أَن يَكُونَ أَكثَرَ وَعيًا في التَّفَاعُلِ، وَأَشَدَّ اهتِمَامًا بِتَصفِيَةِ مَا يَرِدُ عَلَيهِ مِن قِيَمٍ خَارِجَةٍ عَنهُ, وَأَن يُغَربِلَهَا وَيَتَفَحَّصَهَا وَيُمَحِّصَهَا، فَيَأخُذَ مِنهَا مَا لا يُخَالِفُ عَقِيدَتَهُ، وَيَرفُضَ مَا فِيهِ هَدمٌ لِدِينِهِ، وَيُصَحِّحَ مَا يُمكِنُ تَصحِيحُهُ وَالانتِفَاعُ بِهِ.
أَجَل - أَيُّهَا الإِخوَةُ - إِنَّ المُمَانَعَةَ المُجتَمَعِيَّةَ هِيَ أَقوَى وَسِيلَةٍ لِحِفظِ الهَيئَةِ الاجتِمَاعِيَّةِ لِلأُمَّةِ، وَصِيَانَتِهَا مِن أَن تَضمَحِلَّ أو تَذُوبَ في قِيَمٍ غَرِيبَةٍ عَنهَا، وَلَولا أَنَّ المُجتَمَعَاتِ تَخَلَّت عَن مَسؤُولِيَّاتِهَا في حِفظِ أَخلاقِهَا وَعِبَادَاتِهَا وَعَادَاتِهَا وَتَصَوُّرَاتِهَا, وَقَبِلَتِ التَّمَرُّدَ عَلَى فَهمِ الصَّحَابَةِ وَخَيرِ القُرُونِ لِلدِّينِ مِن وَقتٍ مُبَكِّرٍ، لَمَا استَطَاعَ الغَربُ الكَافِرُ في العُصُورِ المُتَأَخِّرَةِ، بَإِرسَالِهِ قَلِيلًا مِنَ أَبنَائِهِ مِن عَسكَرِيِّينَ أَو عُمَّالٍ أَو مُستَشرِقِينَ, أَو بَثِّهِ سُمُومَهُ عَبرَ قَنَوَاتِهِ المُتَعَدِّدَةِ، أَن يُغَيِّرَ وَجهَ مُجتَمَعٍ عَرِيقٍ في قِيَمِهِ وَحَضَارَتِهِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ السَّرِيعَةِ, فَيَجعَلَهُ في بَعضِ جِهَاتِهِ مِسخًا مُشَوَّهًا، وَصُورَةً لِمُجتَمَعَاتٍ لا تَعرِفُ اللهَ وَلا تَدِينُ بِدِينٍ، حتى وَصَلَ الإِسلامُ في بَعضِ بِلادِهِ إِلى مَرحَلَةِ الغُربَةِ الَّتي أَخبَرَ عَنهَا الحَبِيبُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حِيثُ قَالَ في الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ: "بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا".
إِنَّ الحِفَاظَ عَلَى هُوِيَّةِ الأُمَّةِ المُسلِمَةِ وَقِيَمِهَا وَأَخلاقِهَا، لَيسَ مَسؤُولِيَّةَ الحُكُومَاتِ وَحدَهَا وَلا مَسؤُولِيَّةَ الوُلاةِ، وَلا هُوَ مَسؤُولِيَّةَ العُلَمَاءِ وَحدَهُم وَلا الخُطَبَاءِ وَلا الدُّعَاةِ، وَلَكِنَّهُ مَسؤُولِيَّةُ مُجتَمَعٍ بِأَسرِهِ، وَحِملٌ مَنُوطٌ بِجَمِيعِ أَبنَائِهِ، وَالمُجتَمَعُ المُسلِمُ يَجِبُ أَن يَكُونَ مُنفَرِدًا بِبِنَاءِ قِيَمِهِ، وَأَن يَستَمِدَّهَا مِن دِينِهِ وَمِن بِيئَتِهِ وَتَارِيخِهِ وَمُقَدَّرَاتِهِ، فَأُمَّتُنَا هِيَ خَيرُ الأُمَمِ وَأَفضَلُهَا، وَمَصدَرُ خَيرِيَّتِهَا هُوَ التِزَامُهَا بِالدِّينِ وَتَعالِيمِهِ وَقِيَمِهِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].
