الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إذا كان المسلم ينهى عن تزييف الحقائق ، وتغيير المسميات الشرعية ، والتلاعب بأحكام الدين ؛ لتخدم الأفكار الوضعية الهدامة ، وتوافق القلوب المفتونة ، وتساير الواقع الضاغط على الإسلام وأهله ؛ فهو كذلك منهي عن توظيف النصوص الشرعية توظيفا خاطئا يخدم الغلو في الدين ، ويُقْدِم على تكفير المسلمين بلا دليل ، بل بمجرد الهوى والشبهة ، وربما الانتصار للنفس.
الحمد لله ؛ أنزل الكتاب ، هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان ، نحمده على عظيم نعمه ، ونشكره على جزيل عطائه ، وواسع مغفرته ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ أحصى كل شيء عددا ، وأحاط بكل شيء علما وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق؛ رحمة للعالمين ، وحجة على الخلق أجمعين ، لا خير إلا دل الأمة عليه ، ولا شر إلا حذرها منه ؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه ؛ واعلموا أنكم إليه راجعون ، وعلى أعمالكم محاسبون (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]
أيها الناس: ختم الله تعالى النبوات بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وأكمل الدين بوفاته ، فما فارق صلى الله عليه وسلم أمته إلا وقد كمل الدين ، وتمت النعمة ، واستقرت الشريعة التي يجب أن يحكم بها الناس إلى آخر الزمان (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) [المائدة: من الآية3] هو دين الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده ، وما سواه من الأديان المصنوعة والمحرفة فهي الباطل والضلال الذي كشفه القرآن ، وحذر منه ، وأبدى فيه وأعاد ، ولا يكون العبد مسلما إلا بالإيمان بهذه الحقيقة ، والتسليم بها ، والانقياد لها ، والعمل بالآثار الناتجة عنها.
ومن شك في هذه الحقيقة ، أو تردد في قبولها ، أو ظن أنها محتملة ، أو قال : لا أعلم ؛ فليس من الإسلام في شيء ؛ إذ لازم ذلك أنه يشك في الإسلام ، ويكذب بالقرآن ، ولم يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) [محمد:3] ولما كان دين الإسلام هو الحق الذي لا مرية فيه ، كان أعداؤه هم أهل الباطل ولا شك ، وكان على أهل كل الملل والنحل والأفكار من سائر الديانات والمذاهب والأجناس أن يحاربوه ؛ لأنهم حملة الباطل وحماته ، وهذا الحق المتمثل في دين الإسلام يكشف باطلهم للناس ، ولا بد من صرف الناس عنه ؛ لأنه الحق الذي يجذب الناس إليه بمجرد عرضه عليهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26]
وهكذا كان حال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب مع الإسلام والمسلمين منذ أن جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى يومنا هذا ، وستظل الحرب قائمة إلى آخر الزمان ؛ لأن ذلك سنة كونية من سنن الله تعالى في عباده (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: من الآية251] (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) [الفرقان: من الآية20] (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [محمد: من الآية4]
وفي زماننا هذا ومع اشتداد الحملة على الإسلام وشريعته ، والطعن في رموزه وشعائره ؛ أحدث المبتدعون مصطلحات وضعية لتحل محل المسميات الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة ، القصد منها تمييع أحكام الإسلام ، والقضاء على عقيدة الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين ، وإحلال ولاءات وبراءات أخرى مكانها ، تبنى على عالم الدنيا المشاهد ، مع إلغاء العالم الأخروي الغيببي في بناء تلك العلاقات مع الآخرين ، وقصر عالم الغيب على التعبدات المحضة التي لا شأن لها بواقع الناس ومعاشهم ومعاملاتهم وأخلاقهم.
ومن هنا ظهرت مصطلحات كثيرة منها : التعايش السلمي ، والسلام العالمي ، والأخوة الإنسانية ، وزمالة الأديان وتقاربها ووحدتها ، وإلغاء الإيدلوجيات ، ومحاربة التفرقة العنصرية على أساس ديني ، ومنع التمييز بين المرأة والرجل ، وتحديد العلاقة مع الآخر على أسس دنيوية لا دينية ، والضغط بهذه المصطلحات الطاغوتية على الدول الإسلامية ؛ لتمكين الأقليات الطائفية والكفرية ، من نصرانية وباطنية وإلحادية في بلاد المسلمين كمرحلة أولى ، ثم تسليمها في نهاية المطاف - لو نجحوا - زمام الأمور لتحكم جمهور المسلمين بالحديد والنار ، كما مكنوا لبعض الطوائف المنحرفة عن الإسلام في بعض البلدان.
