البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
نحن في أمس الحاجة إلى مكافحة عدوِّنا الأزلي الشيطان الرجيم؛ نكافحه كما نكافح المخدرات، ونكافح الجريمة، وغيرها؛ فمن التحصين الأوَّلي ضد الشيطان الرجيم: أن نكافحه بشتى الوسائل، ولقد أرشدنا النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- إلى عدَّة أمور نكافح بها الشيطان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان على رسول الله.
وبعد: نحن في أمس الحاجة إلى مكافحة عدوِّنا الأزلي الشيطان الرجيم؛ نكافحه كما نكافح المخدرات، ونكافح الجريمة، وغيرها؛ فمن التحصين الأوَّلي ضد الشيطان الرجيم: أن نكافحه بشتى الوسائل، ولقد أرشدنا النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- إلى عدَّة أمور نكافح بها الشيطان، ومن أهمها:
1- تضييع الفرصة عليه: يحاول الشيطان الرجيم جاهداً أن يجعل نَفْسَ الإنسان خبيثةً؛ عن طريق العُقَدِ التي يضربها على قافية الرأس؛ فلا بد أن نُضيِّع عليه هذه الفرصة المُتكرِّرة كلَّ ليلة؛ بالذِّكر والوضوء والصلاة؛ قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ"(1).
2- طردُه وتجويعُه: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ؛ قَالَ الشَّيْطَانُ(2): لاَ مَبِيتَ لَكُمْ، وَلاَ عَشَاءَ"(3)، فذِكْرُ الله -تعالى- مانعٌ قويٌّ من نفاذِ إبليس إلى البيت، واستحلال الطعام.
وجاء أيضاً: طعام الشيطان فيما لم يُذْكَر اسمُ اللهِ عليه؛ قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ إِبْلِيسُ: كُّلُّ خَلْقِكَ بَيَّنْتَ رِزْقَهُ؛ فَفِيمَ رِزْقِي؟ قال: فِيْمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمِي عَلَيهِ"(4)، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ(5) أَنْ لاَ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ"(6).
3- حِفْظُ العَورات عنه؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ: إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ(7) أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ"(8) ، وإبليس وجندُه نفوسُهم قذرةٌ، في تتبع العورةِ والسَّوءة، وقد نزع عن آدم وزوجِه لباسَها وهما في الجنة.
وينزِعُ هو وجندُه وحِزبُه لباسَ التقوى من النفس، ولباس السِّتر من على الجسد؛ لذا صار العُرْيُ ظاهرةً طبيعية، وأصبح ظهورُ العوراتِ أمراً مُستساغاً لدى كثيرٍ من الناس!
4- تَنْحِيَةُ الشيطانِ وإلغاءُ دَورِه: يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ - يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ؛ يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ"(9)؛ فهل هناك أيسر من هذه الكلمات؟ وأعظم ثمرةٌ تجنيها -يا عبدَ الله- أن يتنحَّى عنك الشيطان.
5- الاحتراز من الشيطان الرجيم: يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ؛ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ"(10).
6- الاستعاذة بالله -تعالى- من الشيطان الرجيم: قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم)[الأعراف:200]؛ فمن أعظم ما يُكافح به الشياطين هو الاستعاذة بالله -تعالى- منها.
قال ابن كثير: "ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أنْ يَضُرَّني في ديني أو دنياي، أو يَصُدَّني عن فِعلِ ما أُمرت به، أو يَحُثَّني على فِعلِ ما نُهيت عنه؛ فإنَّ الشيطانَ لا يكفُّه عن الإنسان إلاَّ اللهُ؛ ولهذا أمر اللهُ -تعالى- بمصانعةِ شيطانِ الإنس ومداراته، بإسداء الجميل إليه؛ لِيَرُدَّهُ طبعُه عمَّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطانِ الجنِّ؛ لأنه لا يقبل رِشوةً، ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شِرِّيرٌ بالطبع، ولا يَكُفُّه عنك إلاَّ الذي خلقه"(11).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
دلَّنا الشرع الحنيف على مواضع الاستعاذة، وفيها تحصينٌ للنفس من هذا اللعين، وشَرِّه وشَرَكِه وأفعالِه، ومن هذه المواضع:
أ- عند قراءة القرآن: قال الله -تعالى-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النحل: 98].
ب- عند الوسوسة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟! فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ"(12).
قال ابن حجر: "قوله: "فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ" أي: عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعِه، ويعلم أنه يريد إفساد دينِه وعقلِه بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها، بالاشتغال بغيرها"(13).
والتشكيكُ في ذات الله -تعالى- ووجودِه سبحانه، من أصول دعوة الشيطان، وحين يشك المرء في كُنْهِ الوجود الإلهي وصفتِه، يكون أقرب ما يكون للكفر، وهو المصطلح عليه بكفر الشك، فكانت الاستعاذة سداً لذريعة الشرك.