وَالمُجتَمَعُ الَّذِي يَشعُرُ بِخَيرِيَّتِهِ عَلَى الأُمَمِ جِمِيعِهَا, وَإِكرَامِ رَبِّهِ لَهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيهَا يَومَ القِيَامَةِ، لا يُمكِنُ أَن يُستَخَفَّ إِلى مَا تُنتِجُهُ الأُمَمُ الأُخرَى مِن قِيَمٍ هَشَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِمَا لَدَيهِ, وَأَمَّا حِينَ يَغِيبُ هَذَا الشُّعُورُ بِالخَيرِيَّةِ عَنِ المُجتَمَعِ وَخَاصَّةً في ظُرُوفِ الضَّعفِ السَّيَاسِيِّ وَالاقتِصَادِيِّ وَالعَسكَرِيِّ، فَإِنَّ نَتِيجَةَ ذَلِكَ هِيَ الشُّعُورُ بِالنَّقصِ وَالهَوَانِ أَمَامَ تِلكَ الأُمَمِ, وَمِن ثَمَّ فَتحُ القُلُوبِ وَالعُقُولِ وَالبُيُوتِ أَمَامَ كُلِّ تَغيِيرٍ يَأتِي مِن قِبَلِ تِلكَ الأُمَمِ الغَالِبَةِ.
وَأَمرٌ آخَرُ يُشعِرُ بِمَسؤُولِيَّةِ الأُمَّةِ عَن نَفسِهَا، أَلا وَهُوَ رَبطُ خَيرِيَّتِهَا بِأُسلُوبٍ مِن أَسَالِيبِ المُمَانَعَةِ المُجتَمَعِيَّةِ، أَلا وَهُوَ الأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ، قَالَ – تَعَالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].
وَأَمرٌ ثَالِثٌ يَؤَكِّدُ هَذَا الارتِبَاطَ الوَثِيقَ بَينَ خَيرِيَّةِ الأُمَّةِ وَمَنَاعَةِ قِيَمِها، ذَلِكُم هُوَ مَبدَأُ التَّوَاصِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ المُؤمِنُونَ, قَالَ – تَعَالى -: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1 - 3].
وَأَمَّا الرَّابِعُ مِن شَوَاهِدِ مُنَادَاةِ الإِسلامِ بَالمُمَانَعَةِ المُجتَمَعِيَّةِ، فَهِيَ عَقِيدَةُ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ, الَّتي تَدعُو إِلى بُغضِ الكَافِرِ بُغضًا يَسُوقُ القُلُوبَ المُؤمِنَةَ إِلى مُجَافَاةِ مَا يَأتي بِهِ مِن قِيَمٍ وَأَخلاقٍ, وَلا شَكَّ أَنَّ أَعدَاءَ الإِسلامِ لم يَتَمَكَّنُوا مِنِ اختِرَاقِ المُجتَمَعَاتِ الإِسلامِيَّةِ عَسكَرِيًّا أَو قِيمِيًّا وَأَخلاقِيًّا، إِلاَّ بَعدَ أَن حَطَّمُوا حَاجِزَ البَرَاءِ مِنَ الكَافِرِينَ لَدَى تِلكَ المُجتَمَعَاتِ وَاختَرَقُوهُ وَأَضعَفُوهُ.
وَأَمَّا الخَامِسُ مِن شَوَاهِدِ مُنَادَاةِ الإِسلامِ بِالمُمَانَعَةِ المُجتَمَعِيَّةِ، فَهُوَ نَهيُ الحَبِيبِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ– نَهيًا عَامًّا وَخَاصًّا عَن مُشَابَهَةِ الكَافِرِينَ بِجَمِيعِ أَصنَافِهِم، وَفي كُلِّ مَا قَد يُوهِمُ التِقَاءَ المُسلِمِينَ بِهِم في هَيئَةٍ أَو خُلُقٍ, قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "مَن تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنهُم"(رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ), وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "لَيسَ مِنَّا مَن تَشَبَّهَ بِغَيرِنَا، لا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَلا بِالنَّصَارَى"(رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).
وَمَعَ هَذَا التَّأكِيدِ المُستَمِرِّ عَلَى مُخَالَفَةِ الكُفَّارِ في العَادَاتِ وَالعِبَادَاتِ، فَقَد جَاءَ النَّصُّ عَلَى النَّهيِ عَنِ اتِّبَاعِهِم في الأَفكَارِ, قَالَ – تَعَالى -: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[المائدة: 48].
