الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
مما يعينُنا على ذكرِ الموتِ أن نذكرَ من مضى منْ أقاربِنا وإخوانِنا وأخواتِنا، وأصحابِنا وأترابِنا الذين مضَوا قبلَنا، وكانوا يحرصونَ حرْصَنا، ويسعونَ سعينا، ويعملونَ في الدُّنيا كعملِنا؛ فقصفتْ المنونُ أعناقهم، وقلعتْ أعراقَهُمْ، وقصمتْ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في كتابه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلعمران:185]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي كتب الفناء على عباده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي كان لا يفتر عن ذكر هادم اللذات صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم مبعثه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
عباد الله: الغفلةُ عن لقاءِ اللهِ -جل وعلا- لها آثارُها على العبدِ في حياتهِ وبعدَ مماتِهِ، وهي داءٌ عضالٌ إذا استشرى بقومٍ أخذَ بهم إلى سخطِ اللهِ وغضبهِ، وكان نكالاً وعذابًا عليهمْ في الآخرةِ؛ فالغافلُ عن لقاءِ ربّهِ هو الذي ينساقُ وراءَ شهواتِهِ وملذّاتِهِ، لاهثًا وراءَ دنياهُ، مشغولاً بجمعِ حُطَامِهَا، قال ربّنا -جل وعلا-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء:1-2].
وإنّ من أعظمِ الغفلة نسيانَ الموتِ الذي يقطعُ العبدَ عن الدّنيا، وينتقلُ بهِ إلى الدّارِ الآخرةِ؛ قالَ ربّنا -جل وعلا- في كتابِه العزيزِ محذّرًا من ذلك: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلهِكُم أَموَلُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقنَكُم مِّن قَبلِ أَن يَأْتِي أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَو لاَ أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون:9-11]، وقال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:99-100]. وقال -تبارك وتعالى-: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)[النساء:78]. وقال -جل وعلا-: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجمعة:8].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللّذّاتِ الموتْ"(رواه الترمذي)؛ أي نغّصُوا بذكرِهِ اللّذاتِ حتى ينقطعَ ركونُكمْ إلى هذهِ الدنيا الفانية، فتُقبلوا على اللهِ -تعالى-، وإنّما سببُ هذه الفضيلةِ كلِّها أنّ ذكرَ الموتِ يوجبُ التّجَافِي عن دارِ الغرورِ، ويقتضي الاستعدادَ للآخرةِ، والغفلةُ تدعو إلى الانهماكِ في شهواتِ الدنيا.
وعنِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- قال: "أخذَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي وقال: كُن في الدّنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ، وعُدَّ نفسكَ منَ أصحابِ القبورِ"(رواه البخاري)؛ أي: لا تركننَّ إليها ولا تَتَّخذَها وطنًا، ولا تُحدِّث نفسكَ بطولِ البقاءِ فيها ولا بالاعتناءِ بها، ولا تتعلقْ منها إلا بما يتعلقُ به الغريبُ في غير وطنهِ.
فكلُّ هذه الآياتِ والأحاديثِ تشيرُ إلى أهميةِ ذِكْرِ الموتِ ليعلمَ العبدُ حقارةَ الدنيا وهوانِها، وأنّهُ لا بدَّ له مِن فراقِها، وأنَّ عليهِ التزودُ للقاءِ الحكمِ العدلِ الذي يجازي كلَّ نفسٍ بما كسبتْ يداهَا.
عبادَ اللِه: ولقدْ كانَ ابنُ عمرَ -رضي اللهُ عنهما- يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصَّباحَ وإذا أصبحتَ فلا تنتظرُ المساءَ، وخذْ من صحتّكَ لمرضِك ومنْ حياتِكَ لموْتِك"، وقال الحسنُ البصريُّ -رحمهُ اللهُ-: "مَا ألزَمَ عبدٌ قلبَه ذِكْرَ الموتِ إلا صغُرَتْ الدنيا عندَه، وهانَ عليهِ جميعُ مَن فِيها".
وكانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يجمعُ كلّ ليلةٍ الفقهاءَ فيتذاكرونَ الموتَ والقيامةَ والآخرةَ، ثُمَّ يبكونَ حتَّى كأن بين أيديهم جِنَازَةً.
قال الدّقاق -رحمهُ اللهُ-: "منْ أكثرَ ذِكْرَ الموتِ أُكْرِمَ بثلاثةِ أشياء: تعجيلِ التّوبة، وقناعةِ القلب، ونشاطِ العبادة، ومن نَسِيَ الموتَ عُوقِبَ بثلاثةِ أشياء: تسويفِ التوبة، وتركِ الرضا بالكفافِ، والتّكاسلِ في العبادة".
