الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
من منافع الحج المباركة: استشعار المسلمين مَحْمَدَة التيسيرِ ورفع الحرج في مقابل معرَّة الغُلُوّ والتنَطُّع، وأثر ذلكم على واقع الناس في دينهم ومعاشهم، فما كان اليُسْر في شيء إلا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه، اليُسْر واللِّينُ والسهولةُ علامةُ فِقْه وخُلُق حَسَن تَمَثَّلَ ذلكم جليًّا في حج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الذي جعَل مواسمَ الخيراتِ لعباده مَربَحًا ومغَنمًا، وأوقات البركات والنفحات لهم إلى رحمته طريقا وسُلَّمًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، معتَرِفًا بعبوديته له مُعَظِّمًا، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصَفِيُّه وخليله، وخِيرَتُه من خلقه، بلَّغ رسالةَ ربِّه التي نزَل بها الروحُ الأمينُ من السماء، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ما لاح برق وما غيث همى، وسلَّم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى اللطيف الخبير، وخشيته في جهرنا وإسرارنا، وخلوتنا وجلوتنا، فإنه ما اتقى اللهَ أحدٌ فخسر وخاب، ولا خشيَه أحدٌ فذلَّ وخاب، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[يُونُسَ: 62-63].
حجاج بيت الله الحرام: ها أنتم ترتقبون مشرئبِّينَ موسمًا من أعظم مواسم العام، ونُسُكًا من خير مناسك الدين، إنه حج بيت الله الحرام، والوقوف بعرصاته، والانكسار للرؤوف الرحيم عشيةَ عرفةَ، والتلبية وذِكْر الله، ورمي الجمار، وذبح الهدي، والطواف والسعي، إنه لَشعور عامر بالترقب، لاستلهام روحانية العَجِّ والثَّجِّ، والتجرد من المخيط، وتعظيم شعائر الله التي بها تخلية القلوب وتحليتها، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32].
حجاج بيت الله الحرام: لقد شَرَعَ اللهُ الحجَّ لعباده وأحاطه بكثير من المقاصد والمنافع التي لا غنى لأمة الإسلام عن تأمُّلها وسبر أغوارها، فما أمر الله إبراهيم الخليل -عليه السلام- أن يؤِّذن في الناس بالحج إلا لتبدأ غايةُ النداء وحِكَمُه ومنافعه، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الْحَجِّ: 27-28].
إنها منافع الحج وحِكَمُه، نَعَمْ، المنافع التي تَرفع شأن الأمة وتصقل أفئدتها، إنها منافع أخروية وأخرى دنيوية، وإنَّ من أعظم تلكم المنافع الأخروية للحاجِّ ما يُوَثِّق صلتَهم بالله خالقِهم دون شائبة تشوبها؛ ليتمحَّض لديهم توحيد الله الخالص دون قادح أو شارخ؛ حيث يتجلَّى ذلكم في التلبية الخالصة من شوائب الشرك والأنداد؛ بإثبات الربوبية والألوهية له وحده دون سواه؛ إذ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يرفعون أصواتهم بها: "لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
فالحج -عباد الله- ميدان رَحْب لاستلهام معنى العبودية، وتجريد التوحيد للواحد -سبحانه-، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)[الْحَجِّ: 30-31]، ثم يمضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد رفع صوته بالتلبية في بيان منفعة عظمى من منافع الحج الأخروية بإبراز أهمية الاقتداء به واتباع سُنَّته وأثر ذلكم في استقامة العابد وصحة عبادته، وخلوها من دَرَنِ البدعة والإحداث في الدِّين؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" (رواه مسلم).
كما أن من منافع الحج -عباد الله-: تربية المرء المسلم على أَطْر نَفْسِه على الإخلاص لله أَطْرًا، الإخلاص والصدق الخاليينِ من الرياء والسمعة؛ فإن الرياء والسمعة ليسا محصورينِ في حال رخاء المرء وترفُّهه، بل إن مَظِنَّة الرياء والسمعة في حال تَفَثِه وشَعَثِه وتواضعه لا يقلُّ خَطَرًا ومُضِيًّا إلى النفس الضعيفة عما سواه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حجَّ متجردًا من المخيط في إزار ورداء أشعثَ متخشعا، تَفِثًا راكبا ناقتَه تارةً، وماشيًا تارةً أخرى، ومع ذلك لهج لسانه لربه بما يرجو منه أن يكفيه شر هذه الآفة، حين كان يردد في حجه قائلا: "اللهمَّ حَجَّةً لا رياءَ فيها ولا سمعةَ" (رواه ابن ماجه).
حجاج بيت الله الحرام: من منافع الحج المباركة: استشعار المسلمين مَحْمَدَة التيسيرِ ورفع الحرج في مقابل معرَّة الغُلُوّ والتنَطُّع، وأثر ذلكم على واقع الناس في دينهم ومعاشهم، فما كان اليُسْر في شيء إلا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه، اليُسْر واللِّينُ والسهولةُ علامةُ فِقْه وخُلُق حَسَن تَمَثَّلَ ذلكم جليًّا في حج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه في جانب اليسر والتيسير ما سئل يوم النحر عن شيء قُدم ولا أُخِّر إلا قال: "افْعَلْ ولا حَرَجَ" (رواه البخاري ومسلم).
