العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - صلاة العيدين |
أفقٌ وضيء؛ أفقُ المغفرة، وغايةٌ سامية تستحقُ المسارعة والسباق، وأسباب المغفرة كثيرة لا يمكن حصرها في مثل هذا المقام. فالاستغفارُ يُشرع بعد الطاعات حتى لا يتسرب للنفس العجب بالعمل فيحبط، يقول ابنُ القيم -رحمه الله- مبينًا حاجةَ الطائعينَ إلى الاستغفار: "الرضا بالطاعة من رُعوناتِ النَّفسِ وحماقتِها، وأربابُ العزائمِ والبصائر أشدّ ما يكونون استغفاراً عقبَ الطاعات، لشُهُودِهم تقصيرَهم فيها، وتركِهمُ القيامَ به لله كما يليق بجلاله وكبريائِه"، وبشر رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المكثرين من الاستغفار بالسرور والجنة؛ فقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله مصرف الشهور والأيام، وفَّق من شاء لطاعته؛ فاستثمرها وقام بحقها خير قيام، والشكر له أن وفَّقنا لإتمام شهر الصيام، وها نحن في يوم العيد بعد التمام.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإنعام. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر 18].
أيها الإخوة: تقبل الله منا ومنكم وعيدكم سعيد أعاده الله علينا جميعاً وعلى الأمة بالصحة والعافية والتمكين.
التهنئة في العيد من الأعمال الحسنة تجلب المحبة وتزيد الألفة بين المؤمنين وهي سُنة حسنة كان يفعلها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في العيد، فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: "تقبل الله منا ومنكم"، قال أحمد: إسناده جيد.
وعن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم". قال ابن حجر إسناده حسن..
أيها الإخوة: وما زالت التهاني بين الناس مستمرة بحمد الله وفي عصر التقنية الحديثة قامت وسائل الاتصال بدور كبير في تيسير التواصل بين الأهل والأقارب؛ وهذه نعمة نشكر الله عليها. لكن يجب الحذر من اتخاذها الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الأهل والأرحام في أيام العيد؛ فهذا عمل لا يُستساغ ما داموا في بلد واحد ويستطيعون التواصل بالأبدان، خصوصاً إذا كانوا من الأقارب؛ من الدرجة الأولى والثانية.
أحبتي: إذا لم نتواصل في أيام العيد ونلتقي وننسى ما بيننا من الخلافات فمتى نلتقي؟! إذا لم يُحَيِّ بعضنا بعضًا ويدعو بعضنا لبعض في العيد فمتى يكون ذلك؟! إن أمر صلة الرحم عظيم، فقد عظَّمه الله وجعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنَسَّأَ له في أثره فليصل رحمه"- أي يؤخر له في أجله- (البخاري ومسلم).
ووصى أحد أصحابه بأن يصلَ رحمه وإن أدبرت. (رواه الطبراني وابن حبان واللفظ له وهو صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الرحمُ متعلقةٌ بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله". (رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها).
وتوعد الرسول قاطعها فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذِهِ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ قَطَعَهَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" (رواه أحمد والبزار)، و(الشِجْنَةُ الشيء الملتف بعضه ببعض معناه والله أعلم أن اسم الرحم شعبة من اسم الرحمن أي حروفها بعض حروف الرحمن فوجب تعظيم حقها وقدرها ومراعاتها لذلك).
وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصل المبغض من الأرحام عملاً جليلا فقال: "أفضلُ الصدقةِ الصدقةُ على ذيِ الرحمِ الكاشِحِ". أي أفضل الصدقةِ الصدقةُ على ذي الرحم المضمر للعداوة في باطنه. (رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني).
أيها الإخوة: فضل الصلة بين الأرحام ومكانتها عند الله كبير، فهل تختصر برسالة جوال ربما أن من أرسلها كتب منها العشرات لمعارفه!! والله إنها لمصيبة عظمى وفاجعة كبرى، أن يصل تقييمنا للروابط الاجتماعية التي أكد عليها الدين إلى هذا المستوى وهذا استعمال للتقنية بغير مكانه، فهل من مدكر؟! أرجو ذلك.
قال الله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22،23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعانهم، وشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبانها لهم، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابِه والتابعين لهم بإيمان وإحسان، وسلّم تسليمًا كثيرا.
أيها الإخوة: أتبعوا شهركم بالتقوى، وعليكم بكثرة الاستغفار فهو من أفضل الأعمال وأيسرها وقد حث عليه ربنا فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
نعم أحبتي: أفقٌ وضيء؛ أفقُ المغفرة، وغايةٌ سامية تستحقُ المسارعة والسباق، وأسباب المغفرة كثيرة لا يمكن حصرها في مثل هذا المقام.
فالاستغفارُ يُشرع بعد الطاعات حتى لا يتسرب للنفس العجب بالعمل فيحبط، يقول ابنُ القيم -رحمه الله- مبينًا حاجةَ الطائعينَ إلى الاستغفار: "الرضا بالطاعة من رُعوناتِ النَّفسِ وحماقتِها، وأربابُ العزائمِ والبصائر أشدّ ما يكونون استغفاراً عقبَ الطاعات، لشُهُودِهم تقصيرَهم فيها، وتركِهمُ القيامَ به لله كما يليق بجلاله وكبريائِه".
وبشر رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المكثرين من الاستغفار بالسرور والجنة؛ فقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ" (رواه البيهقي في الشعب والطبراني وحسنه الألباني عَنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه).
من أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعات وفرادى: أنه سبب لدفع البلاء والنقم عن العباد والبلاد، ورفع الفتن والمحن عن الأمم والأفراد، لاسيما إذا صدر ذلك عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة؛ قال الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]. وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً)[النساء: 110].
وما أحوجنا لهذا في كل وقت، وخصوصاً هذا الوقت لما تمر به الأمة من فتن ومحن، نسأل الله أن يجليها.
أسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من المستغفرين، وأن يلهمنا الاستغفار كما نلهم النفس، وأن يرزقنا التوبة النصوح، إنه جواد كريم.
وصلوا وسلموا على نبيكم استجابة لأمر ربكم فقد قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] ويعظم الله أجركم فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميعُ العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم..
اللهم إنا نسألك الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد والغنيمة من كلِّ بِرٍ والسلامةَ من كلِّ إثم والفوزَ بالجنة والنجاةَ من النار. اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك. اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان والسلامةِ والإسلام، واحفظ رجال أمننا الداخلي والخارجي واجزهم عنا خير الجزاء.
اللهم وفق ولاةَ أمورِنا لما تُحبُّ وترضى وأعنهم على البر والتقوى. اللهم زدهم هدىً وصلاحاً وتوفيقا. (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8] (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201]، (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].