ج- عند دخول المسجد: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، قَالَ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" ... قَالَ: "فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ؛ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ"(14)؛ فالشيطان لا يكُفُّ عن الوسوسة والإضلال؛ حتى في الأماكن التي يكون التوجُّهُ فيها لله -تعالى-؛ كالمساجد، فجاءت الاستعاذةُ عند دخول المسجد مانعٌ وِقائي من وسوسته أثناء الصلاة، وحفظٌ للمصلين سائر اليوم.
د- عند الحُلُم الشيطاني: يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ"(15).
هـ- عند دخول الخلاء: يقول: "اللَّهُمَّ! إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ(16) وَالْخَبَائِثِ(17)"(18). وهذه الأماكن مع نُفرةِ النفس منها وقذارتِها، هي مسكنٌ للشياطين، ولهذا أُمرنا بالتعوِّذِ عند دخولها.
و- عند الغضب: ولمَّا رأى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ؛ قال: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا؛ لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"(19). والخروج عن الطبع السليم القويم مطلب لإبليس اللعين؛ ليستدرجَ الإنسان إلى حبائله، ولذا جاءت الاستعاذةُ مانعاً من الانسياق وراء الشيطان.
ومن أعظم ما تُكافح به الشياطين: ترسيخ العقيدة الصحيحة في النفوس:
وهي مهمة تحتاج إلى جُهدٍ كبير ومتواصل، فغرس العقيدة الصحيحة بشموليَّتِها، وتقويةُ الإيمان بصفات الله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، يجعلُ القلبَ يتعلَّق بالله -تعالى- دون غيره، فهي مهمة لا يُستهان بها، وهو واجب عيني على كلِّ مسلم ومسلمة(20)؛ فالواجب على المسلم أن يتعلَّم التوحيدَ والعقيدةَ الصحيحة؛ لِيَتسَلَّح بذلك ضد شياطين الإنس والجن؛ الذين قال إمامُهم ومُقدَّمُهم: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)[الأعراف:17].
أحبتي الكرام: نعلم جميعاً أنَّ هو طريق التَّسلُّط الشيطاني على كثير من الناس؛ فحرَّموا ما أحل الله -تعالى-، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وتعبَّدوا اللهَ بالبدع والمحدَثات، وأنكروا أموراً كثيرةً من الدِّين بسبب الجهل.
قال ابن الجوزي: "اعلم أنَّ البابَ الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس؛ هو الجهل، فهو يدخل منه على الجُهَّال بأمانٍ، وأمَّا العالِمُ فلا يدخل عليه إلاَّ مسارقةً، وقد لبَّس إبليسُ على كثير من المتعبدين بقلَّة عِلمهم؛ لأنَّ جُمهورهم يشتغل بالتَّعبُّد ولم يُحكِم العلمَ"(21).
-------------
(1) رواه البخاري، (1/215)، (ح1150)؛ ومسلم، (1/309)، (ح1855).
(2) قَالَ الشَّيْطَانُ: أي: لإخوانِه وأعوانِه ورِفقتِه.
(3) رواه مسلم، (2/882)، (ح5381).
(4) رواه أبو نعيم في (الحلية)، (8/126)؛ وأبو الشيخ في (كتاب العظمة)، (12/128)؛ والضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) (2/257). وصححه الألباني في (الصحيحة)، (2/207)، (ح708).
(5) يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ: أي: يَتَمَكَّنُ من أكله.
(6) رواه مسلم، (2/882)، (ح5378).
(7) الْكَنِيفَ: هو مَوْضِعُ قَضَاءِ الحاجَة
(8) رواه ابن ماجه، (1/49)، (ح314). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (1/54)، (ح242).
(9) رواه الترمذي، (2/882)، (ح3754). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/151)، (ح2724).
(10) رواه البخاري، (3/1300)، (ح6477).
(11) تفسير ابن كثير، (1/114).
(12) رواه البخاري، (2/640)، (ح3312)؛ ومسلم، (1/69)، (ح362).
(13) فتح الباري، (6/340،341).
(14) رواه أبو داود، (1/81)، (ح446). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/364)، (ح485).
(15) رواه البخاري، (2/642)، (ح3328).
(16) الْخُبُث: هم ذكورُ الشياطين.
(17) الْخَبَائِث: إناث الشياطين.
(18) رواه البخاري، (1/37)، (ح142)؛ ومسلم، (1/159)، (ح857).
(19) رواه البخاري، (2/641)، (ح3318)؛ ومسلم، (2/1107)، (ح6813).
(20) انظر: المواجهة: الصراع مع الشيطان وحزبه، حسن أحمد قطامش (ص151).
(21) تلبيس إبليس، (ص121).