العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحِبَّةَ لِرَبِّهَا وَدِينِهَا، الْمُوقِنَةَ بِكَمَالِ إِسْلَامِهَا، تَتَمَسَّكُ بِالدِّينِ كُلِّهِ، وَتَأْخُذُهُ بِعَزْمٍ وَقُوَّةٍ، وَلَا يَحْرِفُهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهَا كَلَامُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا يَصْرِفُهَا عَنْهُ تَسَاهُلُ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَهَا الْأَعْظَمَ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى- وَالدَّارُ الْآخِرَةِ، فَلَا تَتَنَازَلُ عَنْ هَذِهِ الْغَايَةِ وَلَوْ فَقَدَتِ الدُّنْيَا كُلَّهَا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ عَزَّ سُلْطَانُهُ، وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ. دَائِمٌ لَا يَفُوتُ، وَحَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ. الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا عَذَّبَهُ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الْجَاثِيَةِ: 36- 37].
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، الْقَوِيِّ الْمَتِينِ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَى عَنْهُمْ بَعْدَ خَلْقِهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ عَلِيمٌ بِهِمْ، قَدِيرٌ عَلَيْهِمْ، يُدَبِّرُهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَهْدِيهِمْ لِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)[الْإِسْرَاءِ: 111]، وَاللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا. لَهُ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ. وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَمَاتَ وَأَحْيَا. وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ: عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمُهُ، وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَتُهُ، وَقَدَرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَرَادَهُ؛ فَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَطَبَ خُطْبَةً بَلِيغَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ، فَعَظَّمَ الْحُرُمَاتِ، وَقَالَ: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ، لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَفِيهِ أَكْثَرُ أَعْمَالِ الْحَاجِّ، وَفِيهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ؛ شُكْرًا لَهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مَا شَرَعَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِذَبْحِهَا، وَشُكْرًا لَهُ -تَعَالَى- عَلَى مَا رَزَقَ مِنْ أَثْمَانِهَا، وَشُكْرًا لَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى التَّمَتُّعِ بِلُحُومِهَا (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[الْحَجِّ: 36- 37].
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
اللَّهُ أَكْبَرُ؛ وَقَفَ إِخْوَانُكُمُ الْحُجَّاجُ بِالْأَمْسِ فِي عَرَفَاتٍ. اللَّهُ أَكْبَرُ؛ كَمْ رَفَعُوا لِلَّهِ -تَعَالَى- مِنَ الدَّعَوَاتِ! اللَّهُ أَكْبَرُ؛ كَمْ قَضَى سُبْحَانَهُ لَهُمْ مِنَ الْحَاجَاتِ! اللَّهُ أَكْبَرُ؛ كَمْ مِنْ عَبْدٍ بِالْأَمْسِ مَقْبُولٍ! اللَّهُ أَكْبَرُ؛ كَمْ مِنْ ذَنْبٍ بِالْأَمْسِ مَغْفُورٍ! اللَّهُ أَكْبَرُ؛ كَمْ أَوْجَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنَ الرَّحَمَاتِ! وَكَمْ أَعْتَقَ مِنَ النِّيرَانِ! فَاللَّهُمَّ اقْبَلْ مِنَّا وَمِنَ الْحُجَّاجِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَاجْعَلْنَا وَإِيَّاهُمْ مِمَّنْ غَفَرْتَ ذَنْبَهُ، وَشَكَرْتَ سَعْيَهُ، وَقَبِلْتَ عَمَلَهُ، وَأَوْجَبْتَ لَهُ الرَّحْمَةَ، وَأَعْتَقْتَهُ مِنَ النَّارِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا النَّاسُ: يَسِيرُ إِخْوَانُكُمُ الْحُجَّاجُ الْآنَ إِلَى الْجَمَرَاتِ بَعْدَ أَنْ بَاتُوا بِمُزْدَلِفَةَ فِي جُمُوعٍ غَفِيرَةٍ تُلَبِّي لِلَّهِ -تَعَالَى- وَتُوَحِّدُهُ وَتُكَبِّرُهُ، وَبَعْدَ رَمْيِهِمْ لِلْجِمَارِ يَنْحَرُونَ هَدْيَهُمْ، وَيُحَلِّقُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَيَطُوفُونَ طَوَافَ الْحَجِّ، وَيَبِيتُونَ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ يُوَدِّعُونَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ، كَمَا اسْتَقْبَلُوهُ بِالطَّوَافِ قَبْلَ بِضْعَةِ أَيَّامٍ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ! وَسُبْحَانَ مَنْ عَلَّمَهُمُ الْإِيمَانَ! وَسُبْحَانَ مَنْ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَنَاسِكِ، وَسُبْحَانَ مَنْ ذَلَّلَ قُلُوبَهُمْ لِتَعْظِيمِهِ! وَسُبْحَانَ مَنْ حَرَّكَ أَلْسِنَتَهُمْ بِذِكْرِهِ وَتَكْبِيرِهِ! وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الشَّعَائِرَ الْعَظِيمَةَ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ! وَسُبْحَانَ مَنْ حَرَّكَ بِهَا الْقُلُوبَ فَسَحَّتْ لَهَا الْعُيُونُ! (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32].
