البحث

عبارات مقترحة:

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

وللمطلقات حقوق (3)

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. في تطبيق شرع الله حفظ للحقوق ونجاة من الظلم .
  2. بعض حقوق المطلقة .
  3. وجوب مراعاة مصلحة الولد في تعليمه وتربيته .

اقتباس

وَالْمَرْأَةُ إِذَا طُلِّقَتْ لِأَيِّ سَبَبٍ فَهِيَ لَيْسَتْ عَدُوًّا لِمُطَلِّقِهَا وَلَا لِأَهْلِهِ وَلَا لِأَهْلِهَا، وَلَهَا حُقُوقٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا إِلَيْهَا، فَمِنْ حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ عِدَّتُهَا، وَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَهِيَ تَرِثُ طَلِيقَهَا إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَزَالُ زَوْجَتَهُ....

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَأَقَامَ بِهَا الْعَدْلَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَجْزِيهِمْ عَلَى الْتِزَامِهَا أَوْفَى الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الظَّالِمِينَ بِالِانْتِقَامِ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[الْمَائِدَةِ: 72]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِيمَنْ وَلَّاكُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- أَمْرَهُمْ؛ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَدُّوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَأَلْزِمُوهُمْ بِوَاجِبَاتِهِمْ، وَمَصْدَرُ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ شَرْعُ اللَّهِ -تَعَالَى- (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْمَائِدَةِ: 50].

أَيُّهَا النَّاسُ: فِي الْتِزَامِ حُكْمِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَتَطْبِيقِ شَرْعِهِ؛ حِفْظٌ لِلْحُقُوقِ، وَنَجَاةٌ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَمْنٌ لِلْمُجْتَمَعَاتِ، وَقَضَاءٌ عَلَى الْمُشْكِلَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَصْدَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَاحِدًا اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 54]، وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ الْخَلْقِ وَقَعَ الْخَلَلُ وَالِاضْطِرَابُ، وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ وَالْخَرَابُ، كَمَا هُوَ وَاقِعُ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ حِينَ نُحِّيَتْ شَرَائِعُ اللَّهِ -تَعَالَى- عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاسْتُبْدِلَ بِهَا الْقَوَانِينُ الْوَضْعِيَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الدُّوَلِ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَحَايَلُ عَلَى الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ لِيُسْقِطَهَا، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَضْعَفُ مِنَ الرَّجُلِ، وَلَا تَسْتَطِيعُ اسْتِخْلَاصَ كَثِيرٍ مِنْ حُقُوقِهَا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ -تَعَالَى- فِيهَا، وَعَدَلَ مَعَهَا، وَأَوْفَاهَا حَقَّهَا.

وَالْمَرْأَةُ إِذَا طُلِّقَتْ لِأَيِّ سَبَبٍ فَهِيَ لَيْسَتْ عَدُوًّا لِمُطَلِّقِهَا وَلَا لِأَهْلِهِ وَلَا لِأَهْلِهَا، وَلَهَا حُقُوقٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا إِلَيْهَا، فَمِنْ حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ عِدَّتُهَا، وَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَهِيَ تَرِثُ طَلِيقَهَا إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَزَالُ زَوْجَتَهُ.

وَمِنْ حُقُوقِ الْمُطَلَّقَةِ: أَنْ لَا يُضَارَّهَا زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ وَبِالرَّجْعَةِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِذَا قَارَبَتْ عِدَّتُهَا عَلَى الِانْتِهَاءِ أَرْجَعَهَا، ثُمَّ مَكَثَ مُدَّةً ثُمَّ طَلَّقَهَا لِتَعْتَدَّ مِنْ جَدِيدٍ، وَلَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِضْرَارَ بِهَا، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ حُدَّ الطَّلَاقُ بِمَرَّتَيْنِ، وَالثَّالِثَةَ تَبِينُ مِنْهُ (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[الْبَقَرَةِ: 229]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ هَذَا الْإِضْرَارَ بِالنِّسَاءِ، وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ حَدٌّ، بَلْ يُطَلِّقُونَهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَيَسْتَرْجِعُونَهَا لِلْإِضْرَارِ بِهَا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ يُمْكِنُ فِيهِمَا اسْتِرْجَاعُ الْمُطَلَّقَةِ؛ حِفْظًا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ لِئَلَّا يَلْعَبَ الرَّجُلُ بِهَا. وَفِي الْإِضْرَارِ بِالْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)[الْبَقَرَةِ: 231].

