المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | خالد التلمودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد أصبحنا نعيش واقعًا أسريًّا مزّقته الخلافات الزّوجيّة، واختلّ فيه التّوازن، وضاعت فيه المرجعيّات إلاّ من رحم ربّك، ولنا في واقعنا من الأمثلة وفي محاكمنا من القضايا ما لا يسمح المكان ولا المقال بذكرها لما فيها من المكر والدّهاء والحيل التي تستعصي حتّى على الشّيطان، تقوم بها المرأة تجاه زوجها نكاية فيه وإذلالاً له دون مراعاة للأبناء الذين سيتحوّلون ضحايا ..
الحمد لله ربّ العالمين، نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كله ولو كره المشركون، وأصلّي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، فصلّوا عليه وسلّموا تسليمًا، واتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون.
أمّا بعد:
إخوة الإيمان: لقد بيّنت في خطبتي العيد والجمعة أهمّية العلاقة بين المسلمين في مختلف الصّلات الإنسانيّة، بدءًا بصلة الرّحم نهاية بالعلاقة بين جميع المؤمنين فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10]، بل إن صلة المسلم تشمل الإنسانيّة جمعاء لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، إلاّ أنّ أوثق علاقة وأوطدها على الإطلاق هي علاقة الزّوج بزوجته، فهي آية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) [الروم: 21]، وهي السّكينة والمودّة والرّحمة: (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الرّوم: 21]، ومن هذه العلاقة يعمّر الكون وتستمرّ الإنسانيّة وجودًا نابعًا من علاقة مشروعة بعقد إلهيّ مبارك: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) [النّساء: 1].
وما فتئ الإسلام يوصي معاشر الأزواج أمرًا ونهيًا وتوجيهًا؛ نظرًا لقدسيّة هذه العلاقة فقال تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) [النساء: 21]، ويوجّه طورًا الخطاب المباشر لهم بحسن المعاشرة قائلاً: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19].
كما لا يخفى على أحد ما جاء في وصايا الرّسول الأكرم -صلّى الله عليه وسلّم- كقوله: "أوصيكم بالنّساء خيرًا"، وقوله: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، وقوله: "ما أكرمهنّ إلاّ كريم وما أهانهنّ إلاّ لئيم". أبعد هذا التّبجيل والتّكريم من تكريم وتبجيل على مدى العصور والأزمان؟! وفي ذلك مراعاة واضحة من صاحب الشأن والخلق لقدرات المرأة وبنيتها وحاجاتها للرّجل ككفيل وحام وراع يظلّل على زوجته ويشمل الأسرة برعايته وسلطته الأدبية والماديّة، وفي الآن نفسه حماية للمرأة من رجال لا يراعون الله في أهليهم، فيظلمون ويبطشون وينقضون الميثاق الغليظ الذي أبرم بينهم وبين زوجاتهم.
ولكن كيف يكون الأمر لو انقلبت الآية؟! كيف نتصرّف لو أصبحت الوضعيّة رأسًا على عقب؟! بمعنى أوضح: ماذا لو استأسدت المرأة وتنمّرت؟! ماذا نفعل لو زمجرت وعربدت؟! وأصبحت في البيت هي الآمرة النّاهية؟! وخارجه هي النّاهية الآمرة؟! فإذا بها صاحبة السّلطة المطلقة لما لها من حقوق ومن موارد ماليّة وشهادات جامعيّة؟! وحتّى من قدرات جسديّة؟! كيف يمكن أن نفهم حينها قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34].
أيّها المسلمون الموحّدون: لقد أصبحنا نعيش واقعًا أسريًّا مزّقته الخلافات الزّوجيّة، واختلّ فيه التّوازن، وضاعت فيه المرجعيّات إلاّ من رحم ربّك، ولنا في واقعنا من الأمثلة وفي محاكمنا من القضايا ما لا يسمح المكان ولا المقال بذكرها لما فيها من المكر والدّهاء والحيل التي تستعصي حتّى على الشّيطان، تقوم بها المرأة تجاه زوجها نكاية فيه وإذلالاً له دون مراعاة للأبناء الذين سيتحوّلون ضحايا، ولا لمستقبلها في الدّنيا كامرأة مطلّقة، ولا لآخرتها حين تقف بين يدي خالقها ويحاسبها حسابًا عسيرًا دقيقًا لما فرّطت من حقوق زوجها، إنّه الغرور الزّائف والتّسلّط الموهوم الذي لا ينتج عنه إلاّ خراب البيوت وتقطّع الأرحام وانحراف الأبناء وتفكّك المجتمع، إنّها صرخة فزع من واقع مؤلم لا بدّ أن نسعى جميعًا -كلّ من موقعه- إيجاد الحلّ الأمثل الذي يعيد للبيت المسلم توازنه لتتحقّق فيه السّكينة والاستقرار والأمن والأمان، ليجد الرّجل في قلبه فرحة وهو يعود لبيته، وليجد الابن سعادته وهو بين أفراد أسرة منسجمة.. فما الحلّ؟!
