الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
اليومُ ينظرُ البعضُ إلى من جمعَ المالَ العظيمَ، على أنَّه رجلٌ عظيمٌ، وإلى من بلغَ المنصبَ الرَّفيعَ، على أنَّه رجلٌ رفيعٌ، وعلى من وصلَ القِمَّةَ، على أنَّه رجلٌ قِمّةٌ، وينظرونَ إلى الرَّجلِ المشهورِ، على أنَّه ناجحٌ مَشهورٌ، دونَ النَّظرِ إلى كيفَ جمعَ، وكيفَ بلغَ، وكيفَ وصلَ، وكيفَ اشتهرَ، وفيمَ اشتهرَ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإنَّ أحسنَ الحديثِ كلامُ اللهِ -تعالى-، وخيرَ الهدي هديُ مُحمدٍ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وشرَّ الأمورِ مُحْدثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.
للأسف أنَّ هناكَ من يقولُ: إننا في أيامٍ لا يعيشُ فيها إلا من يكسرُ حاجزَ الحرامِ، ويمشي مع مَوجةِ الحياةِ على ما تقتضيهِ الأيامِ، ويُطأطِئُ رأسَه قليلاً حتى لا تُصيبَه السِّهامُ، وليسَ شَرطاً أن تُرضيَ ضميرَك الشَّريفَ على الدَّوامِ.
ويضربُ الأمثلةَ ويقولُ: هل رأيتَ ذلكَ الرَّاشيَ كيفَ تسيرُ مُعاملاتُه، وكيفَ تفوزُ مناقصاتُه، وهل رأيتَ ذلكَ المُرابيَ كيفَ تضخَّمتْ أموالُه، وكيفَ زانتْ أحوالُه، وهل رأيتَ ذلكَ الغَشَّاشَ كيفَ أصبحتْ تجارتُه، وكيفَ تضاعفتْ ثروتُه؟!
وهل رأيتَ ذلكَ الكذَّابَ كيفَ بلغَ قِمَّةَ الشُّهرةُ، وأصبحَ نجمَ السَّهرةِ، وهل رأيتَ ذلكَ السَّخيفَ كيفَ أصبحَ محبوبَ المُشاهدينَ، ومُتابعيهَ بالملايينَ، وهل رأيتَ ذلكَ، وذلكَ، وذلكَ؟! من الأمثلةِ الكثيرةِ، وأنتَ لا تزالُ تحتفظُ بمبادئكَ القَديرةِ.
فسبحانَ اللهِ! هل ينبغي أن يكونَ تفكيرُنا سَطحيٌّ في النَّظرِ إلى حقائقِ الأمورِ، بعيداً عن أقدارِ وحكمةِ العزيزِ الغفورِ، اسمعوا معي إلى حديثِ رسولِ اللهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وفيه آيةٌ من كتابِ اللهِ -تعالى-، توضِّحُ نوعاً من النَّاسِ قد فتحَ اللهُ عليهم أبوابَ النِّعمِ..
فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الأنعام: 44]، فالعطاءُ الدُّنيويُّ من اللهِ -سبحانَه- ليسَ دليلاً للمحبَّةِ، إلا إذا كانَ مع عبادةٍ وشُكرٍ كما قالَ -تعالى-: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7].
هناكَ شيءٌ يُدعى "الأمنُ من مكرِ اللهِ -تعالى-"، وهو بِبساطةٍ أن يكونَ العبدُ أو القومُ في نِعمِ اللهِ -تعالى- مُنغمسونَ، وهم على مَعصيتِه مُقيمونَ، فلا هم يُطيعونَ، ولا هُم يشكرونَ، وقد قالَ اللهُ -سبحانَه- في أمثالِ هؤلاءِ: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 97- 98]، فمثلُ هؤلاءِ يأتيهم البأسُ والعذابُ غفلةً، في حِينِ نومٍ أو لعبٍ.
فلا ينبغي لمن رضيَ باللهِ ربَّاً وبالإسلامِ ديناً وبمحمدٍ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- نبيَّاً أن يعيشَ لحظتَه فقط على أيِّ حالٍ كانَت، ولا يُبالي بِما أخذَ واكتسبَ، أمِن حلالٍ هو أو حرامٍ، ولا ينظرُ إلى عملِه، أهو في نورٍ أو في ظَلامٍ، ودونَ أن يَنظرَ إلى عواقبِ الأمورِ والمآلاتِ، وبينَ أيدينا كتابُ اللهِ يُخبرنا بالنَّتائجِ والنِّهاياتِ، واسمع لمن أرادَ العاجلةَ بأيِّ طريقةٍ، وبأيِّ وسيلةٍ، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[هود: 15- 16].
عبادَ اللهِ: اليومُ ينظرُ البعضُ إلى من جمعَ المالَ العظيمَ، على أنَّه رجلٌ عظيمٌ، وإلى من بلغَ المنصبَ الرَّفيعَ، على أنَّه رجلٌ رفيعٌ، وعلى من وصلَ القِمَّةَ، على أنَّه رجلٌ قِمّةٌ، وينظرونَ إلى الرَّجلِ المشهورِ، على أنَّه ناجحٌ مَشهورٌ، دونَ النَّظرِ إلى كيفَ جمعَ، وكيفَ بلغَ، وكيفَ وصلَ، وكيفَ اشتهرَ، وفيمَ اشتهرَ.
