البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

على عتبات الوداع

العربية

المؤلف عبداللطيف بن عبدالله التويجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الصيام
عناصر الخطبة
  1. تأملات في تفسير سورة النصر وختام عمر النبي صلى الله عليه وسلم .
  2. استحباب تكثير العبادة في آخر العمر .
  3. الحث على الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان .
  4. فضائل ليلة القدر .
  5. الاهتمام بالقبول في ختام الشهر .
  6. الاستغفار ختامُ كلِ الأعمالِ الصالحة .
  7. أهمية صدقة الفطر في ختام رمضان. .

اقتباس

يا شهرَ رمضانَ ترفقْ، دموعُ المحبين تدفقْ، قلوبُهم من ألمِ الفراقِ تشقق، عسى ساعةُ توبةٍ ترفو من الصيامِ كلما تخرق، عسى منقطعٍ عن ركبِ المقبولين يلحَق، عسى أسيرُ الأوزارِ يُطلق، عسى من استوجبَ النارُ يُعتَق..

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...

أمَّا بعد:

في مجلسٍ علميٍّ من مجالسِ المُلهَمِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنه- وبحضرةِ أشياخِ بدر، عرضَ عليهم قائدُهم عمرُ -رضيَ اللهُ عنه- مدارسةَ سورةَ النصرِ فقالَ -رضيَ اللهُ عنه- لهم: مَا تَقُولُونَ فِي: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا)[النصر: 1- 2]، حَتَّى خَتَمَ السُّورَة، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا.

ولَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عمرُ لحبرِ الأمة: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ فقالَ: "لا، هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا". قَالَ عُمَرُ: "مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ".

عبادَ الله:

إن هذا العمرُ المباركُ يكفيه شرفًا أن أقسمَ اللهُ بهِ فقالَ تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر: 72]؛ قالَ ابنُ عباسَ -رضيَ اللهُ عنه-: "مَا خَلَقَ اللهُ وما ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أكرمَ على اللهِ مِنْ محمدَ -صلى اللهُ عليه وسلّم-، ومَا سمعتُ اللهَ أقسمَ بحياةِ أحدٍ غيرِه"(أخرجَه الطبري).

إنها ثلاثُ وستون ربيعًا، تمّتْ فيها نعمةُ اللهِ على البشريةِ ضياءً ونورًا وسراجًا منيرًا، ثلاثُ وستون عامًا هيَ شامةٌ في جبينِ تاريخِ البشرية، فيها استدارَ الزمانُ كهيئتِه يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرض، ومنها أربعون عامًا كانتْ للبشريةِ عافيةً لأبدانِهم وشمسًا لدنياهم، كرمضانَ في دهرِ البشرية.

أيها المباركون!

وغايةُ الكمالِ في هذا العمرِ المباركِ كانَ في تمامِه كما قالَ ابنُ عباس: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ".

لقدْ كانَ ختامُ هذا العمرِ مسكًا بالاستغفار، وريحانًا بالجدِ في العبادة، كما قال -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- لبضعتِه -رضيَ اللهُ عنها-: "إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي".

قال العلماء: وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر.

هَكَذَا تتزينُ الأعمارُ المباركة، وهَكَذَا يكونُ وداعُ الصالحين، وهَكَذَا يَكُونُ مركبُ الناجين؛ جعلَنَا اللهُ وإياكم منهم.

فحينَ تقتربُ النهايات، ويلوحُ الوداعُ يشتدُ الصالحون اجتهادًا وتشميرًا، وهَا هُوَ الشهرُ المباركُ يُوشَكُ أنْ ينقضي، وأمكُم عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- تقولُ كما في صحيحِ مسلم: "كانَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يجتهدُ في العشرِ الأواخر ما لا يجتهدُ في غيرِه".

وهَا هيَ العشرُ المباركةُ خيرُ ليالِ الدهرِ قدْ أظلّتْكُم، فشمرُوا عنْ ساعدِ الجدِ فعندَ الصباحِ يحمدُ القومُ السرى، والعبرةُ بالخواتيمِ فإنْ كنتَ يا صاحِ أحسنتَ الاستقبالَ فزينْ إحسانَك بحسنِ الوداع، وإنْ كنتَ أسأتَ الاستقبالَ فرقعْ إساءَتك بحسنِ الوداع، فضيفُنا (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)[البقرة: 184]، وقدْ تصرمتْ هذه الأيام، فَمَا بَقِيَ مِنْهَا إِلّا كلمحِ البصر، وغَدًا يصيحُ المنادي: هلّ هلالُ العيد!

فشدُّوا المئزرَ وأحيُوا لياليه المتبقية، فربّما تظفرونَ بالجائزةِ الكبرى: "منْ قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَه مَا تَقدّمَ من ذنبِه".