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هِدَايَتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[آلِ عِمْرَانَ: 19]، وَلَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 85].
وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي أَكْمَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3]، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْأَنْعَامِ: 115]، وَالْإِسْلَامُ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّتِي أَتَمَّهَا صِدْقًا فِي أَخْبَارِهِ، وَعَدْلًا فِي أَحْكَامِهِ. وَهُوَ بِحِفْظِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُ مَحْفُوظٌ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- خَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ، وَخَتَمَ النُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى الْإِسْلَامُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِتَهْتَدِيَ الْبَشَرِيَّةُ بِهِ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الْحِجْرِ: 9]. وَنَزَلَتْ آيَةُ كَمَالِ الْإِسْلَامِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
وَالنَّاسُ فِي كَمَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ:
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَحْدَثُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ بِدَعٍ وَضَلَالَاتٍ، لَيْسَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ بِعِبَادَاتٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَهُمْ عَامَّةُ الْمُبْتَدِعَةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: خَضَعُوا لِضُغُوطِ الْحَضَارَةِ الْمُعَاصِرَةِ، فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى الْإِسْلَامِ جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِهِ، وَحَذَفُوا مِنْهَا مَا لَا يَتَّسِقُ مَعَ الْوَاقِعِ الْمُعَاصِرِ الضَّاغِطِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَحَمَلَتِهِ، فَأَبَاحُوا جُمْلَةً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَسْقَطُوا كَمًّا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَلَمَّسُوا شُذُوذَ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ؛ لِلْقَضَاءِ بِهِ عَلَى النُّصُوصِ الْوَاضِحَةِ، وَاتَّكَئُوا عَلَى أَخْطَاءِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِبُلُوغِ مُرَادِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ يُرِيدُهُ، فَسَاءَ مَا يَفْعَلُونَ؛ إِذْ بَاعُوا شَيْئًا مِنْ دِينِهِمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَكَاسِبُ دُنْيَوِيَّةٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ دِفَاعًا عَنِ الْإِسْلَامِ بِزَعْمِهِمْ؛ لِرَدِّ الطُّعُونِ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الْأَعْدَاءَ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ حَتَّى يَهْدِمُوا الْإِسْلَامَ كُلَّهُ لَا بَعْضَهُ، وَحَتَّى يَتَّبِعُوا مِلَّتَهُمْ، فَأَوْبَقُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَوْرَدُوهَا مَوَارِدَ الْإِثْمِ وَالْهَلَاكِ، وَدِينُ اللَّهِ -تَعَالَى- عَزِيزٌ مَنْصُورٌ، وَإِنْ جَالَ الْبَاطِلُ جَوْلَتَهُ؛ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: عَلِمُوا كَمَالَ الْإِسْلَامِ، وَدَانُوا اللَّهَ -تَعَالَى- بِهِ، وَالْتَزَمُوا شَرِيعَتَهُ، وَلَمْ يَزِيدُوا فِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَمْدِ اللَّهِ -تَعَالَى-. وَالْمُقَصِّرُونَ فِي الْتِزَامِ دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ، وَالْمُسْرِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْعِصْيَانِ؛ لَا يَسْتَبِيحُونَ مَا يَرْتَكِبُونَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا يُسْقِطُونَ مَا يَتْرُكُونَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يَمْسَخُونَ شَيْئًا مِنَ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَعْتَرِفُونَ بِتَقْصِيرِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَيُقِرُّونَ بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَرْجُونَ التَّوْبَةَ، وَيَسْأَلُونَ غَيْرَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ قَرِيبُونَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَحَرِيٌّ أَنْ يُوَفَّقُوا لَهَا؛ إِذْ لَمْ يَفْتِكْ بِقُلُوبِهِمْ أَهْوَاءٌ مُتَّبَعَةٌ، وَلَمْ تَحْرِفْهُمْ عَنِ الصَّوَابِ بِدَعٌ مُضِلَّةٌ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ كَمَالَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَعْلَمُونَ خَطَأَهُمْ فِي حَقِّ دِينِهِمْ وَحَقِّ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ جِيءَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ لِيُجْلَدَ فِي الْخَمْرِ "فَقَالَ رَجُلٌ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا تَلْعَنُوهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى.
وَهَذَا لَا يَعْنِي الِاسْتِهَانَةَ بِالْكَبَائِرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَكِنَّ مَنْ يَضْعُفُ أَمَامَهَا فَيَقَعُ فِيهَا وَهُوَ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَعَلَ خَيْرٌ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُهَا أَوْ يُهَوِّنُ مِنْ شَأْنِهَا وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهَا.
إِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِكَمَالِ الْإِسْلَامِ التَّمَسُّكَ بِشَرِيعَتِهِ كُلِّهَا، وَالْحَذَرَ مِنْ تَجْزِئَتِهَا وَقَبُولِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- ذَمَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ بِخِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَخَاطَبَهُمْ -سُبْحَانَهُ- بِقَوْلِهِ: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[الْبَقَرَةِ: 85].
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الدِّينِ الحَكِيمِ، وَمَا هَدَاكُمْ لَهُ مِنْ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الشَّعَائِرِ وَالْأَحْكَامِ، وَسَلُوهُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللَّهِ -تَعَالَى- يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ.
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ: دِينُ الْإِسْلَامِ بِكَمَالِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَأَحْكَامُهُ لِلنِّسَاءِ هِيَ أَحْكَامُهُ مُنْذُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَلَمْ يُنْقَصْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُزَدْ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِنْ حَاوَلَ بَعْضُ الْمَفْتُونِينَ تَحْرِيفَهَا وَتَبْدِيلَهَا وَإِنْقَاصَهَا.
إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحِبَّةَ لِرَبِّهَا وَدِينِهَا، الْمُوقِنَةَ بِكَمَالِ إِسْلَامِهَا، تَتَمَسَّكُ بِالدِّينِ كُلِّهِ، وَتَأْخُذُهُ بِعَزْمٍ وَقُوَّةٍ، وَلَا يَحْرِفُهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهَا كَلَامُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا يَصْرِفُهَا عَنْهُ تَسَاهُلُ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَهَا الْأَعْظَمَ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى- وَالدَّارُ الْآخِرَةِ، فَلَا تَتَنَازَلُ عَنْ هَذِهِ الْغَايَةِ وَلَوْ فَقَدَتِ الدُّنْيَا كُلَّهَا، فَكَيْفَ وَهِيَ تَسْتَمْتِعُ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ -تَعَالَى- لَهَا وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَدْ أَرْضَتْ رَبَّهَا -سُبْحَانَهُ-، وَرَضِيَتْ عَنْ نَفْسِهَا؛ فَإِنَّ عُقْدَةَ الْمُحَرَّمِ لَا تَنْحَلُّ مِنَ الْقَلْبِ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَإِنَّ أَلَمَ الذَّنْبِ لَا يُفَارِقُ الْمُؤْمِنَ؛ لِحَيَائِهِ مِنْ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، وَاسْتِحْضَارِهِ نِعَمَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ. فَاللَّهَ اللَّهَ -أَيَّتُهَا الْمُؤْمِنَاتُ- فِي الِالْتِزَامِ بِكُلِّ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ دِينُ الْعَدْلِ وَالْكَمَالِ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ عَظِيمٌ، وَإِنَّ أَمَدَ الدُّنْيَا قَصِيرٌ.
حَفِظَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنَاتِ بِحِفْظِهِ، وَسَتَرَهُنَّ بِسَتْرِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِنَّ عَافِيَتَهُ.
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ، شَرَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- لَكُمْ فِيهِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، فَتَخْرُجُونَ مِنْ مُصَلَّاكُمْ لِتَتَقَرَّبُوا بِضَحَايَاكُمْ، وَكُلُوا وَأَهْدُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا؛ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ لِرَبِّكُمْ، وَمِنْ رِزْقِهِ -سُبْحَانَهُ- لَكُمْ، فَأَكْثِرُوا مِنْ شُكْرِهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مَا رَزَقَكُمْ. وَيَمْتَدُّ وَقْتُ الذَّبْحِ إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الَّتِي لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا؛ لِأَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ -تَعَالَى- كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَلْتَجْتَمِعْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ الْقُلُوبُ الْمُتَبَاعِدَةُ، وَلْتُبْسَطْ فِيهِ الْأَيْدِي الْمُنْقَبِضَةُ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَأَزِيلُوا مَا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى بَعْضِكُمْ، وَبَرُّوا وَالِدِيكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى جِيرَانِكُمْ، وَأَدْخِلُوا السُّرُورَ عَلَى أَهْلِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، وَتَمَتَّعُوا بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ -تَعَالَى- لَكُمْ، وَاحْذَرُوا الْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّهَا شَرٌّ وَوَبَالٌ عَلَى أَصْحَابِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا تَنْسَوْا إِخْوَانَكُمُ الْمُضْطَهَدِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، كُونُوا بِقُلُوبِكُمْ مَعَهُمْ، وَخَفِّفُوا عَلَيْهِمْ مُصَابَهُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ -تَعَالَى- الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ، وَالْعَافِيَةَ مِنَ الْبَلَاءِ، فَإِنَّهُ لَا أَوْسَعَ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَلَا أَضْيَقَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَلَا أَثْقَلَ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ.
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَعَادَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].