وَمِنْ حُقُوقِ الْمُطَلَّقَةِ: الْمُتْعَةُ لَهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا، وَهُوَ عِوَضٌ مَالِيٌّ يُدْفَعُ لِلْمُطَلَّقَةِ بِسَبَبِ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ ضَرَرِ الطَّلَاقِ، وَفِي هَذِهِ الْمُتْعَةِ تَطْيِيبٌ لِخَاطِرِهَا، وَجَبْرٌ لِكَسْرِهَا، وَبِهَا تُدَبِّرُ شُئُونَهَا إِلَى أَنْ يَرْزُقَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- زَوْجًا آخَرَ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى النَّاسِ، وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمُطَلَّقَةِ، مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي عَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[الْبَقَرَةِ: 241]، (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 236]، (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 49].

وَمِنْ حُقُوقِ الْمُطَلَّقَةِ: حَقُّهَا فِي حَضَانَةِ أَطْفَالِهَا مَا دَامُوا صِغَارًا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ؛ لِأَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ تُشْغَلُ بِحَقِّ زَوْجِهَا عَنْ رِعَايَةِ أَطْفَالِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَنَّهَا أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مِنْ أَبِيهِ مَا دَامَ طِفْلًا صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ شَيْئًا" اهـ.

وَالْأَفْضَلُ لِأَوْلَادِ الْمُطَلِّقِينَ وَالْمُطَلَّقَاتِ أَنْ يَصْطَلِحَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ عَلَى قَضَايَا الْحَضَانَةِ وَرِعَايَةِ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إِذَا وَقَعَ بَيْنَ وَالِدِيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَانُوا هُمْ ضَحِيَّتَهُ، فَيَتَضَاعَفُ عَلَيْهِمُ الْأَلَمُ ضِعْفَيْنِ، أَلَمُ الْفِرَاقِ بَيْنَ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَلَمُ اخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِمْ.

وَتَنَازُلُ الْأَبِ لِلْأُمِّ عَنْ رِعَايَةِ الْأَوْلَادِ مَا دَامُوا صِغَارًا، وَمَا دَامَتْ أُمُّهُمُ امْرَأَةً صَالِحَةً وَلَمْ تَتَزَوَّجْ أَرْأَفُ بِالْأَوْلَادِ وَأَصْلَحُ لَهُمْ. فَإِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ عَلَى رِعَايَةِ أَوْلَادِهِمْ، وَبَلَغَ الطِّفْلُ سِنَّ التَّمْيِيزِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ".

وَتُرَاعَى مَصْلَحَةُ الْوَلَدِ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَحْرَصَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِهِ، قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُّ تَتْرُكُهُ فِي الْمَكْتَبِ، وَتُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ، وَالصَّبِيُّ يُؤْثِرُ اللَّعِبَ وَمُعَاشَرَةَ أَقْرَانِهِ، وَأَبُوهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَحَقُّ بِهِ بِلَا تَخْيِيرٍ وَلَا قُرْعَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، وَمَتَى أَخَلَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الصَّبِيِّ وَعَطَّلَهُ، وَالْآخَرُ مُرَاعٍ لَهُ فَهُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِهِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا -يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَةَ- -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: تَنَازَعَ أَبَوَانِ صَبِيًّا عِنْدَ بَعْضِ الْحُكَّامِ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا، فَاخْتَارَ أَبَاهُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: سَلْهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتَارُ أَبَاهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أُمِّي تَبْعَثُنِي كُلَّ يَوْمٍ لِلْكُتَّابِ، وَالْفَقِيهُ يَضْرِبُنِي، وَأَبِي يَتْرُكُنِي لِلَّعِبِ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَقَضَى بِهِ لِلْأُمِّ، قَالَ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ".

