الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
إذا أردتم الرزق الحسن المبارك فاطرقوا باب السماء بالدعاء واللجوء الصادق إلى الرزاق الكريم، الذي لا يخيب من رفع يديه إليه واثقاً به متفائلاً بجوده وفضله, فالدعاء من الأسباب العظيمة، وهو باب مفتوح لكل مسألة مشروعة من أمور الدنيا والآخرة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الغني الوهاب، الكريم التواب، لا تغيظه نفقة بإعطاء، ولا تلحقه فاقة بإسداء؛ فلله خزائن السموات والأرض، ويد الله ملأى، لا تغيظها نفقة، سحاءُ الليلَ والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده؟!.
ولو أن العباد أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته؛ ما نقص ذلك من ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر, فسبحان الواسع المعطي!.
وأشهد أن لا إله إلا الله الغني عن عباده وجميعهم إليه مفتقرون: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15], وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله؛ فإنها العروة الوثقى، والعون الأقوى، قال الله -تعالى-: (يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزمر: 16].
عباد الله: إن الله خلق الخلق، وأسكنهم هذه الأرض وهم عاجزون عن كفاية أنفسهم، وإصلاح معايشهم، وبهم حاجة ملحّة إلى بارئهم اختياراً واضطراراً، لا يسدها أحد سواه.
فالفقر والحاجة، والعوز والفاقة أوصافهم الذاتية السرمدية، والغنى والوسع، والملك والعز أوصاف خالقهم الذاتية الأبدية، فلما خلقهم تكفل برزقهم وحده قبل وجودهم على هذه الأرض، ودخولهم بالحياة إليها، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم تكون علقة مثل ذلك، ثم تكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات: كتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي هو أم سعيد"(متفق عليه).
ولن يخرجوا عن الحياة بالموت حتى يستكملوا ما كتب لهم من ذلك الرزق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن روح القدس نفث في روعي: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله -تعالى- لا يُنال ما عنده إلا بطاعته"(رواه الحاكم وعبدالرزاق وغيرهما).
عباد الله: لقد كان من حكمة الله العليم الخبير أن يكون الناس صنفين: فقراء وأغنياء؛ وأن لا يكونوا صنفاً واحداً، ويبدو أن من حكمة ذلك: حصول تبادل المنافع بينهم، وتحقيق مقاصد الحياة الجماعية، قال -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[الزخرف: 32].
والله حكيم في بسطه وقدْره رزقَ عباده، قال -تعالى-: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[العنكبوت: 62]، وفي ذلك التفاوت دلائلُ على حكمة الله وعلمه بعباده، قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الروم: 37]، وبعض الناس لا يعرف هذه الحكمة؛ فيظن إغناءه محبة ونعمة، وفقره كراهية ونقمة! قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[سبأ: 36].
بل إن من نعمة الله على بعض الناس العيش في ظل الفقر؛ لأن الغنى خطر عليه, إذ هو بوابة البغي والطغيان، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، قال -تعالى-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27].
فعلى المسلم أن يرضى بقدر الله وقضائه، ويعلم أن اختيار الله له خير مما يتشوف إليه ويريده، وعليه أن يعلم كذلك أن قضية الرزق من قضايا الإيمان بالقدر، وأن الغنى غير آتٍ بذكاء الأذكياء، أو سعة عقول العقلاء؛ فكم من صاحب ذكاء كبير يرافقه الفقر والحاجة، وكم من جاهل غير فطن يتقلب بين أحضان الغنى والترف:
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني | بتخوم أعناق السماء تعلقي |
ومن الدليل على القضاء وكونه | بؤسُ الذكي وطيب عيش الأحمق |
فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر الحكيم، وسبحان الله الرزاق الذي كفى خلقه، ووسعهم رزقُه، وأعطى خلقه حسب العلم والحكمة، واللطف والرحمة!.
عباد الله: إن الله هيأ لعباده في هذا الكون أسباب الرزق ووسائله: فأرض مبسوطة فيها عوامل العيش، وسماء تسكب الغيث عليها؛ فتنبت من كل زوج بهيج، قال -تعالى-: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس 24-32].
وخلق لهم من الأنعام ما فيه طعامهم وشرابهم، ولباسهم وركوبهم، وسخر لهم وأرشدهم إلى ثروات الأرض الطبيعية قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[يس71-73].
وخلق لهم الأعضاء التي بها يكتسبون، والعقول التي بها يصلحون أمر معيشتهم ويسعدون، قال -تعالى-: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78]
معشر المسلمين: إن الله -تعالى- أمر الإنسان أن يسعى في طلب الرزق، وتحصيل ما يصلح العيش؛ فالرزق لا ينزل على متكاسل أو متواكل، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك: 15].
