الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
والزوجانِ بينهما معروف مترادِف، وجميل متقابِل، أسدى كلُّ واحد منهما للآخَر زهرةَ حياته، وثمرةَ فؤاده، فَحِفْظُ العهدِ وَحُسْنُ العشرةِ والتغافلُ عن الزلات من رَدّ الجميلِ، فإن الحسنات يُذهبن السيئاتِ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَفْرَكُ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، له الحمد كله، وله الْمُلْك كله، وله الفضل، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، في السر والجهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، طاعته واجبة في كل أمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما أقبل ليلٌ وانشق فجرٌ.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
من مبادئ الإسلام وأخلاقه مبادلةُ أهلِ الفضل بالفضل، مقابلة الجميل بالأجمل، وهذه قيمة عظيمة من قِيَم الإسلام في التعامل، قال الله -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرَّحْمَنِ: 60]، فالمسلم لا ينسى أهلَ الفضل عليه، ومن أسدى إليه معروفا يذكر إحسانهم، ويشكر جميلهم، ويقدِّر عطاءهم، كما لا ينسى -في زحمة الحياة وصخب أحداثها- مَنْ جمعتهم به علاقةُ وُدّ ورحمة، وسابِقُ عِشْرَة، ولو شابَها يومًا خلافٌ أو شحناءُ، قال الله -تعالى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 237].
ورسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- سيد أهل الوفاء، علمنا أجمل معاني الإحسان، فقد اعترف بفضل زوجه خديجة بنت خويلد في حياتها وحتى بعد مماتها، وكان يُكثر من ذِكْرها وشكرها، والاستغفار لها، ويقول: "إنها كانت وكانت..."، وربما ذبح الشاة ثم يقطِّعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة.
ولما انتصر المسلمون في "بدر" وأسروا سبعين رجلا من قريش قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان الْمُطْعِم بن عَدِي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتهم له"، مع أن المطعم بن عدي مات كافرا، إلا أن كفره لم يكن مانعا من ذِكْر معروفه الذي أسداه وإكرامه بما يستحق.
وقصص الأنبياء تزخر بمواقف العرفان لذوي الفضل، ومنها ما جاء في قصة موسى -عليه السلام- ووالد المرأتين اللتين سقى لهما، قال تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)[الْقَصَصِ: 25]، فلقي موسى -عليه السلام- جزاء إحسانه وكافأه والدُ الفتاتين لفضله.
أعلى الإسلامُ قدرَ من أسدى إليك معروفا وإحسانا، بل وأكَّد على مكافأته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناسَ" ومعناه: أن الله لا يَقبل شكرَ العبدِ على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسانَ الناس ويكفر معروفَهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر، ومن معنى الحديث: أن من كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس وتَرْك الشكر لهم كان من عادته كفر نعمة الله وترك الشكر له، ومن معناه: أن مَنْ لا يشكر الناس كمن لا يشكر الله.
وصُوَر ردّ الجميل الذي يسعى للوفاء به أهل الوفاء بالأقوال والأفعال والمشاعر، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)[النِّسَاءِ: 86]، فإذا ردَّ المسلمُ التحيةَ بمثلها أو أحسن منها، والمعروفَ بمثله، أو أحسنَ منه، والكلمةَ الطيبةَ بمثلها أو أحسنَ منها، والهديةَ بمثلها أو أحسنَ منها، صَفَتْ قلوبُنا وقويت روابطنا، وتعمقت علاقاتُنا، وانحسرت دائرةُ الخلاف بيننا.
وأول خطوة في مكافأة أهل الفضل: الاعترافُ بفضلهم، والإقرارُ باستحقاق شكرهم، وجَّه به نبيُّ الرحمة -صلى الله عليه وسلم- ودعا إليه، والوفاءُ بالعهد من حُسْن الإيمان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه"، استقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عجوزا بحفاوة وترحيب، فلما خرجت سألته عائشةُ -رضي الله عنها- فقال: "يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمانَ خديجة، وإن حُسْن العهدِ من الإيمان".
