الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
إن يوم الفرقان كان في رمضان، وكانت وقعةُ بدرٍ ملحمةً عظمى انتصر فيها الحقُّ على الباطل رغم فارق العدد والعدة، وشاء الله أن تقع المعركة على غير ميعاد، بل والمسلمون لها كارهون، ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، ولكن الله كان يريد المعركة: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
إنَّ الحمدَ لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يُهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ، ومنْ يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعدُ:
أيها الصائم: ماذا تعرفُ من انتصاراتنا في رمضان؟! وما نوع هذه الانتصارات؟! وماذا بقي لنا من عبرة؟! وما هي الانتصارات المتجددةُ في رمضان؟!
إخوَّة الإسلام: وإذا كان رمضان شهر التقوى والصيام، وشهر الصبر وتلاوة القرآن، وشهر النفقة والإحسان، إلى غير ذلك من مزايا وفضائل شهر الصيام، فرمضان كذلك شهرُ الانتصار.
وانتصاراتنا في رمضان في أكثر من مجال، لا تحد بزمان ولا يخص بها أجيال دون أجيال، وليست قصرًا على الانتصارات العسكرية، بل ثمة انتصارات من نوع آخر؛ ففي شهر رمضان ينتصر الصائم على دواعي الشهوة -وإن كانت مباحة-؛ إذ تصوم البطون عن الأكل والشراب، وإن كانت حلالاً، وتصوم الفروجُ عن الشهوة وإن كانت غير ملومةٍ مع الأزواج أو ما ملكت الأيمان، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وينتصر الصائم على الشهوة المحرمة كشرب الدخان، أو ما يدخل في بابه -بل وأعظم-، كالمخدرات والمسكرات ونحوها، فثمة نفرٌ من المسلمين بُلوا بهذه الأدواء المهلكة، لكنهم في شهر الصيام يهجرونها -ولو على الأقل في نهار رمضان- وهم خليقون بهجرها على الدوام، وعسى الله أن يجعل من شهر الصيام فرصةً لهم على التوبة النصوح والانتصار على دواعي الشهوة التي تورث الذلة والمهانة.
أيها الصائمون: والصائم الموفق والحافظ لصيامه ينتصر على شهوة النظر المحرمة، وشهوة السمع الآثمة، هذا في السمع والبصر، وفي اللسان ينتصر الصائم الحافظ لصيامه على آفات اللسان من الغيبة والنميمة، واللغو وقول الزور، والفحش والآثام ورديء الكلام.
عباد الله: وينتصر الصائمون الموفقون على دواعي الشهوة الخفية من حبِّ الرياء والسمعة، والصيام يدرب على الإخلاص، وبالصيام يقوى جانب المراقبة لله؛ إذ لا رقيب على الصائم إلا الله في صيامه وحفظ أمانته، ومن هنا قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
إخوة الإيمان: وينتصر جماهيرُ من المسلمين في رمضان على مكر الشيطان وتوهينه وإغوائه في التكاسل عن الصلاة جماعةً مع المسلمين، وفي شهود صلاة الفجر التي طالما أضاعوها أو أخروها عن وقتها.
وفي رمضان تكتظُّ المساجدُ بالمصلين، وعسى الله أن يجعل من رمضان فرصةً ليراجع المفرطون أنفسهم، ويتوبوا إلى بارئهم، ويشكروه على نعمة الصحة والأمن والفراغ، ويخرجوا من دائرة الخُلوف الذين قال الله فيهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم: 59، 60].
وها هو باب التوبة يُفتح على مصراعيه -يا أخا الإسلام-، فلا يضيق بك البابُ وإن كان واسعًا.
كما ينتصر الصائمون على الشح والأثرة والبخل والأنانية، ففي رمضان تكثر الصدقاتُ والإحسانُ للفقراء والمحتاجين، ويحسّ المسلمون في رمضان أكثر من غيره بحوائج إخوانهم المسلمين هنا وهناك، فيصلونهم ويحسنون إليهم، والمؤملُ والمرتجى أن يمتد هذا الإحسان والإنفاق بعد رمضان.