وَإِذَا كَانَ الْأَوْلَادُ عِنْدَ أُمِّهِمْ لَمْ يُمْنَعْ أَبُوهُمْ مِنْ زِيَارَتِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لَهُمْ. وَإِذَا كَانُوا عِنْدَ أَبِيهِمْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، أَوْ لِأَنَّ أُمَّهُمْ تَزَوَّجَتْ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِمْ، وَلَا تُحْرَمُ هِيَ مِنْ أَوْلَادِهَا. وَكَمْ مِنْ قُسَاةِ قُلُوبٍ يَجْعَلُونَ أَوْلَادَهُمْ مَوْضِعًا لِانْتِقَامِهِمْ مِنْ طَلِيقَاتِهِمْ، وَهَذَا مِنَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى-، وَلَا يُوَفَّقُ صَاحِبُهُ لِلْخَيْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَوْلَادِ جَمِيعًا، وَهُمْ -فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ- يَنْتَقِمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْرَعُونَ فِي قُلُوبِهِمُ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا مَا كَبِرُوا وَضَعُفَ آبَاؤُهُمُ انْتَقَمُوا مِنْهُمْ بِتَخَلِّيهِمْ عَنْهُمْ، وَهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِمْ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحِبَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا الطِّفْلِ غَيْرُ جَائِزٍ".

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا الْعَدْلَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَنَعُوذُ بِهِ -سُبْحَانَهُ- مِنْ أَنْ نُضِلَّ أَوْ نُضَلَّ، أَوْ نَزِلَّ أَوْ نُزَلَّ، أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ حُقُوقِ الْمُطَلَّقَةِ: حَقُّهَا فِي الزَّوَاجِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ تُوَفَّقْ مَعَ بَعْضِ الرِّجَالِ فَلَا تُمْنَعُ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ، وَهِيَ أَدْرَى بِحَاجَتِهَا مِنْ غَيْرِهَا. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأُسَرِ تَمْنَعُ الْمُطَلَّقَةَ مِنْ تَكْرَارِ الزَّوَاجِ، وَهَذَا انْتِهَاكٌ لِحَقِّهَا الشَّرْعِيِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- لَهَا. وَكَانَ الصَّحَابِيَّاتُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ- إِذَا طُلِّقْنَ أَوْ تَرَمَّلْنَّ تَزَوَّجْنَ، وَلَمْ تَكُنِ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ بِلَا زَوْجٍ، وَهُنَّ خَيْرُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُدْوَةٌ لَهُنَّ.

بَلْ لَوْ عَادَ طَلِيقُهَا يَخْطُبُهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَيْسَ لِأَهْلِهَا مَنْعُهَا مِنْهُ إِنْ أَرَادَتْهُ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ شَأْنُهَا؛ فَإِنْ هِيَ أَرَادَتْهُ لَمْ تُمْنَعْ مِنْهُ، فَيَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَمَهْرٍ جَدِيدٍ، وَفِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَسَنِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)[الْبَقَرَةِ: 232]، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: "زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)[الْبَقَرَةِ: 232]، فَقُلْتُ: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي (رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ): "فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعًا لِرَبِّي وَطَاعَةً، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ".

هَذَا؛ وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ الْحُقُوقِ الْمُهْدَرَةِ إِثْمًا حُقُوقَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرَّجَ أُمَّتَهُ فِي حَقِّهِنَّ لِضَعْفِهِنَّ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ" (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).

فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُطَلِّقٍ أَنْ يَعْرِفَ حُقُوقَ مُطَلَّقَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الظُّلْمِ وَهُوَ لَا يَدْرِي، وَحَقٌّ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ أَنْ يَنْتَصِرُوا لَهُنَّ مِنْ أَيِّ ظُلْمٍ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ أَوْ أَوْلَادِهِنَّ؛ فَإِنَّ تَبِعَاتِ الظُّلْمِ ثَقِيلَةٌ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...