البحث

عبارات مقترحة:

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

تربية الأجيال على مفهوم الأمة الواحدة

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. دعوة القرآن لمفهوم الأمة الواحدة   .
  2. أهمية الأمة الواحدة وقيمتها .
  3. أسس تأصيل وحدة المسلمين .
  4. من الأساليب القرآنية في تأصيل مفهوم الوحدة .
  5. كيف نحقق المفهوم ونتربى عليه .

اقتباس

إن القرآن يشعر المسلم ويحسسه بهذا المفهوم ويقوي شعوره به، وينمي في نفسه حب الآخرين من إخوانه المسلمين، بحيث يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم. ومن الأساليب القرآنية في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بالغير ظناً بنفسه...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، وبحمده يستفتح الكلام، والشكر له على ما هدانا للإسلام، وأبان لنا الحلال والحرام، وشرع لنا الشرائع وأحكم الأحكام، وأمرنا بالبر والاجتماع على الحق والاعتصام، ونهانا عن الجفاء وسائر الآثام.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، ولي كل إنعام، ذو الآلاء الجسام، والمنن العظام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، هو للأمة بدر التمام، وللأنبياء مسك الختام، المصطفى من الرسل والمجتبى من الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

أيها المسلمون: يقو الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 92]. وفي آية أخرى يقول: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : 52]. إن هذه الآيات وغيرها تدعونا في مضمونها إلى أن نكون أمة واحدة يجمعها دين واحد، هو دين التوحيد الذي أمرنا بالاعتصام به والاجتماع حوله، بغض النظر عن خلفياتنا العرقية أو انتماءاتنا السكانية.

إن مفهوم الأمة الواحدة مفهوم عظيم يجب أن نستشعر أهميته، ونعرف فضله، ونحقق مضمونه، حتى نطبق هذه الدعوة الإلهية من الله -تبارك وتعالى- بأن نكون أمة واحدة ملتزمة بعبادة رب واحد.

إننا اليوم -معشر المسلمين- نعيش في دول شتى مقطعة الأوصال، لا يربطها رابط ولا يجمع بين أبنائها نظام واحد ولا حاكم واحد، إلا أننا يجب أن نبقى مستشعرين لهذا المفهوم العظيم، وأن لا يغيب عن أذهاننا لحظة واحدة، فنحن إخوة في الله يجمع بيننا دين الله، وإن فرقت بيننا حدود سايس بيكو واتفاقياته المشؤومة.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- موضحاً لهذا المفهوم العظيم -مفهوم الأمة الواحدة-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [مسلم (2586)]. فشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمة الإسلام بأنها كالجسد الواحد, الذي إن أصاب بعضه شيء أصيب الجسد كله, وتألم كل عضو فيه وليس العضو المصاب هو الذي يتألم وحده. كما في الرواية الأخرى يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى، رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ"[ مسلم (6681)].

لقد غاب عن كثير منا هذا المفهوم بحكم الوضع الأليم الذي تعيشه أمة الإسلام، وصار كثير منا لا يتصور حقيقته لأننا عشنا وتربينا في ظل هذه الأنظمة المتناحرة، والتنازع والفرقة الموجودة بين المسلمين في البلد الواحد، فضلاً عن التجاذبات والمنازعات بين الدول الإسلامية وأنظمتها.

ومن هنا فإن الموضوع سيبقى ملحاً، والسؤال قائماً، وهو كيف نربي أنفسنا وأبناءنا على هذا المفهوم؟ وكيف نعيد أمجاد الأمة الواحدة فيما بيننا وإن غاب عنا نظام الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية؟.

إن أول رابط يجمعنا، ويزيل رواسب الشتات والفرقة فيما بيننا، ويؤصل مفهوم الأمة الواحدة فينا، هو اعتصامنا بكتاب ربنا، ومناداتنا المستمرة بأن يكون هو الحكم فينا، وأن نطالب جميعاً بأن يكون دستورنا ومرجعنا هو كتاب ربنا -جل جلاله وعز كماله-. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : 103].

وحبل الله هو كتابه العظيم الذي يجمع القلوب بعد الفرقة، ويقارب بين النفوس بعد الشتات والتنازع، ويؤلف بين الناس بعد الاختلاف والفرقة، فيصبحوا إخواناً متحابين.

إن القرآن يشعر المسلم ويحسسه بهذا المفهوم ويقوي شعوره به، وينمي في نفسه حب الآخرين من إخوانه المسلمين، بحيث يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم.

ومن الأساليب القرآنية في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بالغير ظناً بنفسه، وجعل لمز المسلم لأخيه المسلم لمزاً لنفسه، والسلام على الغير سلاماً على نفسه؛ وكل ذلك ذكره القرآن. يقول الله -تبارك وتعالى-: ( وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) [الحجرات : 11]، هل من المعقول أن يلمز الإنسان نفسه؟ كلا وإنما المراد بذلك لا تلمزوا غيركم من المسلمين.

