البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عمر السحيباني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الصبر ساق إيمان المؤمن، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمان به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة. الصبر المشروع ليس يأسا ولا قنوطا ولا عجزا، بل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه ، أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، توكل عبد راض بقضائه، وصابر على بلائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله عند اقتراب من الساعة، فبصّر به من العمى، وهدى به من الضلالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
فأوصيكم -أيها المسلمون- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلن، وطاعته في المَنْشَط والمَكْرَه، وذكره في الرخاء والشدة، والصبر على طاعته وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة.
أيها المسلمون: عبادة الضراء، وعدة المسلم حين نزول البلاء، والطاقة المدخرة في السراء، والحبل المتين في الضراء، إنه الصبر تبدو مرارته ظاهرا، ويصعب الاستشفاء به عند الضعفاء.
والصبر مثل اسمه مر مذاقته | لكن عواقبه أحلى من العسل |
الصبر ساق إيمان المؤمن، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمان به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة.
الصبر المشروع -أيها المسلمون-: ليس يأسا ولا قنوطا ولا عجزا، بل الصبر المشروع توطين للنفس على مكارم الأخلاق والشيم.
الصبر شعور بالقوة استمساكاً بحبل الله المتين، وثقة بنصره وتوفيقه: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ)[النحل: 127].
الصبر مرضاة للرب، مؤنس للقلب، مُذْهِب للهَمّ، طارد للغَمّ، مُعْظِم للأجر، مُؤْذِن بالعِوَض، جعل الله الصبر مطية لا تكبو، وصارما لا يَنْبُو، وحصنا لا يهدم، وحَدّا لا يُثْلَم.
الصبر حسن توفيق، وأمارة سعادة، وعنوان إيمان، ودليل إذعان.
الصبر والتقوى طريق العز والتمكين: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24].
بالصبر والتقوى لا يضر كيد العـدو ولو كان ذا تسليط: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120].
أثنى الله على أهل الصبر فقال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة: 177].
وأوجب سبحانه للصابرين محبته: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 146].
وأخبر أنه خير لأهله، فقال: (وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ)[النساء: 25]، وقال: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ)[النحل: 126].
ووعدهم سبحانه بعظيم الأجر فقال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].
وقد أخبر النبي -صلى الله وعليه وسلم- أنه خير ما يعطاه العبد، فقال: "وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" (رواه الشيخان).
أيها المؤمنون: الصبر لازم لنا في ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: الصبر على طاعة الله -تعالى-؛ لأنّ النفس جبلت على حب الراحة والدعة والكسل والعجز، فحملُها على فعل ما أمر الله به يحتاج إلى صبر ومجاهدة وتحمل ومعاناة، فالصلاة فريضة متكررة تحتاج إلى صبر وجهد: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طـه: 132].
والحال الثانية: الصبر عن الشهوات والملذات، وذلك أن النفس ميالة إلى الآثام، تَوَّاقة إلى الشهوات، فإن لم تلجمها بلجام التقوى وتحكمها بحكمة الصبر وقعت في الآثام، وتلطخت بالأوزار، فالإعراض عن الملاهي والإدبار عن الشهوات لا يأتي إلا لمن تدرّع بلباس المجاهدة والصبر، ولا يلقاه إلا الصابرون، فعاقبة الصـبر الجميل جميلة، وأحسن أخلاق الرجال التحفظ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 28].
والحال الثالثة: الصبر على أقدار الله -تعالى-، وهذا النوع من الصبر لا غنى للإنسان عنه، فالدنيا مليئة بالغُصص والمنغصات، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4].
جُبِلتَ على كدر وأنت تريدها | صفوًا من الأقذار والأكـدار |
فمن ذا الذي لا يشكو همًّا ولا يحمل غمًا، ولم تطرقه الدواهي وتَغْشَه الكروب، فهي كما قال الأول:
كل من لاقيت يشكو دهره | ليت شعري هذه الدنيا لمن؟ |
والناس إزاء هذه الحقيقة الخلقية القدرية الكونية صنفان: قوم قابلوا أقدار الله –تعالى- بالسخط والضجر والجزع، فخسروا دينهم وأضاعوا دنياهم، فهم في مقابلة البلاء كما قال بعض السلف: "كالبعير عَقَلَه أهله ثم أطلقوه، فلا يدري فيم عَقَلُوه حين عَقَلُوه، ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه".
وقوم إذا نزلت بهم نازلة تذكروا قول الله -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن: 11]، فآمنوا بالله، وصبروا على قضاء الله وقدره، وفزعوا إلى ما أرشد إليه نبيهم -صلى الله وعليه وسلم- حيث قال: "ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها".
وتذكروا أن البلاء كفارة وجزاء فاحتسبوا، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله -تعالى- وما عليه خطيئة".
لذلك كان الصبر خير عيش أدركه السعداء الأقوياء، وهو في دروب الظلمات والمدلهمات نور وضياء.
إن الذي عَقَدَ الذي انعقدت له | عُقَدُ المكاره فيك يملك حَلّها |
صبرًا فـإن الصبر يعقب راحة | ولعـلّها أن تنجلـي ولعلّها |
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه".
اصْبِرْ لكـلِّ مصيبـةٍ وتجَلَّدِ | واعلم بأنّ المرءَ غيرُ مُخَلـَّدِ |
أَوَ ما ترى أنّ الْمصائبَ جَمَّةٌ | وترى الْمنيّةَ للعبـاد بِمَرْصَدِ |
مَن لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ | هذا سبيلٌ لستَ فيـه بأَوْحَدِ |
وإذا ذكرتَ مصيبةً تَسْلُو بها | فاذكر مُصَـابَكَ بالنبي محمّدِ |
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 153 - 157].
الخطبة الثانية:
الصبر -أيها المؤمنون- ضرورة حياتية وهو رائد النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، فكل الناجحين في الدنيا بمقاصدهم إنما حققوا آمالهم بالصبر؛ استمرأوا المُرّ، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب، وركبوا المشقات وتجرعوا الغصص وانتظروا النتائج بكل فأل وأمل، حاديهم في سيرهم: "من صبر ظفر"، وشاعرهم يهتف مرددًا:
إني رأيت وفي الأيام تجربة | للصـبر عـاقبةً محمـودةَ الأثر |
وقلّ من جد في أمر يحاوله | واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر |
أيها المؤمنون: إذا كانت الدنيا -على هوانها وأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة- لا تحصل إلا بالصبر والمصابرة، فكيف تحصل الجنة التي عرضها السماوات والأرض، والتي أعد الله فيها لأوليائه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟!
إن طلاب هذا النعيم وخطَّاب هذه الجنة هم أحوج إلى الصبر وألزم، فطريقهم محفوف بالمخاطر والمكاره والمشقات.
ولن تبلغ -أيها المؤمن- ما ترجوه من فضل الله ورحمته وعظيم منّه وعطائه بمثل الصبر، وهذا سرُّ احتفاء القرآن الكريم بالصبر، حتى ذكره الله -تعالى- في نحو تسعين موضعًا من كتابه الكريم.