العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | فيصل سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الألفة الجامعة إحدى القواعد المهمة التي يصلح بها حال الإنسان، وذلك أن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة، فإذا لم يكن آلفًا مألوفًا تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له معيشته؛ إلا إذا كان آلفًا مألوفًا انتصر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نعمه تترا، وإحسانه لا يحد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أعطى فأجزل، وأنعم فأسعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، القدوة في البر والإحسان، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33].
أيها الأحبة في الله: المؤمنون الصادقون قوم يألفون ويؤلفون، يأنس بعضهم ببعض، لا يشعر من يجالسهم بوحشة أو ضيق نفس، بل يرى فيهم انشراح الصدر، وبشاشة المحيا، والتودد والمحبة، حتى لا يمل مجالستهم، ولا يطول بهم الوقت معهم.
وما أمس حاجة الإنسان إلى الألفة؛ فبها يتعايش مع كل من حوله، من أهل وجيران وأصدقاء وزملاء، بل هي الطريق إلى انسجام هذه الأرواح، وأمر الانسجام أمر ليس بالهين، حيث اختلاف الآراء، وتنوع وجهات النظر، وقل كذلك تلوّن النفوس وطبائعها المتغيرة؛ فمنهم أهل الصفاء، ومن هم الحاسدون، ولم أجد مثل الألفة تستطيع بها بعد الله -تعالى- أن تجمع هذه المختلفات، وتألف بينها في نسق، يبعث بالراحة والألفة، قال الماوردي: "إن الألفة الجامعة هي إحدى القواعد المهمة التي يصلح بها حال الإنسان، وذلك أن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة، فإذا لم يكن آلفًا مألوفًا تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له معيشته، إلا إذا كان آلفًا مألوفًا انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت له معيشته معهم، وإن كان صفو الزمان عسرًا وسلمه خطرا"(أدب الدنيا والدين).
والألفة بلا ريب توفيق من الله -تعالى-؛ لأنه الذي بيده القلوب سبحانه، ولا أعظم من أكبر ألفة في التاريخ، حينما ألف الله -تعالى- للنبي بين أصحابه -رضي الله عنهم-؛ فقد امتن الله -تعالى- على حبيبه فقال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63]، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"(متفق عليه).
ولا أخفيك -أيها الحبيب- أن الألفة تحتاج منك إلى شيء من الجهد والتضحية والتنازل عن بعض الحقوق، وعدم الاكتراث ببعض المواجهات ولو كانت عنيفة أحيانًا بين الإخوان، وتاج ذلك كله نية صالحة وقول جميل؛ فمثل هذا هو الذي يستطيع أن يتآلف مع الناس، أما من يتمادح بقوة المجادلة، والانتصار في النقاش، ويعد التنازل عن بعض الحقوق إهدار لكرامته؛ فهذا أبعد ما يكون من الألفة، وعليه أن يتأمل هذا الموقف النبوي الكريم الذي ينم عن حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطيب نفسه ومحبته لأصحابه جميعًا وحرصه على تأليف قلوبهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟" كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"(رواه البخاري).
أخي الحبيب: إن تآلفك مع أحبابك وانسجامك معهم لن تجد منه فقط محبة من حولك فقط، بل هو طريق إلى الخيرية التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن مؤلِّف، ولا خير فين لا يألف ولا يؤلف"(رواه أحمد وإسناد حسن).
واحذر كل الحذر أن تقيم صلب الألفة على الحاجات الدنيوية الزائلة؛ فإنها سرعان ما تزول، أو تنهار فجأة، حينما تبرز الروحان على حد المنافسة في أي شأن، بعكس من تقاربت روحهما حتى التقت على محبة الرحمن، فإن ترى كل معنى الإخاء تتخذ مكانها من نفسيهما؛ فالحب والإيثار والنصرة وصنع المعروف تراها ماثلة في حياتهما، هذا التأليف الحقيقي بين القلوب، قال الإمام مالك: "الناس أشكال كأجناس الطير، الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله".
