الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أركان الإيمان |
قال الملك عبدالعزيز -رحمه الله-: "لا صلاح للخاصة والعامة في جميع القرى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...إلى أن قال: إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب...
الخطبة الأولى:
الحمدلله أمر عباده بالاجتماع ونهاهم عن الفرقة والاختلاف, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً, أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-, واذكروا ما أنتم فيه النعم العظيمة, واشكروا الله عليها.
معاشر المسلمين: إنَّ الله -تعالى- أمرنا بالاعتصام بدينه, وعدم التفرق والاختلاف, فإنَّ الاعتصام بالدين من أعظم مقوِّمات التمكين في الأرض, وعدم التفرق والاختلاف من أعظم أسباب قوة المسلمين وانتصارهم على أعدائهم, وحصول الألفة والمحبة بين المسلمين لها أكبر الأثر في اجتماع كلمتهم واتحادهم ضد أعدائهم, قال الله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].
ومن فضل الله علينا -يا عباد الله- اجتماع كلمتنا في هذه البلاد السعودية المباركة, على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- فقد كنَّا قبل توحيده لهذه البلاد في فرقة واختلاف, وكان الناس يخافون على أنفسهم عند ذهابهم من بلد إلى بلد ولو كان مجاوراً لهم لا يبعد بضعة أميال, وكانوا لا يأمنون على أموالهم, يخشون أن ينتهبها منتهبٌ أو يستولي عليها من لا يخاف الله -تعالى-, وكان يعتري الناس في تلك الحقبة أمران كلاهما مرٌّ علقم وهما الخوف والجوع, إضافة إلى نقص في الأموال والثمرات فأيُّ حال كنَّا فيها من قبل, وإلى أيِّ حال صرنا بعد توحيد هذه البلاد, لقد أبدل الله خوفنا أمناً وجوعنا شبعاً, وفرقتنا واختلافنا إلى اجتماع وائتلاف ومحبة, وكثرت الأموال والثمرات, ونعيش في أطيب عيش وأرغده, يسافر الواحد منَّا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب, ومن الشرق إلى الغرب لا يخاف أحداً من الناس, لا يخاف إلا الله, وما كان ذلك ليكون إلا لإقامة العدل بين الناس, والحكم بالشريعة, وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بعد أن ضعُفت في الناس, قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 40، 41].
ونَصْرُ الله عبدَه هي معونتُه إيَّاه, ونَصْرُ العبدِ ربَّه هي جهاده في سبيله لتكون كلمته العليا, ومن أعانهم الله نصرهم على أعدائهم ومكَّن لهم في الأرض فأقاموا الصلاة بحدودها وأعطوا الزكاة الواجبة لمستحقها, ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته ونهوا عن الشرك بالله، والعمل بمعاصيه (ينظر تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (18/ 651).
وإنَّ من علامة من ينصر دين الله عندما يُمكِّن الله له في الأرض أن يتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في قوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ)[الحج: 41](ينظر تيسير الكريم الرحمن (ص: 540).
وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55]؛ "قال المفسرون: وأوّلُ من كفر بهذه النعم قتلة عثمان -رضي الله عنه-". زاد المسير في علم التفسير (3/ 304).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال"(مسلم (1715).
معاشر المسلمين: إننا من حين توحيد المملكة قبل ثمانية عقود وإلى الآن ونحن نتقلب في نعم الله الكثيرة؛ فالأرزاق دارَّةٌ تأتي من كل مكان, وشعائر الإسلام ظاهرة, والعقيدة الصحيحة سائدة, وعلَم السنة مرفوع, فلا مظاهر للشركيَّات فيها, فالحمدلله على هذه النعم العظيمة, قال الملك عبدالعزيز -رحمه الله-: "عقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه السلف الصالح...وهي عقيدة مبنية على توحيد الله –عز-وجل- خالصة من كل شائبة, منزَّهة من كل بدعة, فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها" وقال أيضاً رحمه الله: "إني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد"(ينظر مختارات من الخطب الملكية (1/41 و63).
فالحمدلله أن جعل ولاة أمرنا من لدن الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك وإلى عهد الملك سلمان وولي عهده حفظهما الله يولون اهتماماً كبيراً بنصرة السنة وأهلها, ونشر العقيدة الصحيحة ودعوة الناس إليها.
معاشر المسلمين: إنَّ أعظم سرٍّ من أسرار النصر والتمكين لهذه البلاد المباركة, هو تمسُّكها بالدين ونشر العقيدة الصحيحة, وتحكيم الشريعة الإسلامية, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قال الملك عبدالعزيز -رحمه الله-: "نصرنا الله بقوة التوحيد الذي في القلوب, والإيمان الذي في الصدور, ويعلم الله أنَّ التوحيد لم يملك علينا عظامنا وأجسامنا فحسب, بل ملك علينا قلوبنا وجوارحنا"(مختارات من الخطب الملكية (1/47).
أيها المسلمون: إنَّ من أعظم أسباب حصول الأمن الذي نتنعم فيه إضافة إلى تحكيم الشريعة, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو من أعظم شعائر الإسلام, وهو من صفات المؤمنين أهل الخير والصلاح والفوز والفلاح قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104]؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحصل الأمن, ويسلَم الناس من الفساد الذين ينشره دعاة الرذيلة والانحلال الأخلاقي, وتصلح أحوال الناس, قال الملك عبدالعزيز -رحمه الله-: "لا صلاح للخاصة والعامة في جميع القرى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...إلى أن قال: إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب رحمة الله, فإذا رحم الله العباد أعطاهم ما يحبون ودفع عنهم ما يكرهون" (مختارات من الخطب الملكية (1/29-30).
معاشر المسلمين: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر, وأعينوا رجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, واعلموا أنَّه لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال, قال العلماء: "لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمرُ به مجتنباً ما ينهى عنه, بل عليه الأمرُ وإن كان مخلاً بما يأمرُ به والنهيُ وإن كان متلبِّساً بما ينهى عنه, فإنَّه يجب عليه شيئان, أن يأمرَ نفسه وينهاها, ويأمرَ غيره وينهاه, فإذا أخلَّ بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر" شرح النووي على مسلم (2/ 23).
وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "اعلم أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قد ضيِّع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا, وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه, واذا كثر الخبث عمَّ العقاب الصالح والطالح, وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمَّهم الله -تعالى- بعقابه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63]" شرح النووي على مسلم (2/ 24).
اللهم اجعلنا ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على الوجه الذي يرضيك عنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.