البحث

عبارات مقترحة:

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

الخلاق

كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

إحياء قرية كاملة

العربية

المؤلف خالد القرعاوي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. سورة الخير والبركة .
  2. تأملات في قصة من قصص القرآن .
  3. منهج القصة في القرآن الكريم .
  4. قصة القرية وعزير عليه السلام .
  5. دلائل قصة العزير عليه السلام. .

اقتباس

اللهُ هُوَ الَّذِي بَثَّ الحَيَاةَ وَالرُّوحَ، وَهُوَ الذي يُفْنِي المَمَالِكَ وَالمُلُوكَ! جَاءَتْ هَذِهِ الآيَاتِ لِتُؤَكِّدَ الإيمانَ العَمِيقَ بِاللهِ –تَعَالى-، وَأنَّهُ الذي يُحْيي وَيُمِيتُ، وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ! وَأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ وَإنْ طَغَى وَتَجَبَرَ أنَّهُ سَيفَنَى وَيَمُوتُ!، وَتَغْرِسُ فِي النُّفُوسِ قضيةً عَقَدِيَّةً كُبْرَى أنَّ...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ مَنَّ عَلَينَا بِإتْمَامِ الصِّيامِ والقِياَمِ، أَنزَلَ علينا القُرآنَ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ من الهدى والفُرقانِ، نَشهدُ ألَّا إله إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ عَظيمُ الجَلالِ والشَّأنِ، ونَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بَعثه اللهُ أَمَانًا للإنْسِ وَالجَآنِّ، اللهمَّ صَلِّ وَسلِّمَ وَبَارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أُولِي التُّقى والإيمانِ، ومن تبعهم بإحسانٍ.

أمَّا بعدُ: يَا مُسْلِمُونَ: التَزِمُوا تَقوى اللهِ سِرًّا وإعلانًا، وَحافِظُوا على صَومِكُم، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُم، وَتَأَمَّلُوا كِتَابَ رَبِّكُم، فَهُوَ كِتَابٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. أَنزَلَ فيهِ أَحسَنَ القَصَصِ وأَصدَقَها وَأنفَعَها: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)[الأنعام: 57].

ولنَتَأَمَّلْ اليومَ قِصَّةً في سُورَةِ الخَيرِ والبَرَكَةِ، قَالَ عَنْها نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ". يعني السَّحَرَةَ. بَل مِن عَظِيمِ نَفْعِهَا أَنَّ نَبِيَّنا -عَليهِ الصَّلاةُ والَسَلامُ- قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ".

دَعُونيَ أنْقُلُكُمْ إلى رِحَابِ الوَحي الطَّاهِرِ، حَيثُ يَعْرِضُ عَلينَا مَشْهَدَ قِصَّةٍ مُذْهِلَةٍ بِحَقٍّ! تَروي لَنَا شَيئًا مِن دَلائِلِ عَظَمَةِ اللهِ وَأَمَارَاتِ قُدْرَتِهِ، وَعَلامَاتِ أُلُوهِيَّتِهِ.

تَأَمَّلُوا فِي قَرْيَةٍ كَانتْ هَادِئَةً آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً! بُيُوتُها عَامِرَةٌ، وَسَعَادَتُها غَامِرَةٌ، تَنَامُ فِي أَحْضَانِ النَّعِيمِ، وَتَصْبِحُ فِي أَفْنَانِ السُّرُورِ! إذْ بِمَلِكٍ ظَالِمٍ! وَزَعِيمٍ جَائِرٍ، قَدْ أَلْبَسَهُ اللهُ الْهَيْبَةَ وَنَزَعَ مِنْ صَدْرِهِ الرَّحْمَةَ! يَتَقَدَّمُ بِجَيشٍ مِثْلِ سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ! فَيَعِيثُ فِي القَرْيَةِ فَسَادًا! قَتَّلَ أَهْلَهَا، وَفَرَّقَ سُكَانَهَا، وَهَدَّمَ قُصُورَهَا، وَدَمَّرَ شَبَابَهَا، وَسَبَى نِسَاءَها! وَجَعَلَ عَالِيَ القَرْيَةِ سَافِلَهَا! ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهَا وَتَرَكَهَا خَرَابًا، تَنْعِقُ الغِربَانُ عَلى جِيَفِهَا! وَتَتَغَذَّى الدِّيدَانُ عَلى جُثَثِ أهْلِها!