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ –أَيُّهَا المُسلِمُونَ– وَلْنُحَافِظْ عَلَى عَقِيدَتِنَا وَقِيَمِنَا وَأَخلاقِنَا، وَلْنَعتَزَّ بِإِسلامِنَا وَاستِقَامَةِ مُجتَمَعِنَا، وَحَذَارِ حَذَارِ، مِن أَن يَستَخِفَّنَا الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ، بِلَعِبٍ أَو تَرفِيهٍ، أَو تَضيِيعِ أَوقَاتٍ في مُتَابَعَةِ التُّرَّهَاتِ وَالمُلهِيَاتِ، في وَسَائِلِ الاتِّصَالِ أَو بَرَامِجِ التَّوَاصُلِ أَوِ القَنَوَاتِ، أَو المَسَارِحِ أَو الحَفَلاتِ أَوِ السَّهَرَاتِ، لِنَحفَظْ أَنفُسَنَا وَأَمَانَاتِنَا، وَلْنَرعَ مَسؤُولِيَّاتِنَا وَمَن تَحتَ أَيدِينَا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 27 - 30]. اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
الخطبة الثانية:
اللهُ أَكبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً، وَأَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرسَلَهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلى اللهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا. اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: العِيدُ أَلوَانٌ زَاهِيَةٌ وَمَشَاهِدُ جَمِيلَةٌ، يَجمَعُهَا شُعُورُ الفَرحَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَالفَرَحُ الكَامِلُ حَقٌّ لِكُلِّ عَبدٍ مَنَّ اللهُ -تَعَالى- عَلَيهِ بِإِكمَالِ عِدَّةِ الصِّيَامِ، وَوَفَّقَهُ لِلصَّلاةِ وَالقِيَامِ، وَفَازَ بِإِدرَاكِ لَيلَةِ القَدرِ وَأَدَّى زَكَاةَ الفِطرِ، وَأَخَذَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ في الشَّهرِ الكَرِيمِ مِن خِصَالِ الإِيمَانِ وَالإِحسَانِ، فَفَطَّرَ الصَّائِمِينَ وَأَعَانَ المَسَاكِينَ، وَفَرَّجَ الكُرُبَاتِ وَقَضَى الحَاجَاتِ، وَكَانَت لَهُ خَتَمَاتٌ وَلَهَجَ بِصَالِحِ الدَّعَوَاتِ، وَذَكَرَ اللهَ –تَعَالى- وَكَبَّرَهُ، وَشَهِدَ هَذِهِ الصَّلاةَ وَعَظَّمَ شَعِيرَةَ اللهِ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58].
وَمَا لَبسُ جَدِيدِ الثِّيَابِ وَتَنَاوُلُ الحَلْوَيَاتِ، وَتَوزِيعُ الهَدَايَا وَتَبَادُلُ التَّهَانِي وَالبَسَمَاتِ، إِلاَّ جُزءٌ يَسِيرٌ مِنَ الفَرَحِ الكَبِيرِ، فَرَحِ القُلُوبِ وَالأَروَاحِ بِالهِدَايَةِ إِلى دِينِ الإِسلامِ، وَالتَّوفِيقِ لِلعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، ثم اجتِمَاعِ المُسلِمِينَ في مَسَاجِدِهِم وَمُصَلَّيَاتِهِم، وَتَفَقُّدِهِم لِمَن حَولَهُم، وَإِدخَالِ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِ بَعضِهِم، بِإِعطَاءِ المَحرُومِ وَنَصرِ المَظلُومِ، وَتَنفِيسِ كَربِ المَكرُوبِ وَإِعَانَةِ المَنكُوبِ، وَإِطعَامِ الجَائِعِ وَفَكِّ العَاني، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَزِيَارَةِ القَرِيبِ، وَتَصَافُحِهِم وَتَصَالُحِهِم، وَتَوَاصُلِ أَجسَادِهِم وَتَعَانُقِ قُلُوبِهِم، وبَذلِ الخَيرِ بِكُلِّ أَنوَاعِهِ. اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
يَا نِسَاءَ المُسلِمِينَ: يَا أُمَّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا، أَيَّتُهَا الزَّوجَاتُ وَالبَنَاتُ، زُبدَةُ القَولِ لَكُنَّ مِن خِضَمِّ مَا يَدُورُ في الوَاقِعِ، وَمَحضُ النُّصحِ لَكُنَّ مِمَّا نَدِينُ اللهَ بِهِ، أَنَّ كُلَّ مَا تَسمَعْنَ بِهِ مِن دَعَوَاتٍ تُنَادِي بِمَا تَزعمُهُ مِن حُقُوقٍ لِلمَرأَةِ، أَنَّهَا دَعَوَاتٌ تَنطَلِقُ مِن رُؤًى غَربِيَّةٍ مَاكِرَةٍ، صِيغَت لِمُجتَمَعَاتٍ كَافِرَةٍ فَاجِرَةٍ، فَهِيَ تُخَالِفُ ثَقَافَاتِنَا وَعَادَاتِنَا، وَتَوَاجِهُ شَرِيعَتَنَا، وَتَفُلُّ أَحكَامَ شَرعِنَا، بَل هِيَ وَاللهِ مُصَادَمَةٌ لِلفِطرَةِ الإِنسَانِيَّةِ السَّوِيَّةِ.