وكان صلوات الله وسلامه عليه يقول: "نَحَرتُ هاهنا ومِنًى كُلُّها مَنْحَر، فانحروا في رحالكم، ووقفتُ هاهنا وعرفةُ كُلُّها مَوقِفٌ، ووقفتُ هاهنا وجَمْعٌ كُلُّها مَوقِفٌ" (رواه مسلم).
وأما في جانب ذَمِّ الغُلُوِّ والتنطع والتحذير منهما فقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غَداةَ العقبة وهو على ناقته: "الْقُطْ لي حَصًى، فلقَطْتُ له سبعَ حصيات، هنَّ حصى الخَذْف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثالَ هؤلاء فارْمُوا، ثم قال: يا أيها الناس، إياكم والغلوَّ في الدِّين فإنما أهلَكَ مَنْ كان قبلكم الغُلُوُّ في الدِّينِ" (رواه ابن ماجه).
ألا فاتقوا الله -حجاج بيت الله الحرام-، وأَرُوا اللهَ من أنفسكم في هذه العرصات المباركة، واغتنموا استلهامَ منافع الحج المباركة اقتداءً بالنبي المصطفى، والرسول المجتبى، خير مَنْ حَجَّ بيتَ الله الحرام، -صلوات الله وسلامه عليه-، ثم تَوِّجُوا منافعَ حَجِّكم المبارك بخُلُق السَّكِينة والرزانة والرفق؛ فإن المرء بلا سَكِينة كالطعام بلا ملح، ولتَقْتَدُوا في ذلكم بمن قال: "خُذُوا عنِّي مناسِكَكم" فإن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنه دفَع مع النبي يوم عرفة فسمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وراءه زَجْرًا شديدًا وضربا وصوتا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: "أيها الناسُ، عليكم بالسَّكِينَةِ، فإن البِرَّ ليس بالإيضاع" (رواه البخاري). والمراد بالإيضاع؛ أي الإسراع.
وقد قال صلى الله عليه وسلم للفاروق -رضي الله عنه-: "يا عُمَرُ، إنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لا تُزاحِمْ على الحجر فتؤذي الضعيفَ، إن وجدتَ خلوةً فاسْتَلِمْ، وإلا فاستقبله وكَبِّرْ" (رواه أحمد).
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأصلي وأسلم على أشرف خلقه أجمعين، وبعد:
فيا أيها الناس: ويا حُجَّاجَ بيتِ الله الحرامِ: لقد أكرم اللهُ أمةَ الإسلام بنعمة يُسْر الوصول إلى بيته العتيق، وبلوغ رحابه، على هيئةٍ لم يُدركها أسلافُنا الأولون؛ إذ كانوا يغيبون الزمانَ الطويلَ يقطعون فيه الفيافيَ والقفارَ والمفاوز والبحار، فلا يَدري ذووهم أأحياء هم أم أموات، حتى إن قاصد طريقه لَهو شبيه بالمفقود، والعائد منه إنما هو كالمولود، ولقد ظلَّ الحجيجُ على هذه الحال دَهْرًا طويلا حتى هيَّأَ اللهُ لهم من أسباب الحياة ما تغيَّرتِ به الأحوالُ واختُصرت به الطرقُ والأزمانُ، حتى أصبح ذوو الحاجِّ يرونه ويسمعون صوتَه حالَ وقوفه في عرفات والمشعر الحرام، ومِنًى والمسجد الحرام، كما قيَّدَ اللهُ بفضله وكرمه هذه البلادَ المباركةَ لتكون راعية للحرمين الشريفين، وقاصديهما وهي تفخر بذلكم أيما فخر، وتشرف به أيما شرف، خدمةً لحجاج بيت الله وزوار مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابتداءً من إمامها وولي أمرها خادمِ الحرمين الشريفين، وولي عهده وعضيده وانتهاءً بآحاد أهلها وأفرادهم، كلهم يرون خدمة الحرمين الشريفين شرفا ووساما لا يساومون عليهما؛ إذ يبذلون الغالي والنفيس في كل ما مِن شأنه راحة مَن وَطِئَتْ أقدامُهم أرضَهم الطيبة المباركة، فلكم عليهم حجاجَ بيت الله الحرام الإكرامُ والتيسيرُ والإشعارُ بأن كل حاجٍّ إنما هو في بلده الثاني معزَّزًا مكرَّمًا منذ قدومه إلى عودته سالما متقبَّلًا -بإذن الله-، كما أن لهم عليكم انتظامكم في أداء المناسك دون تشويش أو إخلال بمقاصده أو الخروج عنها بشعارات عُبِّيَّة وغايات لا تمت إلى الحج بصلة.
تقبَّلَ اللهُ من الحجاج حجهم، وأجزل الأجر والمثوبة لكل مَن كانت له يد في خدمتهم والسعي إلى راحتهم قيادةً وعلماءَ وموجِّهينَ ورجال أمن، وشعبا كريما محروسا -بإذن الله-. (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)[هُودٍ: 61].
هذا وَصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته المسبِّحة بِقُدْسِه، وَأَيَّهَ بكم -أيها المؤمنون-، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، وسلم الحجاج والمسافرين، في برك وبحرك وجوك يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفقه وولي عهده لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تقبل من الحجاج حجهم ويسر لهم حجهم، وردهم إلى أهلهم سالمين غانمين، يا رب العالمين.
اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخِرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.