ولقد عمل الأنبياء والصالحون ولم ينتظروا مجيء الرزق إليهم، وإنما أكلوا من عمل أيديهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده"(رواه البخاري), وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان آدم -عليه السلام- حراثاً، ونوح نجاراً، وإدريس خياطاً، وإبراهيم ولوط زراعين، وصالح تاجراً، وداود زرّاداً، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم رعاة".
كان كثير من أصحاب رسول الله حريصين على حضور مجالسه، ومواطن تعليمه وتربيته، ومرافقته في حله وترحاله، ولو وجدوا كفايتهم لما فارقوا مسجده، ومواضع إرشاده، لكنهم أخذوا من ذلك ما استطاعوا، وخرجوا باحثين عن الرزق، وطلب ما يقيم الأبدان.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان أصحاب رسول الله عمالَ أنفسهم"(رواه البخاري) وربما تناوبوا في سماع رسول الله، حيث كان عند بعضهم يوم للعمل، ويوم لطلب العلم، قال عمر -رضي الله عنه-: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك"(رواه البخاري).
إخواني الكرام: إن العمل وطلب الرزق أمر يحث عليه العقل والفطرة والشرع، فالعقل جعل الكافر يبحث عن الرزق ويسعى في تحصيله, والفطرة جعلت الحيوان يخرج من وكْره ومسكنه باحثاً عما يملأ بطنه، ولا يقعد منتظراً رزقه إلى مكانه.
وجاء الإسلام وحث على العمل وطلب الرزق, وبذل الأسباب مع كمال التوكل على الرزاق الكريم، ونهى عن تكفف الناس وسؤالهم والذل لهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره؛ خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه"(رواه البخاري).
روي عن لقمان -رحمه الله- أنه قال لابنه: "يا بني! استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دِينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الخصال: استخفاف الناس به".
وحينما حث ديننا الحنيف على طلب الرزق فإنه قد حرم كل طريق مشبوه لأخذ الرزق وتحصيله، فحرم السرقة والسلب والنهب والغصب والغش والتدليس والكذب في البيع والشراء وغير ذلك من الأساليب المحظورة.
عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- قد يبسط الرزق لبعض العصاة ابتلاء واستدراجاً، لا محبة ولا مكافأة، وإن كان لهم في الدنيا المال الكثير فإنه مال لا خير فيه، و يغدو نقمة عليهم لا نعمة، وعذاباً لا نعيماً، ولكن أكثر الناس لا يفقهون، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)[الأنفال: 36]، وقال -تعالى-: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)[القصص: 82]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الأنعام: 44] (رواه أحمد والبيهقي والطبراني، وهو حسن).
وأما الطائع لربه المتحري الحلالَ في كسبه, فإن لطاعاته أثراً كبيراً في جلب الرزق وبركته؛ فالإيمان والعمل الصالح وهو تقوى الله -تعالى- سبب كبير من أسباب الرزق، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96]، وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)[الطلاق2-3].
فإقامة شرع الله والاستقامة على دينه سبب كبير لجلب الرزق، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ)[المائدة: 66].
أيها الفضلاء: من أسباب جلب الرزق: استغفار الله -تعالى- استغفاراً صادقاً، قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)[نوح 10-12]، قال الشعبي -رحمه الله-: "خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟! فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ الآية السابقة". ومجاديح السماء: نجومها، فشبه الاستغفار بها وجعل الاستغفار استسقاء.
البر وصلة الأرحام من أسباب زيادة الرزق، ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه".
التبكير في طلب الرزق يزيد الرزق، فعن صخر الغامدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، قال: "وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم في أول النهار", قال: وكان صخر رجلاً تاجراً,. فكان يبعث تجارته في أول النهار فأثرى وكثر ماله"(رواه أبوداود وابن ماجه وابن حبان).
التوكل على الله -مع الأخذ بالأسباب الممكنة- يجلب الرزق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا"(رواه أحمد وابن حبان والترمذي).
وفعل الأسباب الشرعية لا يقدح في التوكل، وإنما يربي النفس على البذل والحركة النافعة، فرسل الله وصالحو عباده أُمروا بفعل سبب الرزق، ودفع الهلكة عن أنفسهم، قال -تعالى-: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)[الفرقان: 20]، قال بعض المفسرين: أي: يتجرون ويحترفون.
وقال الله لموسى -عليه السلام-: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء: 63]، وهو -تعالى- قادر على فلق البحر دون ضرب العصا, وقال لمريم -رحمها الله تعالى-: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)[مريم: 25]، وهو سبحانه القادر على إسقاط الرطب دون هز.
أيها المسلمون: ومن أسباب جلب الرزق: الجهاد في سبيل الله -تعالى-، روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله -تعالى- وحده لا شريك له، و جعل رزقي تحت ظل رمحي", وقال -تعالى-: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنفال: 69].
ومن مفاتيح الرزق: الصدقة والإنفاق في وجوه الخير, قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39]، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تبارك وتعالى-: يا ابن آدم؛ أنفق أنفق عليك", وقال -صلى الله عليه وسلم- لبلال: "أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا"(رواه البيهقي وأبو يعلى).