يَا رجالَ الليلِ جدُّوا

ربّ داعِ لا يُـرَد

مَا يقومُ الليلَ إلا

منْ له عزمٌ وجد

إخوةَ الإيمان: رُوِيَ عنْ مجاهد: أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- ذكرَ رجلًا منْ بني إسرائيلَ لَبِسَ السلاحَ ألفَ شهرٍ؛ فعجبَ المسلمونَ منْ ذلك فأنزلَ اللهُ هذه السورةَ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 3]، قالَ النخعيّ: "العملُ فيها خيرٌ منَ العملِ في ألفِ شهر".

وفي الصحيحينِ عنْ أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه- عنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- قال: "منْ قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدمَ منْ ذنبِه".

سُئِلَ الضّحاك: أرأيتَ النفساءَ والحائضَ والمسافرَ والنائمَ لهمْ في ليلةِ القدرِ نصيب؟ قال: "نعمْ كلُ منْ تقبلَ اللهُ عملَه سيعطيْه نصيبَه منْ ليلةِ القدر".

وروى الترمذيُّ في سننِه أن الصدِّيقةَ -رضيَ اللهُ عنهما- سألتْ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتَ إنْ علِمْتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدرِ ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: "اللَّهمَّ إنَّك عفُوٌّ تُحِبُّ العفْوَ، فاعْفُ عنِّي".

فرطبْ بهذا الدعاءِ لسانَك في هذه الليالي الشريفة.

قال سفيانُ الثوري: "الدعاءُ في تلكَ الليلةِ أحبُّ إليَّ منَ الصلاة".

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[سورة القدر: 1- 5].

الخطبة الثانية:

أما بعد:

لما شيدَ الخليلُ -عليه الصلاة والسلام- أعظمَ مسجدٍ على وجهِ الأرضِ تضرعَ إلى اللهِ بالقبول، فخلدَ اللهُ سُؤْلَه كما خلّد عملَه: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127]، وَهَا أنتُمْ قَدْ رفعتُم في شهرِكم قواعدَ أعمالٍ صالحةٍ فتضرعُوا لمولاكم بقبولِها: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون: 60].

عباد الله: لئن كانَ الاستغفارُ ختامَ العمرِ المبارك، لحياةِ النبيِّ المبارك -صلى اللهُ عليه وسلم-، فهوَ كذلك ختامُ كلِ الأعمالِ الصالحة، كتبَ عمرُ بنْ عبدِ العزيزِ إلى الأمصارِ يأمرُهم بختمِ رمضانَ بالاستغفار، وصدقةِ الفطرِ.

قالَ -رحمَه الله-: "قولُوا كمَا قالَ أبُوكم آدم: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23]، وقولُوا كما قالَ نوحُ -عليه السلام-: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[هود: 47]، وقولوا كما قال موسى -عليه السلام-: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)[القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون -عليه السلام-: (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87]".

ويُروى عنْ أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه- أنه قال: "الغِيبةُ تخرقُ الصيامَ، والاستغفارُ يرقعُه فمنِ استطاعَ منكم أن يجيءَ بصومٍ مرقعٍ فليفعلْ".

وعن ابنِ المنكدرِ في معنى ذلك: "الصيامُ جنةٌ من النارِ ما لمْ يخرقْها، والكلامُ السيءُ يخرقُ هذه الجُنّة، والاستغفارُ يرقعُ ما تخرقَ منها".

وكانَ جعفرُ الصادقُ يدعو في آخرِ رمضانَ فيقول: "اللهم ربَّ رمضانَ منزلَ القرآن، هذا شهرُ رمضانَ الذي أُنزلَ فيه القرآنُ وقدْ تصرَّم، أي رب فأعوذُ بوجهِك الكريمِ أن يطلعَ الفجرُ من ليلتي هذه أو يخرجَ رمضان، ولك عندي ذنبٌ تريدُ أن تعذبَني يومَ ألقاك!".

أيها الصائمون!

وإن مما يرقعُ صيامَنا مما خرقَه من اللغوِ والرفث: صدقةُ الفطرِ كما في حديثِ ابن عباس: "فرضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطرِ طُهرَةً للصائمِ من اللغوِ والرفثِ وطُعْمَةً للمساكينِ، من أدَّاها قبلَ الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولَةٌ، ومنْ أدَّاها بعدَ الصلاةِ فهيَ صدقةٌ منَ الصدقاتِ".

يا شهرَ رمضانَ ترفقْ، دموعُ المحبين تدفقْ، قلوبُهم من ألمِ الفراقِ تشقق، عسى ساعةُ توبةٍ ترفو من الصيامِ كلما تخرق، عسى منقطعٍ عن ركبِ المقبولين يلحَق، عسى أسيرُ الأوزارِ يُطلق، عسى من استوجبَ النارُ يُعتَق.

اللهم أحسن عاقبتَنا في الأمورِ كلِها، وأجرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.