البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - الأديان والفرق |
الجبروت من صفات الرب -سبحانه- لا يشاركه فيها أحد، وهي صفة كمال في حقه؛ لأنه الخالق البارئ المهيمن أولا؛ ولأن جبروته مقترن بعدله ثانيا. أما العبد الذي هو خلق ضعيف عاجز محتاج، فاتصافه بالجبروت والعظمة نقص ومذمة..لكن الإنسان ظلوم جهول -إلا من رحم ربي- منهم من يهوى التسلط والقهر والجبروت، والناس في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هل تعلمون ما الجبروت؟
الجبروت من الجبر، أي القهر، جبره أي قهره وغلبه.
والجبروت من صفات الرب -سبحانه- لا يشاركه فيها أحد، وهي صفة كمال في حقه؛ لأنه الخالق البارئ المهيمن أولا، ولأن جبروته مقترن بعدله ثانيا.
أما العبد الذي هو خلق ضعيف عاجز محتاج، فاتصافه بالجبروت والعظمة نقص ومذمة، ولذلك صح في سنن أبي داود وغيره في الحديث القدسي: "قال الله -عز وجل-: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار".
لكن الإنسان ظلوم جهول -إلا من رحم ربي- منهم من يهوى التسلط والقهر والجبروت، والناس في الجبروت والعتو درجات، سواء كانوا فرادى أو جماعات، بل من الأفراد من اشتهر بذلك حتى صار رمزا للجبروت والطغيان عبر العصور؛ كالنمرود، وفرعون، وأبي جهل.
ومن الأمم كذلك من تجبرت وعتت، حتى صارت مثالا في هذه الصفة القبيحة؛ كأقوام عاد وقوم هود وقوم لوط.
وما زال التاريخ يفرز هذه النماذج المنحرفة من البشر، حتى عصرنا هذا، تحقيقا لسنة الصراع بين الحق والباطل.
ولا شك أن على رأس الأمم المجرمة المتكبرة في واقعنا؛ دولة اليهود.
وقد اجتمعت في دولة اليهود اليوم الجبروت في أفرادهم وحكومتهم على حد سواء؛ حتى إن استطلاع إحدى الصحف في تل أبيب البعيدة عن متناول صواريخ القسام، حتى هذه الساعة، والتي لم تذق طعم تلك الصواريخ بعد استطلاع إحدى الصحف الكبيرة هناك حول رأي الشعب اليهودي في الحرب الشرشرة اليهودية والمذبحة المستمرة في أهالي غزة أشار ذلك الاستطلاع أن 91% من الشعب يؤيد المذبحة، تأييداً كاملا.
شعب مجرم متغطرس، اجتمعت فيه أرذل الصفات والأخلاق: الكفر، والكبر، والوحشية، والعنصرية، والتعصب، والجبن، والخيانة، والخداع، والظلم والوقاحة.
وطالما تناول القرآن صفات اليهود بشكل مفصل وواضح، حتى يدرك المؤمن طبيعة هذا الجنس من البشر، فالجبروت البشري متأصل فيهم، وهم وإن كانوا عنصرين لا يحبون إلا أنفسهم، ويكرهون سائر الأمم، ويوجزون لأنفسهم خداعهم وسرقتهم؛ كما فضحهم القرآن بذكر قولهم: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران: 75].
إلا أنهم فضلا عن ذلك شعبيون، أي انهم يكرون العرب بالتحديد أكثر من غيرهم من الأعراق.
ويحتقرون جميع العرب ولو كانوا علمانيين ولو كانوا ملحدين، فكيف إذا اجتمعت العرب مع عروبتهم، دين حي، يحقد عليه اليهود، وهو دين الإسلام.
ولذلك لما اختار الفلسطينيون الإسلام ثارت ثائرة اليهود، ولما كان معقل حماس غزة العزة اشتعل جبروت بني صهيون، فحاصروها عامين، كي تركع، ولكن دون جدوى، ثم انهالوا عليها بكل ما لديهم من نيران الأسلحة.
لكن لماذا كل هذه الوحشية؟
أيها الأخوة: الجبار قد يكتنفه تجاه من يقاومه بغض شديد، وفي نفس الوقت إحساس بالخوف منقطع النظير، حتى لو كان هذا المقاوم في المقاييس الحسية ضعيفا عاجزاً، وإذا كان مبدأ المقاوم مبدأ عقديا، فقد يجن جنون الجبار، وقد يحمله خوفه من مقاومة في العقيدة على الإسراف في القتل والبطش، كما حدث من فرعون لما كان يقتل من بني إسرائيل كل مولود ذكر.
وكما فعل الملك الجبار بإحراقه كل من كفر من بني قومه حرقا، ولا يزال الخوف الشديد يلم بقلب الجبار، ما دام ذلك المقاوم ثابتا على مبدئه لم يتغير، ولم يخضع أو يركع.
ولذلك لم يقدر الملك الجبار الذي يملك العدة والعتاد والجيوش والمنعة والحرس، بل ويملك الأمر والنهي في البلاد كلها لم يقدر أن يهنأ أو يهدأ خوفه من غلام صغير ضعيف عارض أمره، وتمرد عليه في خاصة نفسه، يعني مجرد معتقد دون أن يكون الغلام قد خطط للإطاحة بالملك مثلا أو لقتاله، أبداً.
لم يقدر أن يهنأ الملك الجبار، أو يهدأ خوفه، حتى يعلم أن ذلك الغلام صاحب النفسية المقاومة غير القابلة للخنوع قد قتل؛ لأنه يظن أنه بقتله تقتل فكرة المقاومة، وتستمر قابلية الناس للخنوع والهزيمة، فالموضوع أبعد من مجرد معتقد، أو فكرة صامتة، الجبابرة يخافون من التداعيات.