إِنَّ تِلكَ الحُقُوقَ المَزعُومَةَ المَوهُومَةَ تَدعُو إِلى تَمَرُّدِ المَرأَةِ عَلَى مُجتَمَعِهَا، وَتُزَيِّنُ لَهَا الانسِلاخَ مِن حَيَائِهَا الَّذِي هُوَ زِينَتُهَا، وَتُشَجِّعُهَا عَلَى الانفِلَاتِ مِن وِلايَةِ الرَّجُلِ الَّتي كَرَّمَهَا اللهُ بِهَا، وَجَعَلَهَا صِيَانَةً لَهَا وَتَقوِيَةً لِجَانِبِهَا وَحِمَايَةً لِعِرضِهَا.
وَإِنَّ مَآلَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَغَايَتَهَا هُوَ هَدمُ الأُسرَةِ وَتَقوِيضُ بُنيَانِهَا وَتَشتِيتُ شَملِهَا، لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الوُصُولِ إِلى المَرأَةِ وَالانفِرَادِ بِهَا، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا رَغمًا عَنهَا، وَإِلاَّ فَأَيُّ خَيرٍ في حُقُوقٍ يُقَدَّمُ فِيهَا تَعلِيمُ الغَنَاءِ وَالرَّقصِ وَالتَّمثِيلِ وَالجُرأَةِ عَلَى نَزعِ الحِجَابِ وَغَشَيَانِ مَجَامِعِ الرِّجَالِ عَلَى تَعلِيمِ أَسَاسِيَّاتِ الحَيَاةِ الثَّقَافِيَّةِ فَضلاً عَنِ العُلُومِ الشَّرعِيَّةِ وَالأُسْرِيَّةِ؟! ثم لِمَاذَا تَنصَرِفُ هَذِهِ الدَّعَوَاتُ عَنِ النِّسَاءِ المُسِنَّاتِ وَالمَرِيضَاتِ، وَتَتَجَاهَلُ الأَرَامِلَ وَالمُطَلَّقَاتِ وَالعَاجِزَاتِ، وَتُرَكِّزُ عَلَى الشَّابَّاتِ الجَمِيلاتِ وَالحَسْنَاوَاتِ الفَاتِنَاتِ؟!
لَقَدِ استَبَانَ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُنصِفٍ سَبِيلُ تِلكَ المُجتَمَعَاتِ الَّتِي استُورِدَت مِنهَا تِلكَ الدَّعَوَاتُ المُرِيبَةُ، وَاتَّضَحَ بَلِ افتُضِحَ خُلُقُ أَهلِهَا وَبَشَاعَةُ طَرِيقَتِهِم وَبَهِيمِيَّةُ مُعَامَلَتِهِم لِلمَرأَةِ، حَيثُ اتَّخَذُوهَا في شَبَابِهَا أُلعُوبَةً لإِشبَاعِ غَرِيزَةِ الرَّجُلِ وَاستِمتَاعِهِ بِهَا، فَإِذَا كَبِرَت وَعَادَت لا تُشبِعُ غَرَائِزَهُ، فَقَدَت حُقُوقَهَا عِندَهُ وَسَقَطَت قِيمَتُهَا، وَأُلقِيَ بِهَا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لِتَلقَى مَصِيرَهَا مَعَ كَلبٍ أَو حَيَوَانٍ آخَرَ أَلِيفٍ، فَاللهَ اللهَ – أَيَّتُهَا المُؤمِنَاتُ – فَإِنَّ حُقُوقَكُنَّ أُمَّهَاتٍ وَبَنَاتٍ وَأَخوَاتٍ وَزَوجَاتٍ، لم يَأتِ بِهَا أَحَدٌ كَالإِسلامِ، فَتَمَسَّكْنَ بِهِ وَلا تَبْرَحْنَ جَنَّتَهُ، حَافِظْنَ عَلَى حِجَابِكِنَّ، وَاحفَظْنَ حَيَاءَكُنَّ، وَالزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ، وَأَطِعْنَ أَزوَاجَكُنَّ، وَصَلِّينَ خَمسَكُنَّ، تَدخُلْنَ الجَنَّةَ مَعَ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ وَنِسَاءِ المُسلِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ: مَا أَجمَلَ الطَّاعَةَ بَعدَ الطَّاعَةِ، فَصُومُوا سِتَّ شَوَّالٍ شُكرًا للهِ وَتَزَوُّدًا مِنَ الخَيرِ، قَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "مَن صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ"(رَوَاهُ مُسلِمٌ).
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.