شكر النعم يحفظ الرزق الموجود ويجلب إليه المزيد، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
ومن تلك الأسباب الجالبة للرزق: الزواج من أجل العفاف، قال -تعالى-: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النور: 32]، قال عمر -رضي الله عنه-: "عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح! وقد قال الله -تعالى-: (إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)", وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف"(رواه الترمذي والبيهقي).
عباد الله: إذا أردتم الرزق الحسن المبارك فاطرقوا باب السماء بالدعاء واللجوء الصادق إلى الرزاق الكريم، الذي لا يخيب من رفع يديه إليه واثقاً به متفائلاً بجوده وفضله.
فالدعاء من الأسباب العظيمة، وهو باب مفتوح لكل مسألة مشروعة من أمور الدنيا والآخرة، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماضٍ فيِّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحا" قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: "أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن"(رواه أحمد وابن حبان).
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأوفياء.
أما بعد:
عباد الله: إن ثمة أموراً تذهب الرزق وتمحقه، وتحول بين العبد وبين التنعم برزقه، وهذه الأمور على كثرتها ترجع إلى أصل واحد هو: معصية الله -تعالى-، ومن هذه المعاصي: كفران النعم وجحودها، ونسبتها إلى استحقاق الإنسان لها، وذكائه في تحصيلها، والتباهي بها على عباد الله -تعالى-، قال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
وقال -تعالى-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ)[القصص 76-81].
ومن الأمور التي تقضي على الرزق: التعامل بالربا؛ لأن الربا معصية كبيرة للخالق -سبحانه-، وظلم شنيع للمخلوق، وقطع للمعروف بين الناس، وإفساد للمجتمعات، قال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[البقرة: 276]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278-279].
معشر المسلمين: إن كثرة الحلف في البيع تمحق الأرباح، وتذهب بركة الرزق، وقد صارت اليمين عند بعض الباعة لفظاً سهلاً يفوه به دون أن يبالي، هذا إذا كان ما يحلف عليه حقاً، فكيف إذا كانت يميناً كاذبة غموساً؟! ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة", وفي لفظ: "للربح"، وعند مسلم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق".
وبعض الناس قد لا يحلف، لكنه يغش ويدلس، ويكذب؛ طلباً لزيادة المال، ولا يدري أن ذلك ينقصه، وقد يدري، غير أنه غلبه حب المال على قلبه فأخذه من غير حلّه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"(متفق عليه).
ومما يغلق باب الرزق الطيب المبارك على صاحبه: الانشغال بطلب الرزق عن فرائض الله، وهذا الفعل المنكر صار ظاهرة في كثير من الأسواق، فالمؤذن ينادي للصلاة، والناس في غفلة منشغلون بالبيع والشراء، فأين تعظيم الله، وأين تقديم طاعته وحبِّ الآخرة على هوى النفس وحب الدنيا؟! قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون: 9].
فيا من رزقك الله، ومد عليك بساط رزقه الواسع: أنفق فيما يرضي من رزقك وأعطاك فيما يجب عليك من زكوات، ونفقات على نفسك وأهلك وأولادك ومن ولاك الله الإنفاق عليه، وتناول منه على وجه الاقتصاد بلا إسراف في وجوه الكرم والمباحات ولا تبذر؛ فإن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.
ولا تبخل وتشح عن إخراجه في أوجهه المشروعة من حقوق الله وحقوق الخلق؛ فإن البخيل غني اليد فقير الحال، يكد ويتعب لغيره، عليه الغرم ولسواه الغنم.
ومن قُدِر عليه رزقُه، فليطمئن إلى قدر الله، ويرض بقسمة الله؛ فإنه -تعالى- أرحم به من نفسه، وليلزم القناعة شعاراً والصبر دثاراً، فما أحسنه من لباس على العبد!
وليعلم أن الرزق ليس باباً واحداً هو المال؛ فالصحة والعافية رزق قد يرزقها الفقير ويحرمها الغني، فكم من فقير يأكل ما يشاء ويشرب ما يشاء مما عنده، وغني لا يأكل إلا كسرة خبز وشربة لبن، فمن أسعد قلباً وأحسن حالا؟!
وكذلك الستر رزق، ومحبة الناس رزق، والزوجة الصالحة رزق، والأبناء البررة رزق، والجار الصالح رزق، والتوفيق من الله رزق، والعلم والعقل رزق، وغير ذلك. فما أكثر مجالات الرزق، ولكن ما أقل من يتفكر فيها!.
فيا رزاق ارزقنا ما يكفينا ولا يطغينا، ويعيننا على طاعتك ولا يلهينا، اللهم وارزقنا التوفيق إلى شكرك، وحسن عبادتك، ومدِّ يد العون إلى خلقك، واجعلنا من أهل اليد العليا، ولا تجعلنا من ذوي اليد السفلى يا كريم.
وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.