وتأمل كيف رسم أبو حاتم توأم الروح حينما قال: "إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، فإذا ازداد به علمًا ازداد به عجبًا، ومنهم من يُبغض حين يراه، ثم لا يزداد به علمًا إلا إذا ازداد له مقتًا، فاتفاقهما يكون باتفاق الروحين قديمًا، وافتراقهما يكون بافتراقهما، وإذا ائتلفا ثم افترقا فراق حياة من غير بغض حادث، أو فراق ممات، فهنالك الموت الفظيع، والأسف الوجيع، ولا يكون موقفٌ أطولَ غمة، وأظهر حسرة، وأدوم كآبة، وأشد تأسفًا، وأكثر تلهفًا، من موقف الفراق بين المتواخيين، وما ذاق طعمًا أمرَّ من فراق الخلين، وانصرام القرينين".
وإني لأتساءل: كيف يعيش من لا يذوق لذة الألفة مع الآخرين؟! كيف يبتسم؟! كيف يقوم بعمله؟! كيف يستلذ طعم الأكل والشرب والمنام؟! وهو يشعر بثقله على الآخرين، أو لا يشعر، لكن الآخرين يشعرون بذلك.
ربما حال الكبر دون الألفة، وربما البطر، وربما النسب أو الحسب، أو الجاه والمنصب، وهو لا يعلم أن الذكر الحسن هو الذي سيتبع جنازته ويتخلى عنه ذلك كله.
وإذا كنا نتكلم بألفة المرء مع الناس، ونذكر بحث الدين عليها؛ فما بالك بمن يفقدها بين أفراد أسرته؛ بسبب غلظته وبطشه، أو بهجرانه لهم، أو نفرته منهم، أو بخله عليهم، وماذا سنقول بمن لا يسعى حتى في تآلفه مع زوجه، قد أعرض أو أعرضت بوجهها عنه؛ فأي نجاح نحققه على مستوى الأسر والوطن والأمة! وما أسرع ما يتربص العدو أو الحاقد كثر أو قل، كبر أو صغر، بلبنات هشة ضعفت ألفتها وتلاشت محبتها! لنكن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وكونوا عباد الله إخوانا".
فما تبصر العينان والقلب آلفٌ | ولا القلب والعينان منطبقان |
ولكن هما روحان تعرض ذي لذي | فيعرف هذا ذي فيلتقيان |
اللهم على الخير قلوب المسلمين، أستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله جعل لكل شيء قدرا، وأحاط بكل شيء خبرا، وأسبل على خلقه بلطفه رحمة وسترا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعلموا أن القسوة في القلوب، والغلظ في الأخلاق قد تكون في الإنسان دليلا على نقص كبير، كما أنها في تاريخ الأمم قد تكون علائم فساد خطير، فلا عجب أن قد حذر منها القرآن الكريم واعتبرها علة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم يقول سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16].
أما إذا زاد الإيمان في القلب وعمرت النفس بذكر الله ازدادت السماحة، وازداد الحلم، واتسع الصدر للناس؛ فلا يقابل الجاهل بمثل جهله ولكنه قول سلام وإعراض عن اللغو: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص: 55]، وقال في وصف عباد الرحمن: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63].
وليس من معاني طلب الألفة أن تموت الغيرة على دين الله -تعالى-؛ حتى يصل بالإنسان الأمر ألا يتمعر وجهه إذا رأى المنكر الذي لا يستطيع تغييره لا بلسانه ولا بيده، أو أن يستمرأ المعصية ويألفها ويرى الإنكار على أصحابها من التشدد والتزمت، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، وإنما يغضب هذا الغضب رحمة بأمته أن يصيبها عذاب أو تحل بها نقمة، ولم تكن الحكمة والموعظة الحسنة تفارقه حتى إذا غضب عليه الصلاة والسلام، بل أمرك لأخيك وأهلك بالمعروف ونهيك لهم عن المنكر هو من محبتك لهم، ولكن كن رفيقًا بهم ودودًا بهم.
فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا في القول والعمل، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
اللهم اجعلنا ممن يمتثلون أمرك، ويتبعون سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويسلكون درب هدايتك وشرعك، ويتخلقون بخلق كتابك ونبيك -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار.
اللهم ارفع البأساء والضراء عن كل مستضعف مسلم يا رب العالمين.
اللهم من أراد المسلمين وديارهم ومقدساتهم بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميرًا له، اللهم افجع اليهود وأعوانهم وكل عدو للإسلام في أهليهم وأموالهم وديارهم.
اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحبه وترضاه، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه على الخير وتدله عليه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.