أيها المسلمون: وحين نَعدُّ انتصاراتنا المعنوية في رمضان، فإن كلَّ طاعةٍ يُتقرب بها إلى الله في رمضان هي انتصارٌ للحق وانتصارٌ لأصحاب الحق، وإن كلَّ تائب يعودُ إلى رشده في رمضان، ويلتزم صراط الله المستقيم، هو انتصار للحق، وهو معدودٌ في انتصاراتنا في رمضان، وإن كلَّ كسب يتحقق للإسلام ودعوةٍ مثمرةٍ لغير المسلمين للدخول في الإسلام تنشط في رمضان هي انتصارٌ للحق وهي في دائرة انتصاراتنا في رمضان، وفوق هذا وذاك فنحن قادرون على تحقيق مزيد من الانتصارات في رمضان حين نتحرك ونجتهد ونُخلص ولا نكلّ ولا نمل.
أيها المسلمون: وإذا كانت هذه وأمثالها كثير من انتصاراتنا السلمية في شهر رمضان، فلنا انتصاراتٌ عسكريةٌ في رمضان، هلل الكون لها، واستبشر لها جندُ الله وكبر، وأرغمت أنوفُ الكافرين، وخمدت شوكة الباطل والمبطلين، وسأكتفي اليوم بوقفة يسيرة عند نموذج واحدٍ من هذه الانتصارات.
أجل، إن يوم الفرقان كان في رمضان، وكانت وقعةُ بدرٍ ملحمةً عظمى انتصر فيها الحقُّ على الباطل رغم فارق العدد والعدة، وشاء الله أن تقع المعركة على غير ميعاد، بل والمسلمون لها كارهون، ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، ولكن الله كان يريد المعركة: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 7، 8].
وتعلَّم المسلمون من معركة بدر: أن القوة المادية ليست وحدها ميزان المعركة، كيف لا والمؤمنون يقرؤون في كتاب ربهم أنهم إذا صدقوا وأخلصوا وأعدوا ما استطاعوا من قوة نصرهم الله على عدوهم، وعذب الله الكافرين بأيديهم، وتأملوا دقة التعبير في قوله تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 14].
لقد كانت معركة بدرٍ الرمضانية فرقانًا كما سماها الله بين الحق والباطل وبين التوحيد والشرك، وبين عهد الضعف والأمر بالصبر والانتظار وكف الأيدي، وبين عهد القوة والجهاد في سبيل الله، والذي استمر في الفتوح على أيدي المسلمين، حتى وإن انتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى.
وكانت بدرُ فرقانًا في موازين عوامل النصر والهزيمة، فقد خرجت قريش تجر أثواب الكبر والخيلاء بطرًا ورئاءَ الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط، وما هي إلا لحظات حتى تطامنت الكبرياء، وأرغمت أنوفُ الملأ من قريش ما بين قتيل وأسيرٍ.
وحين نتجاوز ما حصل لأبي جهل ومن لقي مثل مصيره من صناديد قريش من أصحاب القليب، ونلتفت إلى الأسرى -وفيهم كبراء وملأٌ من قريش- نقف كذلك على نوع من دروس بدر في نُصرة الحقِّ ولو بعد حين، وفي قصة سهيل بن عمرو بن عبد شمس ما يؤكد ذلك، فقد وقع سُهيلٌ ممثلُ قريشٍ في صلح الحديبية في الأسر في معركة بدر، وقد كان أحد أشراف مكة، وخطيب قريش المشهور، وكان لخُطبه أثرٌ كبيرٌ في محاربة المسلمين، وحين تقرر إطلاق سراحه من الأسر بعد دفع الفداء عنه، تقدم الفاروق عمر -رضي الله عنه- إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: انزع ثنيتي سهيل حتى يدلعَ لسانه فلا يقومُ عليك خطيبًا في موضع أبدًا، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك وقال لعمر: "دعه، فعسى أن يقومَ مقامًا تحمده".