سأقرأ على مسامعكم نصائح أمّ لابنتها ليلة زفافها، ماذا تقول لها، وبماذا تنصحها في زمن يبدو أنّه ولّى وانقضى ولم يبق منه إلاّ الذّكرى والمثل الذي لا يحتذى.
قالت الأمّ لابنتها: أي بنية: إنك مفارقة بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي منه درجت، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة ليكون لك عبدًا، واحفظي له خصالاً عشرًا يكن لك ذخرًا: فأما الأولى والثانية: فالرضا بالقناعة وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواقع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا أطيب الريح. أما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت طعامه ومنامه، فإن شدة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالإحراز لماله والإرعاء على حشمه وعياله. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمرًا ولا تفشي له سرًّا، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإياك والفرح بين يديه إذا كان مهتمًا، والكآبة لديه إذا كان فرحًا.
فقبلت البنت وصية أمها، فأنجبت له البنين الصّالحين والبنات الصّالحات؛ لأنّه البيت الذي أسّس على التّقوى وعلى الاحترام وعلى الطّاعة لله ورسوله، فالزوّجة مطالبة بحسُن المعاشرة وتوفير جو من الودّ والاستقرار للزوج والأبناء، والابتعاد عن كل أسباب القلق والنفور، وتعكير صفو الحياة في العائليّة، وذلك بالتحبّب للزوج والتودّد له وملء أجواء البيت بمشاعر الحبّ والجمال والحنان، بحيث لا يرى الزوج في زوجته ولا يسمع منها ما يكره، فإن في توفير مثل هذا الجو أبلغ الأثر في حياة الزوج والزوجة والأبناء وسعادتهم العائلية، فكلّما نما الإحساس بالجمال في نفس الإنسان، وكلّما أشبعت أحاسيسه ومشاعره بالحب والحنان، اختفت من نفسه أسباب القلق والسآمة، وتوارت دوافع العدوان ومرارة الحقد والنقمة، وبالتالي يكون لهذا الجو العائلي المفعم بالحب والجمال والحنان أثره على سلوك أفراده وعلاقتهم بمجتمعهم، وخصوصًا الأبناء الصغار الذين يعيشون في ظلال هذه الأجواء ويتربّون تحت مظلّة هذه الأسرة السعيدة، بعكس الأسرة الشقيّة التعيسة، التي يعايش فيها الزوج حياة الكراهية والتوتر، والنفور وسوء المعاشرة، فإنّ مثل هذه الأجواء تنعكس على نفس الطفل وتؤدّي إلى تعقيده وتعاسته، وربما ألجأته التشرّد، والميل إلى العدوان والتحلّل وحتّى الانحراف؛ لذلك تجد الإسلام يوصي المرأة باعتبارها منبع الحبّ، ومستودع الجمال ومصدر الاستقرار والطمأنينة في البيت، يوصيها بأن تحرص على خلق جو عائلي مفعم بهذه الروح لأنّها مصدر السّعادة والرّاعية في بيت زوجها وربّة البيت بأتمّ معنى الكلمة.
فما جزاؤها إن كانت على ذلك وقامت بواجبها على الوجه الأكمل؟! جاء رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن لي زوجة إذا دخلتُ تلقتني، وإذا خرجت شيّعتني، وإذا رأتني مهمومًا قالت لي: ما يهمّك؟! إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفّل به غيرك، وإن كنت تهتم لأمر آخرتك فزادك الله همًّا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله عمالاً، وهذه من عمّاله، لها نصف أجر الشهيد".
وفي المقابل فإنّ الزّوجة التي تنغّص على الزّوج حياته رغم قيامه بواجباته، وتعصي أمره رغم أنّه على الحقّ، فلا تقبل منها صلاة، وقد جاء في الحديث الشريف: "أيمّا امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حقّ، لم يتقبّل الله منها صلاة حتّى يرضى عنها".
أيّها المسلمون: لقد قسّم الإسلام الأدوار بين الرّجال والنّساء، ليس من باب التّفاضل ولكن من باب التّكامل والتّعاون، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]، لذلك من الخلط ومن العبث أن يحلّ أحد محلّ الآخر، فتنخرم الموازين، وتتبخّر القيم، وتضيع الأمانات، ولذلك لعن الله المتشبّهين من الرّجال بالنّساء، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال في كلّ المجالات، فاتّقوا الله -عباد الله- ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
الخطبة الثّانية:
بسم الله، والحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا رسول الله.