أتَدْرُونَ يَا مُؤمِنُونَ: تَأمَّلُوا خَبَرَ اللهِ –تَعَالى- حِينَ قَالَ: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)[البقرة: 259]! لَمْ يَذْكُرِ اللهُ -تَعَالى- مَنْ هُو الرَّجُلَ، وَلا اسْمَ القَرْيَةِ، ولا أَسْبَابَ خَوائِهَا وَدَمَارِهَا، وَلا مَنْ يَسْكُنَها! بَل ترَكَّزَ الحَدِيثُ على شَاهِدِ القِصَّةِ، وَأَصْلِ مَوضُوعِها: وَهُو بَيَانُ القُدْرَةِ الرَّبَانِيَّةِ، وَالمُعْجِزَةِ الإلَهِيَّةِ، وَسَبَبُ الهَلاكِ والعَذَابِ! وهَذَ دَأبُ القُرْآنِ فِي كُلِّ القَصَصِ!

وإنْ كَانَ جَمْعٌ مِن المُفَسِّرِينَ -عليهم رَحْمَةُ اللهِ- بَيَّنُوا أَنَّ القَريَةَ هِي بَيتُ المَقْدِسِ، والرَّجُلَ هُوَ عُزَيْرٌ -عَلَيهِ السَّلامُ-! وَالذي دَمَّرَّها عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ! وَأنَّ سَبَبَ هلاكِهِمْ حِينَ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِيهم، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ: "أَنْ ذَكِّرْ قَوْمَكَ نِعَمِي وَعَرِّفْهُم أَحْدَاثَهُمْ، وَادْعُهُمْ إِلَيَّ"، فَخَطَبَهُمْ خُطْبَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً بَيَّنَ لَهُمْ فِيهَا ثَوَابَ الطَّاعَةِ وَعِقَابَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِمَّا قَالَهُ: "إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبُّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ عَفَا عَنَّا فَبِرَحْمَتِهِ".

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً وَتَمَادِيًا فِي الشَّرِّ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ؛ جَبَّارٌ فَارِسِيٌّ خَرَجَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ! فَدَخَلَ بِجُنُودِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَتَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ! فَصَارتْ خَرَابَا كَما وَصَفَهَا اللهُ –تَعالى-: (خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا)[البقرة: 259]! أَيْ: سَاقِطَةٌ سُقُوفُهَا وَجُدْرَانُهَا عَلَى جَنَبَاتِهَا، خَالِيَةٌ مِنَ النَّاسِ!

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ من الزَّمَنِ مَرَّ عُزَيْرٌ -عَلَيهِ السَّلامُ- على تِلكَ القَرْيَةِ؛ فَهَالَهُ مَا رَأَى مِنْ خَرابِهَا! قَدِمَ مُمْتَطِيًا ظَهْرَ حِمَارِهِ، مَعَهُ قَلِيلٌ مِن التَّمْرِ، وَشَيءٌ مِن التِّينِ، وَشَرَابٌ مِن عَصِيرِ الِعنَبِ! فَحِينَمَا رَأَى هَذا المَنْظرَ المُبْكِي! وَالقَرْيَةَ المُبَادَةَ المُسَوَّاةَ بِالأَرْضِ قَالَ فِي دَهْشَةٍ: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)[البقرة: 259]؟!

لَمْ يَكُنْ عُزَيرٌ -عَلَيهِ السَّلامُ-، شَاكًّا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللهِ، وَلا مُسْتَعْظِمَا شَيئَا عَليهِ -سُبْحَانَهُ-، وَلَكِنْ لِمَا رَأَى مِنْ شِدَّةِ خَرَابِهَا، وَعَظِيمِ دَمَارِهَا، قَالَ: كَيفَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟! أَو مَتَى يُحْيِيها؟ فالاسْتِبْعَادُ نَاشِئٌ مِنْ جِهَتِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ –سُبْحَانَهُ-.

فَأرَادَ اللهُ –تَعالى- أنْ يُرِيَهُ دَرْسًا مَرْئِيًّا عَيَانًا بَيَانًا: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ)!. نَعَمْ أَمَاتَهُ اللهُ مُبَاشَرَةً مِن غَيرِ مَشُوَرَةٍ ولا استِئذَانٍ! لأنَّهُ –سُبْحَانَهُ- لا يُسأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَإذَا أَرَادَ شَيئَا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ!