ويقول -جلا وعلا-: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور : 12]، والمراد ظنوا بغيرهم من إخوانهم المسلمين خيراً، ولكنه جعل نفس المسلم ونفس أخيه نفس واحدة، لأنهم إخوة في الدين يجمعهم دين واحد فكانوا كالنفس الواحدة.

ويقول: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [النور : 61]. وفي آية أخرى يقول الله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء : 29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه. يقول الإمام القرطبي -رحمه الله-: "أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه "[الجامع للقرطبي (3/136)].

بل تأملوا -ياعباد الله- هذه الآية فإن فيها صلة واضحة بين مفهوم الأمة الواحدة وبين الدين الحق الذي يجمع الناس ويؤلف بينهم ويجعلهم كنفس واحدة، يقول الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء : 1]. فجمع الله في هذه الآية الكريمة بين الوصية بتقوى الله والالتزام بحدوده والتمسك بدينه وبين النفس الواحدة التي خلق جميع الناس منها، ثم كرر في آخر الآية الوصية بتقوى الله وصلة الرحم.

بل إن لغة القرآن تجسد هذا المفهوم بين المسلمين وتقويه، لأن كل مسلم يقرأ القرآن فإنه يقرأ بهذه اللغة العربية الأصيلة الفصحى، ولولا القرآن لاندثرت الفصحى وإذا اندثرت الفصحى اندثر رابط عظيم من الروابط التي تجمع بين الأمة الواحدة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

وبعد:

عباد الله: ومما يجعل النفوس تستشعر مفهوم الأمة الواحدة وتتربى عليه هو بعض العبادات التي نؤديها طاعة لله وعبادة له، والتي فرضها الله على كل مسلم ومسلمة كالصلاة والحج وغيرها.

فالصلاة التي تؤدى في كل بقعة إسلامية، وفي كل المساجد في العالم، تجعل المسلم يستشعر أنه فرد في أمة، وعضو في جماعة، كلها تؤدي هذه الفريضة وتقوم بها.

وكذلك الحج فإنه من أعظم العبادات وأجلها التي تجعل المسلم يستشعر مفهوم الأمة الواحدة بشكل مباشر وواقعي، فإذا كانت الصلاة تجعل المسلم يستشعر هذا المفهوم من جانب شعوري ووجداني، فإن الحج يجعله يستشعر هذا المفهوم بشكل حقيقي وواقعي.

إن حُجاج بيت الله يفيئون في كل عام شوقًا وحنينًا إلى بيت الله، ويجتمعون في مشهدٍ يرهب أعداءَ الإسلام، لأنهم يعلمون جيدًا أن هذه الفريضةَ تجعل المسلمين دائمًا يجمعُهم فقهُ الجسد الواحد في هذا المكان، فالكل يؤدِّي مناسكَ واحدةً، في أوقات واحدة، بطريقة واحدة، ويعلمون أيضًا أنهم إذا استمرُّوا على ذلك الاجتماع بعد رجوعِهم إلى بلادهم، فلن يقَدَر عليهم أحدٌ ولعمِل لهم الجميع ألف حساب.

ولكن للأسفِ الشديد لا يفهم كثيرٌ من الحجَّاج المقصد الأساسي للحج، وهو تحقيق فقه الجسد الواحد، ليس فقط في أداء المناسك، ولكن في جميع الأوقات، وخصوصًا وقت الأزمات وتكالب الأعداء على أمة الإسلام.

إن مشهد الملايين في مكَّة حول بيت اللهِ يحتِّم عليهم الاعتصامَ والاتحاد، ونبذ الفرقة والاختلاف، كما يحتِّم على الأمة كلِّها التي تشاهد هذا الموقف الرهيب الاهتمامَ بوحدة الأمة الإسلامية وضرورة اعتصامها بالله وحبله؛ لأن الاعتصام بالله وحبلِه هو طريق النجاة.

أيها المسلمون: علينا دائماً أن نربي أنفسنا ومن ولانا الله -سبحانه وتعالى- المسؤولية على تربيتهم على هذا المفهوم -مفهوم الأمة الواحدة- وأن نشعرهم أننا أمة واحدة، يجمعنا دين واحد، كلنا إخوة فيه كالجسد الواحد.

فإذا تربينا على هذا المفهوم بهذه التربية وفقنا الله، وجمع بين قلوبنا، وأزال الأحقاد والضغائن التي بيننا، وارتفعت كثير من المظالم التي عند بعضنا لبعض، لأن المسلم إذا استشعر حقيقة هذا المفهوم فليس من المعقول أن يظلم نفسه، أو يقتل نفسه، أو يحقد على نفس أخيه، لأن نفسه ونفس أخيه نفس واحدة.

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم وحد صفوفنا على راية التوحيد، واجعلنا ممن سعى لتحقيق مفهوم الأمة الواحدة بين أمة الإسلام، وأزل ما في قلوبنا من الأحقاد والضغائن ياعزيز ياعلام.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين.