الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
واللَّغوُ: كلُّ كلامٍ باطلٍ لا فائِدةَ فيه، وما أكثرَ اللَّغو في حديثِ الناس! خُصُوصًا وقد سهَّلَت وسائلُ التواصُل والإعلام الحديثةُ الحديثَ بلا قيُود. فكثُرَ اللَّغو، وسهُلَ نشرُه واشتِهارُه، مما يجعلُ الآثامَ المحصُورةَ منشُورةَ، والخطايا التي كانت تحُدُّها جُدرانُ المجالِس، أصبَحَ سقفُها الفضاءُ بكل أبعَادِه، مما يُضاعِفُ الإثمَ، ويُعظِمُ الوِزرَ. وقد جاء تعظيمُ إثمِ الكذِبِ الذي يشتهِرُ في الناسِ وتغليظُه، خِلافَ الكذِبِ الذي لم يشتهِر.
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد: فوصيَّةُ الله تعالى للأولين والآخرين تقوَاه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
أعجَزُ الناسِ مَن أتبعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانِي، وأكيَسُهم مَن دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت.
واعلموا أنَّما هذه الحياةُ الدنيا متاعٌ، وأن الآخرةَ هي دارُ القرار، (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر: 40].
أيها المسلمون: بين الأعمال وأجزِيتها رِباطٌ وَثيقٌ؛ فمُستقبلُ الخير نَضِير ولو كان حاضِرُه مُعنِتًا، ومُستقبلُ الشرِّ سيءٌ وإن كان حاضِرُه خادِعًا. والناسُ عادةً معنِيُّون بيومِهم الحاضِر، ومُستغرِقُون فيه، وذلك حِجابٌ عن الحقِّ، وأُحبُولةٌ يقَعُ فيها الغافِلُون.
وفي كِتابِ الله تعالى سُورةٌ تُسمَّى "سورة الفلاح"، وهي في المصاحِف سُورة المُؤمنون، تُعلِّقُ الأبصارَ بالآخرة، وتُطمئنُ المُؤمنين إلى مُستقبلهم الطيِّب، أما الكافِرُون فالوَيل لهم.
بدأَها الله بذِكر الفلاح، وختَمَها بذِكر الفلاح. بدأَها الله بذِكر فلاحِ المُؤمنين فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 1]، وختَمَها الله بنفي الفلاح عن الكافِرِين فقال: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون: 117]، وما بين مُفتَتَحها والخِتام ذكَرَ الله صِفات المُفلِحين، وقصصَ الأنبياء مع أقوامِهم؛ فمَن آمنَ فقد أفلحَ ونجَا.
وذكر الله في تضاعِيفِ السورة مِن أسبابِ الفلاح، وفي آخرها خاتمةَ المُفلِحين والمُكذِّبين، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 101- 103].
أيها المُسلمون: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1- 11].
ذكرَ الله مِن صِفات المُفلِحِين: أداء الصلاة والزكاة، وهما القرينتَان في دينِ الله، قال الله - عزَّ وجل -: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5].
وفي الحديث: "بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن مُحمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاة ..".
كما ذكرَ الله مِن صِفاتِ المُفلِحِين: حِفظَ اللسان وحِفظَ الفَرْج، وهما القَرِينان.
روَى البخاريُّ عن سهلِ بن سعدٍ -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن يضمَن لِي ما بين لَحيَيْه وما بين رِجلَيْه أضمَن له الجنة".
واللَّغوُ: كلُّ كلامٍ باطلٍ لا فائِدةَ فيه، وما أكثرَ اللَّغو في حديثِ الناس! خُصُوصًا وقد سهَّلَت وسائلُ التواصُل والإعلام الحديثةُ الحديثَ بلا قيُود. فكثُرَ اللَّغو، وسهُلَ نشرُه واشتِهارُه، مما يجعلُ الآثامَ المحصُورةَ منشُورةَ، والخطايا التي كانت تحُدُّها جُدرانُ المجالِس، أصبَحَ سقفُها الفضاءُ بكل أبعَادِه، مما يُضاعِفُ الإثمَ، ويُعظِمُ الوِزرَ.
وقد جاء تعظيمُ إثمِ الكذِبِ الذي يشتهِرُ في الناسِ وتغليظُه، خِلافَ الكذِبِ الذي لم يشتهِر.
وفي الحديث الذي رواه البخاري، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رأَى رجُلًا يُشرشَرُ شِدْقُه، فأُخبِرَ أنه الكذَّابُ يكذِبُ الكِذبَة تُحمَلُ عنه حتى تبلُغ الآفاق.
فمَن أعرضَ عن اللَّغو في الدنيا كان مِن ورثَةِ الفِردوس الذين مِن جُملة نعيمِهم الذي أخبَرَ الله عنه في كِتابه: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا) [مريم: 62]، (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) [الغاشية: 11].
كما ذكرَ الله مِن صِفاتِ المُفلِحِين: حِفظَ الأمانة، ورِعايةَ العهُود والعقُود، فليسُوا كالمُنافِقين الذين إذا عاهَدَ أحدُهم غدَر، وإذا خاصَمَ فجَر، وإذا حدَّثَ كذَب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ.
وصِفاتُ المُفلِحين مزِيجٌ مِن العقائِد والأخلاق والعبادات والمُعاملات، وقد وُعِد المُتمسِّك بها بالفلاح: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10، 11].
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتُمُ اللهَ الجنةَ فاسأَلُوه الفِردوسَ؛ فإنه أعلَى الجنة، وأوسَطُ الجنة، ومِنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن" (رواه البخاري).
وفي وسَط السورة تكرارٌ لهذا المعنى وهذه الصِّفات في ثوابٍ آخر: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57- 61].
وظاهِرٌ أن الموصُوفين بما ذُكِر هم المذكُورُون في أول السورة، الموعُودُون بالفلاح وبالفِردوس هم فيها خالِدُون.
روَى الترمذيُّ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] أهُمُ الذين يشرَبُون الخمرَ ويسرِقُون؟ قال: "لا يا بنتَ الصدِّيق، ولكنَّهم الذين يصُومُون ويُصلُّون ويتصدَّقُون، وهم يخافُون ألا يُتقبَّل مِنهم، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]".
أيها المُسلمون: يذكُرُ الله تعالى أولًا في سُورة الفلاح "سورة المُؤمنون" قصةَ نُوحٍ وما كان مِن قومِه، ولم يذكُر قبلَه إلا قصةَ الخلق؛ وذلك أن الناسَ كانُوا قبلَ نُوحٍ على التوحيدِ والفلاحِ، وأولُ شِركٍ وقعَ في الأرضِ شِركُ قومِ نُوحٍ - عليه السلام -.
روَى ابنُ جريرٍ وغيرُه عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: "كان بين آدم ونُوحٍ -عليهما السلام- عشرةُ قُرون كلُّهم على شريعةٍ مِن الحقِّ".
وإنما قصَّ الله خبَرَ نُوحٍ وقومِه ذِكرَى لمَن بعدَهم، كما قال تعالى في خِتام القصة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) [المؤمنون: 30].
قال الإمامُ مالكٌ - رحمه الله -: "السنةُ سفينةُ نُوحٍ؛ مَن ركِبَها نجَا، ومَن تخلَّفَ عنها غرِق".
عباد الله: وتمضِي السورةُ فتذكُرُ بعد قصة نُوحٍ قصةَ قومٍ آخرين، لم يُسمِّهم الله تعالى، فاختلَفَ المُفسِّرُون: هل هم عادٌ قومُ هُود، أو ثمُودٌ قومُ صالِح؟ قال تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [المؤمنون: 31، 32].
والظاهِرُ أن الله لم يُسمِّهم؛ لأن العِبرةَ حاصِلةٌ بدُون ذلك، ولأن القصدَ ذِكرُ عاقِبة المُفلِحِين المُصدِّقِين، وعِقابِ المُكذِّبين؛ (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 39- 44].
أهلَكَ الله الأُممَ المُكذِّبة، فكانُوا أثَرًا بعد عين، وحديثًا يتناقَلُه السُّمَّار، (فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ).
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) [المؤمنون: 45]، فبعد نُزول التوراة لم يُهلِكِ الله أمَّةً مِن الأُمم بعذابِ الاستِئصال أو بالهلاكِ العام، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى) [القصص: 43].
ولهذا لم يزَل في الأرضِ أمَّةٌ مِن بنِي إسرائيل باقِية، وآتَى الله مُوسَى مِن الآياتِ ما بقِيَ خبَرُه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون: 49، 50].
اللهم اجعَلنا مِن عبادِك المُفلِحِين، ومِن أوليائِك الصالِحين الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هم يحزَنُون.
بارَك الله لنا في القرآن العظيم، وهدانا صِراطَه المُستقيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أيها المُسلمون: وفي ثنايَا سُورة المُؤمنون أسبابُ الفلاح لائِحة، ونفَحَات المولَى الكريم غادِيةٌ رائِحة.
فمِن أسبابِ الفلاحِ في هذه السورة: أكلُ الحلال، (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51].