عباد الله: روى البخاريُّ في صحيحهِ أن عائشةَ -رضي اللّه عنها- قالت: "كانَ بين يدَيْ رسولِ اللّه -صلى الله عليه وسلم- عُلبة فيها ماء، فجعلَ يُدخل يديه في الماءِ فيمسحُ بهما وجههُ ويقول: لا إله إلا اللّه إن للموتِ لسكراتٍ، ثم نصبَ يَديه فجعلَ يقولُ إلى الرفيقِ الأعلى حتى قُبِضَ".
وروى البخاريُّ أيضًا عنها -رضي الله عنها- قالتْ: "لما ثَقُلَ -صلى الله عليه وسلم- جعل يتغشاهُ الكربُ"، فجعلتْ فاطمةَ -رضي اللّه عنها- تقولُ: واكربَ أبتاهُ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا كربَ على أبيكِ بعدَ اليومِ". لا إله إلا الله، هذا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- يُعانِي من الموتِ وسكراتِهِ، يقولُ هذا وقد غفر له ما تقدّمَ من ذنبهِ وما تأخّر؛ فما بالُنَا نحنُ وقد كثرتْ ذنوبُنا، وضعفتْ هِمَمُنَا، وتعلّقتْ قلوبُنا بحبِّ الدُّنْيا.
وعن عمرَ بنِ الخطّابِ -رضي اللّه عنهُ- قالَ: "يَا كعبُ حدِّثْنَا عن الموتِ؟ فقالَ نعمْ يا أميرَ المؤمنينَ: هو كَغُصْنٍ كثيرِ الشّوْكِ أُدْخِلَ في جوفِ رجلٍـ فأَخَذَتْ كلُّ شوكةٍ بعرقٍ، ثم جذبَهُ رجلٌ شديدُ الجذْبِ، فأخذَ ما أَخَذَ، وأبْقَى مَا أَبْقَى".
وقالَ شدّادُ بن أوس: "الموتُ أفظعُ هَوْلاً في الدّنُيَا والآخرةُ على المؤمنِ، وهُوَ أشدُّ من نشرٍ بالمناشيرِ، وقرضٍ بالمقاريض، وغليٍ في القدورِ، ولو أنّ الميّتَ نُشِرَ فأَخْبِرَ أهلَ الدنيا بألمِ الموتِ ما انتفعوا بعيشٍ ولا التذّوا بنومٍ".
وصدقَ الحسنُ البصريُّ حيثُ يقولُ: "فضحَ الموتُ الدّنيا فلمْ يُبْقِ لِذِي لُبٍّ فَرَحًا".
ألاَ فاعلموا -يا عبادَ اللهِ- أَنّنَا عنْ قليلٍ محمولونَ، وأنّنا بالأعمالِ مرتهنون؛ فعندئذٍ تظهرُ تفاهةَ الدّنيَا وحقارتِهَا، ويتمنَّى كلٌّ منّا العودةَ إلى دارِ الدّنيا ليستزيدَ منها ولو بحسنةٍ واحدةٍ، أو بتوبةٍ صادقةٍ، أو بدمعةٍ حارقةٍ تُذهبُ ذنوبَه المهلكةِ، ولكن هيهاتَ لنا مِن ذلك (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف:34].
عبادَ اللهِ: إنّ الناسَ عند نزولِ الموتِ على ثلاثةِ أحوالٍ:
فأوّلُهم المنهمكُ في دنياهُ، المنكبُّ على شهواتِهِ وملذّاتِهِ؛ فهذا إذا ذَكَرَ الموتَ ذكرهُ للتأسُّفِ على دنياه، والانشغالِ بمذمتهِ، وهذا يزيدُهُ ذكرُهُ للموتِ مِنَ اللهِ بُعْدًا.
وأما الصّنفُ الثّاني: فهو التّائبُ الذي يُكثرُ من ذِكْرِ الموتِ لينبعثَ من قلبهِ الخوفُ والخشيةُ، فيفي بتمامِ التوبةِ، وربَّما كَرِهَ الموتَ خِيفة من أن يختطفُه قبل تمام التوبة، وقبل إصلاح الزّاد، وهذا الصنفُ معذورٌ في كراهةِ الموتِ، ولا يدخلُ تحت قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"(متفق عليه).
وأما الصنفُ الثالثُ: فهو العارفُ باللهِ الذي يذكرُ الموتَ دائمًا؛ لأنّه موعدُ لقائهِ بحبيبهِ، والمحبُّ لا ينسى قطُّ موعدَ لقاءِ الحبيبِ.
عن أنسٍ -رضي الله عنهُ- قال: "خطّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خطوطًا، فقال: هذا الأملُ، وهذا أجلُهُ، فبينما هو كذلكَ إذ جاءهُ الخطُّ الأقربُ"(رواه البخاري).
وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهمَا- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لرجلٍ وهو يعظُهُ: "اغتنمْ خمسًا قبل خمس؛ شبابَكَ قبل هرمِك، وصحتَك قبل سقمِك، وغناكَ قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغلِك، وحياتَك قبل موتِك"(رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق:19-21].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيم ونفعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكمْ إنّهُ هُو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلوكمْ أيّكُمْ أحسنُ عملاً، والصلاةُ والسّلامُ على عبدهِ المجتبى ورسولِه المصطفى محمدٍ وآلهِ وصحبِهِ ومنْ سارَ على نهجِهِ واستنَّ بسنتِهِ إلى يومِ الدّينِ.