مسند الإمام أحمد فيه حديث لصهيب جاء في الحديث: إنه كان جليس للملك فعمي فسمع به أي سمع بأن غلاما يشفي من الأمراض فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، فقال الغلام: ما أشفي أنا أحد إنما يشفي الله -عز وجل-، فإن أنت آمنت به دعوت الله فشفاك، فأمن، فدعا الله له فشفاه، ثم أتى للملك -أي ذلك الجليس- فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي؟ فقال: أنا، قال: لا، ربي وربك اللّه، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك اللّه، فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام.
الحاصل أنه قبض على ذلك الغلام الصغير، وقال له: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به فلما علوا به الجبل، قال الغلام" اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون".
وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللّه -تعالى-، فبعث به مع نفر في قرقور، أي في سفينة صغيرة، وقال لهم: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون.
وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللّه -عز وجل-، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم اللّه رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: باسم اللّه رب الغلام، فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم، ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
أولئك الذين كانوا يشهدون الواقع.
فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد واللّه نزل بك؛ قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه في النيران، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، من قوة إيمانهم ويقينهم بالعاقبة الحسنة يسرعون إلى النار ويتدافعون إليها بلا خوف.
فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أُماه فإنك على الحق.
نعم، لقد انتصر أصحاب الأخدود؛ لأنهم استيقظوا على ،الحق وتنبهوا إلى حقيقة النصر، وثبتوا على مبدئهم، ثبتوا على عقيدتهم، وأثروا الإسلام على الكفر، وطاعة الرحمن على طاعة الطاغوت، فخلدهم القرآن بحسن الذكر، وسمى موقفهم وعاقبة أمرهم الفوز الكبير كما في سورة "البروج".
أما الملك الجبار فلم يذكر إطلاقا، بل حتى الفعل بني للمجهول ولم يذكر الفاعل: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 4-9].
وها هم أهل غزة الصامدون الذين أبوا أن يكون دين الله وحكمه ورقة وضيعة على طاولة المفاوضات كما فعل غيرهم، وإنما قالوا: لا مساومة على العقيدة، وأدركوا أن العدو لا عهد له ولا ذمة ولا خلق، ومهما تنازلوا فيطلبوا المزيد حتى لا يبقى لهم شيء من وطن ولا دين ولا إرادة ولا كرامة.
فإن كان غيرهم يهوى حياة الدواجن، ويأنس بالمذلة من أجل عرض من الدنيا زائل، فهم -إن شاء الله- أسمى من ذلك، وهم أسمى من أن يخضعوا لغير الله، أو يبيعوا دينهم ووطنهم، وبني قومهم من أجل حفنة من مال، أو سيارة، أو وجاهة، أو كرسي صغير حقير.
إن الأبي لا يرتشي في أمور الدنيا، فكيف بأمور الدين، وكما قال نبي الله سليمان -عليه السلام- لما جاءته الهدية من ملكة سبأ: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)[النمل: 36].
أسأل الله -تعالى- أن يثبت أهلنا في أرض الرباط، وأن يمن عليهم بنصر قريب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وبعد:
فقد صح في مسند الإمام: أن أنس بن النضر -رضي الله عنه- لم يشهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر فشق عليه، وقال: أول مشهداً شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيبت عنه، لئن أراني الله -تعالى- مشهداً فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرين الله -عز وجل- ما أصنع.
قال: فهاب أن يقول غيرها، أي لم يريد أن يفصل ما سيصنع وذلك على سبيل الأدب مع الله والخوف من أن يعرض له عارض، فلا يفي بما يقول، ليرين الله ما أصنع.
فشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، فقال له أنس -رضي الله عنه-: يا أبا عمرو إلى أين؟ فقال: واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضعا وثمانين بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته الربيع ابنة النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23] قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه رضي الله عنهم.
معاشر المسلمين: إن غاية المسلم العظمى لا تقف عند حدود الدنيا؛ لأن حدود الدنيا في اعتباراته ضيقة جدا، ولذا تتجاوزه غايته، وتشرف من وراء الدنيا على صفيح الآخرة، بل إن غايته الأخروية إذا تمكنت من فؤاده ألغت دنياه كلها بما فيها، فأصبح لا يرى غاية إلا الجنة، وهذا ما حدث لأنس بن النضر، بل إنه ارتقى إلى أعلى من ذلك، وأصبح يشم رائحة الجنة، وهو بعد يمشي على الأرض.
إنها كرامة الله للمؤمن إذا صدق ما عاهد عليه: "واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد".
وهو ما نرجو أن يكون عليه الصادقون في غزة، نحسبهم كذلك.
فالقضية عندهم لا تقف عند أرض، أو غصن زيتون، بل القضية أبعد من ذلك بكثير، القضية قضية المسجد الأقصى، وتحريره من براثن الكفر.
القضية قضية تمرد على جبروت العدو الشرس، قضية عقيدة لا يساوم عليها أصحابها، ولا يبيعونها بأي ثمن.
القضية قضية مقاومة وجهاد، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
إنها لغة لم يعهدها ذلك العدو من قبل، وكان يأمل أن تكون قد انتهت واندثرت، وذهبت إلى غير رجعة؛ فإذا بالله العزيز الحكيم يحييها في القلوب من جديد، وإذ بأصحابها يرددون ما يغيظ اليهود، ويحرق قلوبهم: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) [التوبة: 52].
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم اليهود وأعوانهم.
اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وألق الرعب في قلوبهم.