نحنُ إذا أردنا أن نَعرضَ هؤلاءِ للأجيالِ كقِصصِ نجاحٍ، نحتاجُ أن نعرفَ كيفَ هم مع الشُّكرِ والصَّلاحِ، نحتاجُ إلى إبرازِ قُدواتٍ ناجحةٍ في جميعِ المجالاتِ، لكن مِمَّنْ إذا خرجَ للنَّاسِ قالَ: "هذا من فَضلِ ربِّنا"، ولا يقولُ: أنا وأنا وأنا وأنا، وقد يكونُ مليئاً بالجوانبِ السَّيئةِ دينياً وأخلاقياً، وإذا كانَ الحكمةُ ضالةَ المؤمنِ حيثُ وجدَها فهو أحقُّ بِها، فكيفَ للشَّبابِ أن يُفرِّقوا في هذا المشهورِ، ما هو الحَسنُ فيهِ وما هو الجانبُ المحظور.
لقد أخبرنا اللهُ -تعالى- في كتابِه عن كثيرٍ من الأقوامِ والأفرادِ المشاهيرِ، الذينَ أنعمَ اللهُ -تعالى- عليهم ولكنْ كانَ منهم الفسادُ الكثيرُ، وماذا كانَ جزاءُ مَن أمِنَ مكرَ اللهِ العزيزِ القديرِ.
لقد ذكرَ لنا اللهُ -تعالى- عن عاقبةِ من اغترَّ بمُلكِه ومَنصبِه، وماذا كانَ جزاءُ عِصيانِه وكَذبِه، فقالَ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى)[النازعات: 15- 26].
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِماً مُتَمَرِّداً | يَرَى النَّجْمَ تِيهاً تحْتَ ظِلِّ رِكابِهِ |
فَعَمَّا قليلٍ وَهْوَ في غَفَلاتِهِ | أَنَاخَتْ صُروفُ الحادِثَاتِ بِبابِهِ |
فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلاَ جاهٌ يُرْتَجَى | وَلا حَسَناتٌ تَلْتَقي فِي كتَابِهِ |
وجُوزيَ بالأَمرِ الذي كَانَ فَاعلاً | وصَبَّ عليهِ اللهُ سَوطَ عَذابِهِ |
وأخبرنا عزَّ وجلَّ عمَّنْ أطغاهُ مالُه وغِناهُ، ونَسيَ من تفضَّلَ عليه وأغناهُ، فقالَ -سبحانَه-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[القصص: 76- 79].
هذا قولُ الذينَ لا يعلمونَ، فماذا قالَ الذينَ يعلمونَ؟، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 80- 81].
وأَخبرَنا عن جزاءِ من أُوتيَ عِلماً كثيراً، فاشترى به ثمناً من الدُّنيا حَقيراً، فقالَ: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ)[الأعراف: 175- 176].
وأخبرَ عن عقابِه العامِ الذي ينتظرُ أهلَ المعاصي والسيِّئاتِ، الذينَ أمنوا مكرَ ربِّ الأرضِ والسمواتِ، كما قالَ -تعالى-: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ* أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[النحل: 45- 46]، وهكذا تَتَابعُ في القرآنِ القَصصُ الكثيرةُ والأمثالُ، عِبرةً وعِظةً للنَّاسِ من جحدِ نِعمةِ الكبيرِ المُتعالِ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قَولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه حقًّا، وتوبوا إليه صِدقًا، إنه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى اللهُ عليه وآلِه وصَحْبِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيُّها الأحبابُ: وعلى العكسِ من هؤلاءِ العَاصينَ المُفرِّطينَ الآمنينَ، تجدُ أهلَ الإيمانِ طائعينَ مُجتهدينَ خائفينَ، فعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟، قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ"، لا إلهَ إلا اللهُ .. عبادةٌ وخوفٌ .. ولذلكَ لمَّا تَلا الحسنُ البَصريُّ -رحمَه اللهُ- هذه الآياتِ قالَ: "إنَّ المؤمنَ جمعَ إحساناً وشَفقةً، وإنَّ المنافقَ جمعَ إساءةً وأَمناً".
ولذلكَ من كانَ خائفاً من اللهِ -تعالى- في الدُّنيا، جازاهُ اللهُ بالأمنِ التَّامِ يومَ القيامةِ، كما قَالَ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
والعبدُ متى كانَ خائفاً تقيَّاً، وجدَ في قلبِه رجاءً قوياً، فاجتمعَ في قلبِه خوفاً ورجاءً، وكانَ له من اللهِ خيراً وعطاءً، وهكذا لا يمنعُ خوفُ عبدٍ من الذُّنوبِ، أن يكونَ راجياً رحمةَ علَّامِ الغيوبِ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: "كَيْفَ تَجِدُكَ؟"، قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ".
اللَّهُمَّ يَا ذَا الحَبْلِ الشَّدِيدِ، وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ، نَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الوَعِيدِ، وَالجَنَّةَ دَاْرَ الخُلُودِ، مَعَ المُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ، الرُّكَّعِ السُّجُودِ، المُوفِينَ بِالعُهُودِ، إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ، وَإِنَّكَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ.
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغْنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمْنَا.
اللهم لا تَدعْ لنا ذنباً إلاَّ غفرتَه، ولا همَّاً إلا فرَّجتَه، ولا دَيْناً إلا قضيتَه، ولا مريضاً إلا شفيتَه، ولا مُبتلى إلاَّ عافيتَه، ولا ضَالاً إلاَّ هديتَه، ولا غائباً إلا رددتَه، ولا مظلوماً إلا نصرتَه ولا أسيراً إلا فكَكْتَه، ولا ميتاً إلاَّ رحمتَه، ولا حاجةً لنا فيها صلاحٌ ولك فيها رِضا إلاَّ قضيتَها ويسرتَها بفضلِك يا أكرمَ الأكرمينَ.