ومضت الأيامُ سراعًا، وأسلمُ فيما بعد سهيلٌ، وصدقت رؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لسهيل موقفٌ يُحمد عليه، فقد بلغه أن بعضَ أهل مكةَ همَّ بالردَّة، وكان سهيل سيدًا مطاعًا فيهم، فوقف خطيبًا وقال: "يا أهل مكة: لا تكونوا آخر الناس إسلامًا وأولهم ارتدادًا، والله من رابنا من أمره شيءٌ ضربنا عنقه كائنًا من كان".
قال ابن حجر: "وخطبهم بنحو ما خطب الصديقُ أهل المدينة".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أيها المسلمون: ليس الحديثُ عن معركة بدرٍ بالتفصيل، وإلا لطال الكلام، وفي المعركة دروسٌ وعبرٌ تستحق الوقفة والنظر، ولكنني في هذا المقام أكتفي بعرض موقفٍ آخر في صف المسلمين، بعد أن عَرضتُ لموقفٍ في صف المشركين، وهو مؤشرٌ على صدق المسلمين في الجهاد، وتنافسهم على الشهادة في سبيل الله.
فهذا سعدُ بن خيثمة بن الحارث، وأبوه خيثمة -رضي الله عنه- اختلفا أيُّهما يخرجُ مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمعركة، وأيهما يبقى مع النساء؛ إذ لابد لأحدهما أن يقيم، فقال الأب -وهو شيخ كبير- لابنه مستخدمًا حقَّ الأبوة: آثرني بالخروج وأقم أنت مع النساء، فأبى الولدُ سعدُ، لا عصيانًا ولا عقوقًا، ولكن رغبةً فيما عند الله، وقال: لو كان ذلك غير الجنة آثرتُك به، وإني لأرجو الشهادة في وجهي هذا.
واشتدَّ الخلافُ بينهما، كلٌّ يريد الخروج لبدر، فلم يجدا حلاً إلا أن يستهما، فخرج السهمُ لسعد الابن، فخرج فاستشهد يوم بدر.
تأملوا في هذه الصورة، وقارنوا بينها وبين واحدٍ من زعامات قريش -وهو أبو لهب- الذي خاف من الخروج لبدر رغم عداوته للرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ولم يحضر المعركة، وأناب عنه رجلاً بثلاثة آلاف دينار، ولكن الله قتله بآثار المعركة، فحين سمع بنتيجة المعركة وهزيمة المشركين كان الخبرُ قاسيًا عليه، فأصابته الحمى، ويُقال: إنه مات كمدًا وغيظًا.
وعمومًا ففي معركة بدر عدةُ معالم؛ من أهمها:
أن الظلم له نهاية، والمكر السيئ يحيق بأهله، ومن مقولة زعماء قريش: "لابد أن نَرِدَ بدرًا ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان وتعلم العرب أنَّا نحن الناس". وبين هذه الكبرياء وصرعاهم في القليب عبرةً لمن اعتبر.
أن النصر مع الصبر، وحين يصدق المسلمون يمدهم الله بجند من عنده، ومن تأمل عوامل النصر الإلهية في بدر أدرك ذلك، فالنعاس والأمنة، الملائكة والتثبيت، نزول المطر المثبت للأقدام والمذهب لرجز الشيطان، تقليل المشركين في أعين المسلمين والعكس، (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) [الأنفال: 42].
أن الفارق الزمني بين العظمة والاستكبار والسقوط والاندثار قصير، وبين معركة بدر وفتح مكة ست سنوات، وهي قليلة في عمر الزمن واختلاف القوى.
ذلك هو الإسلام الحق، وتلك هي الجاهلية والباطل.