عن أبي هُريرة -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس! إن الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، وإن اللهَ أمَرَ المُؤمنين بما أمَرَ به المُرسَلِين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]"، ثم ذكرَ الرجُلَ "يُطِيلُ السَّفرَ، أشعَثَ أغبَر، يمُدُّ يدَيه إلى السماء: يا ربِّ يا ربِّ! ومطعمَه حرام، ومشرَبُه حرام، وملبَسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!" (رواه مسلم).
ومِن أسبابِ الفلاح: تدبُّرُ القرآن الكريم، والإيمانُ به، والوقوفُ عند أوامِرِه ونواهِيه، (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 68].
فكِتابُ الله هو النورُ والهُدى والرحمة، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
ومِن أسبابِ الفلاح: معرِفةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، والإيمانُ به، والتمسُّكُ بهَديِه، والاعتِبارُ بما جرَى له مِن أحوالٍ، (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [المؤمنون: 69، 70].
وهذان الأمران هما الأصلَان اللذان لا عُدُولَ عنهما، ولا فلاحَ ولا هُدًى إلا بهما، والعِصمةُ والنجاةُ في التمسُّك بهما، يجمَعُهما قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكِمُ وصحَّحه -: "إني قد ترَكتُ فيكُم شيئَين لن تضِلُّوا بعدَهما: كِتابَ الله وسُنَّتي".
وفي "صحيح مُسلم" مِن حديث جابِرٍ -رضي الله عنه- في حجَّة الوداع: "وقد ترَكتُ فيكُم ما لن تضِلُّوا بعدَه إن اعتَصمتُم به: كِتابَ الله".
ومِن أسبابِ الفلاح في سُورة الفلاح: الدُّعاء، (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [المؤمنون: 109].
دُعاءٌ بقلبٍ خاشِعٍ، ولِسانٍ ضارِعٍ، وطَرفٍ دامِعٍ أن يسلُكَ الله بك طريقَ المُفلِحين، وأن يُثبِّتَك على الإسلام حتى تلقَاه.
قال حُذيفةُ -رضي الله عنه-: "ليأتِيَنَّ على الناسِ زمانٌ لا ينجُو فِيه إلا مَن دعَا كدُعاءِ الغرِيقِ" (رواه ابنُ أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ).
وكان مِن دُعاءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا مُقلِّبَ القُلوبِ! ثبِّت قَلبِي على دينِك".
وتزدادُ الحاجةُ لذلك في أوقاتِ الفتَن، واضطِرابِ الأحوال.
ومِن أسبابِ الفلاح في سُورة المُؤمنون: الصبرُ، (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون: 111].
وما نالَ أحدٌ خيرًا في الدنيا والآخرة بعد فضلِ الله تعالى ورحمتِه إلا بالصبرِ، وبالصبرِ واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين.
وفي أمثالِهم: "مَن صبَرَ ظفَرَ".
ومما يُعينُ على الصبرِ: تصوُّرُ العاقِبة، واليقينُ أن الصبرَ عن معاصِي الله أيسَرُ مِن الصبرِ على عذابِ الله، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود: 115]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
اللهم ارزُقنا تدبُّرَ كِتابِك، وحُسن فهمِ كلامِك، والعملَ بأمرِك، والتوفيقَ لما يُرضِيك.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على مَن أرسلَه الله رحمةً للعالمين، وهَديًا للناسِ أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابَتِه الغُرِّ الميامين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكِتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعِبادَك المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصِيَتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهَى عن المُنكَر يا رب العالمين.
اللهم مَن أرادَ الإسلامَ والمُسلمين ودِينَهم ودِيارَهم بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعَل دائِرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهِدين في سبيلِك في فلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجِدَ الأقصَى مِن ظُلم الظالمِين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم إنا نسألُك باسمِك الأعظَم أن تلطُفَ بإخوانِنا المُسلمين في كل مكان، اللهم كُن لهم في فلسطين، وسُوريا، والعِراق، واليمَن، وفي بُورما، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم الطُف بهم، وارفَع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفرَج، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمَعهم على الهُدَى، واكفِهم شِرارَهم.
اللهم عليك بالطُّغاةَ الظالمين ومَن عاونَهم، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحقِّ.
اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفَين لما تُحبُّ وترضَى، وخُذ به للبِرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائِبَه وأعوانَهم لِما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم احفَظ وسدِّد جُنودَنا المُرابِطين على ثُغورنا وحُدودِنا، والمُجاهِدين لحِفظِ أمنِ بلادِنا وأهلِنا ودٍيارِنا المُقدَّسة، اللهم كُن لهم مُعينًا ونصيرًا وحافِظًا.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيمِ شرعِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِقِ الليل والنهار.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.