يَسَّرَ الإسلامُ صُوَرَ مكافأةِ أولي الفضل بما يستطيعه المسلم؛ بالكلمة الطيبة، والدعاء له بالخير، وملاقاة المسلم لأخيه بطلاقة الوجه، وبشاشة النفس، وهذا من كمال الدين وشموله وآدابه ومحاسنه، لتبقى المودة والألفة والمحبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"، الثناء في الحق من صُوَر ردّ الجميل لأهل الفضل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أُعطي عطاءً فليَجْزِ به، ومن لم يجد فليُثْنِ، فإن مَنْ أثنى فقد شَكَرَ، ومن كتم فقد كَفَرَ، ومن تحلَّى بما لم يعطَ كان كلابس ثوبَيْ زورٍ".
ومن أجزل صُوَر ردّ الجميل لذوي الفضل: مكافأتُهم بالدعاء لهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه"، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صُنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء"، ومن أقرضك مالًا فمن الجميل حُسْن أداء الديون والوفاء والحمد.
وفي حياة المسلم فئاتٌ من ذوي الفضل معروفُهم قائمٌ، وفضلهم دائم، وإحسانهم سابغ، وأعظمهم فضلًا رسولُ الأمة -صلى الله عليه وسلم-، الذي أخرجنا اللهُ به من الظلمات إلى النور.
ومن أكثر الناس فضلًا على الإنسان وأحقهم عليه وفاءً: الوالدانِ اللذانِ أَحْسَنَا إليه وربَّيَاه صغيرًا، وطلاب العلم عليهم واجب الوفاء لمعلمهم بالدعاء لهم لفضلهم عليهم، دعا أبو حنفية لشيخه حماد، ودعا أبو يوسف لشيخه أبي حنيفة، قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمهم الله جميعا-: "ما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له".
والزوجانِ بينهما معروف مترادِف، وجميل متقابِل، أسدى كلُّ واحد منهما للآخَر زهرةَ حياته، وثمرةَ فؤاده، فَحِفْظُ العهدِ وَحُسْنُ العشرةِ والتغافلُ عن الزلات من رَدّ الجميلِ، فإن الحسنات يُذهبن السيئاتِ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَفْرَكُ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصابرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إن الحادث الأليم الذي وقع قبل أيام في مدينة "بريدة" وأسفر عن مقتل رجل أمن عمل مأزوم، يُنبئ عن جهل وطيش وتيه، وإن هذا الفكر الداعشي التكفيري يلفظ أنفاسَه وفي رمقه الأخير، ونحن واثقون أن فكرهم يتوارى، وضلالهم يتهاوى، ومن أراد تقويض أمننا وزعزعة استقرارنا فلن يحقق أهدافه، ولن يروم مراده، وسيبوء بالخسران المبين بفضل الله ثم بمتابعة ولاة أمرنا ويقظة رجال أمننا وعلمائنا.
ولقد استبشر العالَمُ الإسلاميُّ عامةً، والشعبُ الأفغانيُّ خاصةً بمؤتمر السِّلْم الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين، وعقدته منظمةُ التعاون الإسلامي بمكة المكرمة، والذي حثَّ على نبذ الاقتتال والتفرق والدعوة إلى الإصلاح واجتماع الكلمة، والرد إلى أحكام الشريعة عند الخصومة والتنازع، وهذه رسالة سلام من مهبط الوحي تقتضي أن يلتقط الأفغانُ مبادرةَ السلام لاسيما العلماء منهم، بالعمل على إحلال السِّلْم والاستقرار في بلدهم وانتشاله من صراع أتى على الأخضر واليابس، قال الله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النُّورِ: 55].
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على آل إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الآل والصحب الكرام أجمعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمِّر اللهم أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، واجعل اللهم هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم اجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم مَنْ أرادنا وأراد هذه البلاد أو أراد بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم احفظ ووفق رجال أمننا وجنودنا المرابطين على الثغور، اللهم كن لهم مؤيدا ونصيرا وظهيرا، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين، الله إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أعنا ولا تغن علنيا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لنا ذاكرين لك شاكرين لك مخبتين لك أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وثبِّت حجتنا، وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا. أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا، واغفر لوالدينا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا بتوفيقك، وأيِّده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عملَه في رضاك يا رب العالمين، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].