أمّا بعدُ: فاتقوا اللهَ أيُّهَا المؤمنونَ.
لقدْ ودّعْنَا بالأمسِ سبعةً واريناهمْ تحتَ الثّرَى؛ منهمْ ثلاثةُ رجالٍ وأربعُ نساءٍ، جاءهمْ أجلُهُمْ المحدّد؛ منهم التّقيُّ العابِدُ والشّابُّ البارُّ وسليم الصدرِ والمرْأةُ الصّالِحةُ؛ فأسألُ اللهَ أن يغفرَ لهُم، وأن يُعلي درجَتهم في الجنّةِ، وأن يُخلِف على ذويهم خيْرًا.
فعلينا -أيُّها المؤمنونَ- أن نُكْثِرَ من ذِكْرِ الموتِ كما أوصَى بذلكَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن نستعدَّ لهُ بالتوبةِ إلى اللهِ -تعالى-، وردّ المظالمِ إلى أهلِها، والتوبةُ ليستْ خاصّةً بالمريضِ بلْ تشملُ الصحيحَ والمريضَ، ولا شكَّ أنّهُ آكدُ لأنّه يرِقُّ بها قلبهُ ويخافُ فيرجعُ عن المظالِمِ ويُقْبِلُ على الطّاعَاتِ.
قال الغزاليُّ -رحمهُ اللّهُ-: "عليكَ أنْ تجتنبَ طولَ أملِكَ؛ فإنّهُ إذَا طَالَ هَاجَ أربعةُ أشياء: الأول: تركُ الطّاعةِ والكسلُ فيها، يقولُ سوفَ أفعلُ والأيامُ بين يدي.
والثاني: تركُ التّوْبَةِ وتسويفُها، يقولُ: سوفَ أتوبُ، وفي الأيامِ سعةٌ، وأنا شابٌ وسنّي قليل والتوبةُ بين يدي.
والثالث: الحرصُ على جمعِ الأموالِ، والاشتغالُ بالدنيا عن الآخرةِ؛ يقولُ: أخافُ الفقرَ في الكبرِ وربَّمَا أضعفُ عن الاكتسابِ ولا بدّ لي من شيءٍ فاضلٍ أدّخِرُهُ لمرضٍ أو هرمٍ أو فقرٍ.
والرابع: القسوةُ في القلبِ والنسيانُ للآخرةِ؛ لأنك إذا أمَّلتَ العيشَ الطويلَ لا تذكرُ الموتَ والقبرَ".
عباد الله: اعلموا أنّ مما يعينُنا على ذكرِ الموتِ أن نذكرَ من مضى منْ أقاربِنا وإخوانِنا وأخواتِنا، وأصحابِنا وأترابِنا الذين مضَوا قبلَنا، وكانوا يحرصونَ حرْصَنا، ويسعونَ سعينا، ويعملونَ في الدُّنيا كعملِنا؛ فقصفتْ المنونُ أعناقهم، وقلعتْ أعراقَهُمْ، وقصمتْ أصلابَهم، وفجعتْ فيهم أحبابَهم، فأُفردوا في قبورٍ موحشةٍ، وصاروا جيفًا مدهشةً، والأحداقُ سالت والألوانُ حالت، والفصاحةُ زالت، والرؤوسُ تغيرت ومالتْ، مع فتّانٍ يُقعدهم ويَسألهم عما كانوا يَعتقدونَ، ثم يُكشف لهم من الجنة والنار مقعدهُم إلى يوم يبعثونَ، فيرونَ أرضًا مبدّلةً، وسماءً مشققةً، وشمسًا مكورةً، ونجومًا منكدرةً، وملائكةً منزلةً، وأهوالاً مذعرةً، وصحفًا منتشرةً، ونارًا زافرةً، وجنةً مزخرفةً؛ فعدّوا أنفسكم منهم، ولا تغفلوا عن زادِ معادِكم، ولا تُهملوا أنفسكم سدى.
عبادَ الله: طُوبى لمن بادرَ عُمره القصير، فعمَّر به دارَ المصير، وتهيأَ لحسابِ الناقدِ البصيرِ قبل فواتِ القدرةِ وإعراضِ النصير، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلّا فقرًا مُنسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو موتًا مجهزًا، أو هرمًا مُفندًا، أو الدجال، فشر غائب يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر"(رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وضعفه الألباني في رياض الصالحين، رقم583).
أسألُ اللهَ -تعالى- بمنّه وكرمه وعظيم فضله أن يغفر لنا التقصير، وأن يحسن لنا الختام، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، والحمد لله الذي بفضله تتم الصالحاتُ.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليمًا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:٥٦].