أمّا بعد:
إخوة الإيمان: ليس فيما ذكرت تحاملا على المرأة أو تعاطفا مع الرّجل، إنّما هو سعي الإصلاح ما استطعت؛ استقراءً للواقع واستنادًا إلى شرع الله الحكيم، ومن ابتغى الهدى في غيره ضلّ ضلالاً مبينًا، وكما تلاحظون فإنّ المسؤوليّة مشتركة بين كلّ من الزّوج والزّوجة، ومع تحديد طبيعة هذه المسؤوليّة وحدودها ومراعاة ظرفيّة كلّ أسرة بحسب قدراتها الماديّة ومستوى أفرادها التّعليميّ، ولكن إطار كلّ هذا التّداخل والتّمايز يبقى المقياس الأرقى والأقوم هو مقياس التّقوى لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، لا أغناكم ولا أشرفكم نسبًا ولا أعلاكم منصبًا، بل أتقاكم؛ لذلك "اظفر بذات الدّين تربت يداك"، و"ما اكتنز المرء من بعد تقوى الله خيرًا من امرأة صالحة: إذا نظر إليها سرّته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"، ولذلك "إذا أتاكم من ترضون دينه فلا تردّوه"؛ لأنّه إذا أحبّ زوجته أكرمها، وإذا كرهها لم يظلمها ولم يهنها، ومع ذلك فالخلافات واردة بين الزّوجين، ولكن لا بدّ أن لا تخرج من عشّ الزّوجيّة؛ لأنّها إذا خرجت شاعت، وإذا شاعت تعكّرت وتعقّدت وصعب حلّها إلاّ من باب الاستنصاح من ذوي الخبرة والرّأي وأهل الحلّ والعقد، خاصّة من الأهل المقرّبين الذين يسعون للصّلح والإصلاح؛ قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء: 35].
هكذا يعلّمنا ديننا الحنيف خطوة بخطوة برفق ولين وبواقعيّة، كيف لا وهو المدبّر تدبيرًا، وهو المقدّر تقديرًا: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، فلا تفرّطوا في هذا التّوجيه الرّبّانيّ، ولا تتغاضوا عن ذلك الهدي النبويّ؛ فهو النبّراس والنّور والحقّ المبين والصّراط المستقيم، من ابتغى الهدى في غيره ضلّ ضلالاً مبينًا وخسر والله في الدّنيا فكانت حياته ضنكًا، وفي الآخرة جهنّم وبئس المصير، ولمن ابتلاه الله بما قدّمت يداه بسبب سوء الاختيار وسوء التّقدير، ثمّ تاب وآمن وعمل صالحًا، فليس له إلاّ الدّعاء، فلنتوجّه جميعًا إلى العليّ القدير السّميع المجيب في هذه السّاعة؛ لعلّها تكون ساعة الإجابة، وليستحضر كلّ منّا حاجته عند خالقه، فإنّه يعلم السرّ وأخفى، مفتتحين دعاءنا بالصّلاة والسّلام على الحبيب المصطفى.
اللهمّ يا باسط الأكفّ بالعطيّة، ويا كاشف كلّ بليّة، اللهمّ يا فالق الحبّ والنّوى ويا عالمًا بالسرّ والنّجوى: أعط لكلّ الحاضرين من الخير ما نوى، واكشف عنّا كلّ بلوى، واهد كلّ من ضلّ وغوى.
اللهمّ أصلح حال زوجات المسلمين وأزواج المسلمات، واغفر للمذنبين والمذنبات.
اللهمّ أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وجنّبنا اتّباعه.
اللهمّ اجعل لنا من أزواجنا وذرّياتنا قرّة عين لنا واجعلنا للمتّقين إمامًا، ووفّق أبناءنا لكلّ خير وكلّ نجاح وكلّ سداد وصواب ورشاد، وألهمهم التّقى والنّقاء والعفاف والكفاف، وقوّهم بالعلم واليقين والإيمان، وأبعد عنهم وعنّا أجمعين ضلال المضلّين ووساوس الشّياطين وكيد الكائدين ومكر الماكرين وحسد الحاسدين، إنّك قويّ متين، وَكَّلنا إليك أمرنا؛ فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم إنا ضعفاء فقوّنا بقوّة منك، اللهم إنا أذلاّء فأعزّنا بدينك، فقراء فأغننا بفضلك عمّن سواك، ضالّين فاهدنا بهداك، اهدنا إلى طريق الجنّة، ووفّقنا إلى كلّ عمل يقّربنا إليك، أبعدنا عن طريق النّار وعن كلّ عمل يجعلنا من أهلها.