أمَاتَهُ اللهُ مَوتَا حَقَيقِيَّا! وَنَزَعَ مِنْهُ الرُّوحَ مِائَةَ عَامٍ، وَأَمَاتَ حِمَارَهُ. وَعَصِيرُهُ وَتِينُهُ عِنْدَهُ! فَأَعْمَى اللَّهُ عَنْهُ الْعُيُونَ فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَذَلِكَ ضُحًى وَمَنَعَ اللَّهُ عَنْهُ السِّبَاعَ! فَلَمَّا مَضَى مِنْ مَوْتِهِ سَبْعُونَ سَنَةً أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ: "إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُعَمِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيلِيَاءَ حَتَّى يَعُودَ أَعْمَرَ مَا كَانَ". فَعَمَّرُوهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَإذا المَدِينَةُ قَد اكْتَمَلَتْ، وَقُصورُهَا قَدْ بُنِيَتْ! وَآبَارُهَا حُفِرَتْ! وَسُكَّانُها عَادُوا إليها! وَكَأَنَّهَا لَمْ تَعْرِفِ دَمَارًا قَطُّ!

فَماذا حَدَثَ يَا تُرى؟ لَقَدْ حَدَثَتْ آيَاتُ عُظْمَى ذَكَرَهَا اللهُ في كِتَابِهِ العَزِيزِ! فاللهم انفعنا وارفعنا بالقرآنِ الكَريم وبِهدْي سَيِّدِ المُرسلينَ، أقولُ مَا سمعتمْ وأستغفرُ اللهَ لي وَلَكُمْ وَلِسائِرِ المُسلمينَ؛ فاستغفِرُوهُ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ العَلَيُّ الأعْلى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُمْ اهْتَدَى.

أَمَّا بَعْدُ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مُسْلِمُون وَتَأمَّلُوا كِتَابَ اللهِ –تَعَالَى- كَمَا أمَرَ: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 176].

هَكَذَا يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَقْرأَ قَصَصَ القُرَآنِ الكَرِيمِ، نَقِفُ عِندَ عَجائِبهِا، وَنَتَفَكَّرُ فِي حِكَمِهَا، وَنَعْرِفُ المُرَادَ مِنْهَا، وَنَتَأَمَّلُ فِي دُرُوسِهَا، لِنَعْلَمَ أَنَّ المُسْتَحِيلَ فِي عَالَمِ البَشَرِ، مُمْكِنٌ عِندَ اللهِ -تَعَالَى-، بِصُورَةٍ لَمْ تَخْطِر عَلى بَالِ بَشَرٍ!

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً حينَ قَالَ: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 259].

أتدْرُونَ يا رَعَاكُمُ اللهُ بَعْدَ مَوتِ الرَّجُلِ وَحِمَارِهِ بِمِائَةِ عَامٍ، بَعَثَهُ اللهُ -تَعالى- بَعْدَ مَوتِهِ! نَعمْ أحياهُ مِن جَدِيدٍ فَسَألَهُ: (كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). قالَ هذا: لأنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي جِسْمِهِ ولا طَعَامِهِ تَغَيُّرًا! فاللهُ -جَلَّ وَعَلا- أمَاتَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَبَعَثَهُ آخِرَ النَّهَارِ! وَعُزَيرٌ يَظُنُّ أَنَّهُ فِي نَفْسِ يَومِهِ! فَقَالَ اللهُ بِوَاسِطَةِ المَلَكِ: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)! فَتَمْرُكَ وَتِينُكَ وَعَصِيرُكَ لَمْ يُنْتِنْ!

وَكَأنِّي بالرَّجُلِ يَتَفَقَّدُ أغْرَاضَهُ، فَيَبْحَثُ عَنْ حِمَارِهِ وَوَسِيلَةِ نَقْلِهِ؟ فَإذا هُوَ قَد تَفَرَّقَتْ عِظَامُهُ، وَتَبَدَّدَتْ أَجزَاؤُهُ، وَتَنَاثَرَتْ حَولَه يَمِينًا ويَسَارًا، قَالَ اللهُ لَهُ: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ). انْظُرْ كَيفَ كَانَ؟ ثُمَّ انْظُرْ مَاذَا سَيَحْدُثُ لَهُ الآنَ! تَأَمَّلْ وَدَقِّقَ النَّظَرَ وَانْتَبِهْ! فَسَنَجْعَلُكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَعِظَةً لِلمُعتَبِرينَ، وَدَلِيلاً عَلى مَعَادِ الخَلْقِ أجْمَعينَ!

فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَجَمَعَتْ عِظَامَ حِمَارِهِ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحِلَّةِ، ثُمَّ رَكَّبَ كُلَّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى صَارَ حِمَارًا قَائِمًا مِنْ عِظَامٍ فَقَطْ! يا اللهُ يَرىَ حِمَارَهُ هيكَلاً عَظْمِيًّا فَقَطْ! كَادَ قَلْبُهُ أنْ يَطِيرَ فَرَقَا مِنْ عَظَمَةِ المَشْهَدِ، وَهَوْلِ المَنْظَرِ! ليسَ ذَلِكَ فَحَسْبٌ فَهُنالِكَ مُفَاجَأَةٌ أعْظَمُ: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا). فَبَعْدَ أنْ رُكِّبَتِ العِظَامُ: إذْ بِالَّلحْمِ يَكْسُو العِظَامَ وَهُوَ يَرَى! وَإذْ بِالعَصَبِ والعُرُوقِ تَنْمُو وَهُو يَرَى، وَإذْ بِالجِلْدِ يَنْتَشِرُ وَهُو يَرَى! وَإذْ بِالرُّوحِ تُنفَخُ فِي حِمَارِهْ وَهُو يَرَى! فَيَنْهَقُ الحِمَارُ وَيَستَعِيدُ حَياتَهُ وَكَأَنَّ شَيئًَا لَمْ يَكُنْ!

كُلُّ تِلْكَ المَشَاهِدِ العَظِيمَةِ فِي لَحَظَاتٍ يَسِيرَةٍ! فَمَا كَانَ مِنْهُ إلَّا إذْعَانٌ وَإخْبَاتٌ وَتَوحيدٌ للهِ تَعَالى فَصَرَخَ قَائِلاً: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 259].

نَعَمْ يا مُؤمِنُونَ: لَيسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحِيلٍ عَلى اللهِ –تعَالى- فَاللهُ لا يُعْجِزُهُ شَيءٌ؛ فَالإِنْسَانُ قَدْ قَالَ: (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)؟! فَرَدَّ اللهُ عليهِ: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم: 66- 67].

اللهُ هُوَ الَّذِي بَثَّ الحَيَاةَ وَالرُّوحَ، وَهُوَ الذي يُفْنِي المَمَالِكَ وَالمُلُوكَ! جَاءَتْ هَذِهِ الآيَاتِ لِتُؤَكِّدَ الإيمانَ العَمِيقَ بِاللهِ -تَعَالى-، وَأنَّهُ الذي يُحْيي وَيُمِيتُ، وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ! وَأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ وَإنْ طَغَى وَتَجَبَرَ أنَّهُ سَيفَنَى وَيَمُوتُ!، وَتَغْرِسُ فِي النُّفُوسِ قضيةً عَقَدِيَّةً كُبْرَى أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ بِيدِ اللهِ –تَعَالى-! وَأَنَّ قُدْرَتَهُ –سُبْحَانَهُ- لا يَحُدُّهَا حَدٌّ، وَلَيس لَها عَن أَحَدٍ مِن خَلْقِهِ رَدٌّ!

جَاءت الآياتِ لِتُؤَكِّدَ أنَّ انْتَشَارَ المَعَاصِيَ، وَعَدَمَ الاسْتِمَاعِ للنَّاصِحِ والدَّاعِيِ أنَّها سَبَبُ الهلاكِ والعَذَابِ! وَحِينَ سُئِلَ رَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".

فَالَّلهُمَّ زِدْنَا مِن الإيمَانِ وَلا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا بِطَاعَتِكَ وَلا تُهِنَّا، ولا تُؤاخِذْنا بِما كَسَبْنَا ولا بِمَا فَعَل السُّفَهاءُ مِنَّا.

الَّلهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن البَلاءِ وَالوَبَاءِ وَالزِّنَا، وَالزَّلازِلِ وَالفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللهمَّ انفعنا وارفعنا بالقُرآنِ الكريمِ، واجعلهُ حُجَّةً لنا لا علينا، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].