ومن أشهر المصطلحات التي عقدت لها عشرات المحاضرات الندوات ، ودبجت فيها مئات الكتب المقالات ، وامتلأت ببحثها الصحف والمجلات ، وتناولتها بالجدال والمناقشة الفضائيات والإذاعات: مصطلح العلاقة مع الآخر ، وهو مصطلح طار في الآفاق ، وانتشر بين الناس حتى إنه ليجري على ألسن العوام ، وكثير منهم لا يدري من هو هذا الآخر؟وماذا يراد من المسلم تجاهه؟ ولماذا ظهر هذا المصطلح في هذا الوقت ؟ وما هو البيان الشرعي فيه ؟
إن العقبة الكأداء أمام الكفار والمنافقين لتغيير عقلية المسلم ، ونقله من الإسلام إلى الإلحاد ، تتمثل في هذا القرآن العظيم ، الذي يوقن المسلم أنه من عند الله تعالى ، ولا يتطرق الشك إليه بحال من الأحوال ، وكل أخباره أخبار صدق وحق ، وإذا وصف القرآن أقواما بوصف أيقن المؤمن أن ذلك الوصف فيهم لا محالة ؛ لثقته بالقرآن الكريم ، ويقينه بعلم الله تعالى الذي وسع كل شيء ، وقد حوت آيات هذا القرآن العظيم تفصيل العلاقة مع الآخرين من يهود ونصارى وملاحدة ومشركين ومنافقين ، وكشفت حقائقهم ، وعرضت لتاريخهم ، وبينت مواقفهم من الرسل وأتباع الرسل عليهم السلام.
والمسلم يتعبد إلى الله تعالى بقراءة تلك التفاصيل في الكتاب العزيز ، ويستغرق جزءا كثيرا من يومه وليلته يستمع إليها من إذاعته وآلة تسجيله وإمام مسجده,وهي ترسخ هذه الحقائق في عقله عن ممارسات وأخلاقيات هؤلاء الكفار والمنافقين ، وتصرفاتهم المشينة مع المؤمنين ، ومعاداتهم الصريحة لهم ، وتحذرهم من اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين, ولاحيلة للأعداء إلا بصرف الناس عنه ، ولم ينصرفوا عنه كلية رغم تكثيف وسائل الشهوات وبث الشبهات فيهم ، فعمدوا قبل عام إلى فرقانهم المصنوع من التوراة والإنجيل وبعض آيات القرآن بعد تحريفها ، مع حذف كل الآيات الفاضحة للكفار والمنافقين ، ونشروه في أوساط المسلمين ليكون بديلا عن القرآن ، فما حفل المسلمون بقرآنهم ، ولا التفتوا إليه ، فجاءت هذه المحاولة ضمن محاولات كثيرة لقطع الصلة بين المسلم وبين كلام الله تعالى ؛ وذلك بتغيير المسميات التي جاءت في القرآن والسنة أعلاما وأوصافا على المخالفين ، وكيفية التعامل مع الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين ،والبدعة والمبتدعين ؛ ليحل محلها: الموقف من الآخر ، والحوار مع الآخر ، والتعايش مع الآخر ، وفهم الآخر ، ونحو ذلك ، مع إبراز نصوص التسامح والعفو والمحاورة معه ، وإلغاء نصوص مقارعته وجهاده وفضحه والإغلاظ عليه ، وحجة من يدعو إلى هذا المذهب الجديد: وجود المشتركات الإنسانية ، والتركيز عليها ، مع تهوينهم من شأن المفارقات الدينية بيننا وبين الآخرين ، والنتيجة النهائية لهذا الإثم المبين : إخضاع شريعة الإسلام لحكم الطاغوت المتسلط على المسلمين وعلى دينهم وأخلاقهم وبلدانهم.
إن هذا الآخر الذي أريد له أن يكون أخا للمسلم في الإنسانية قد وصف في القرآن بأنه عدو مبين للمسلمين (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) [النساء: من الآية101] وفي المنافقين (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون: من الآية4] فإن كان المقصود اشتراكه مع المسلم في العيش على الأرض فكذلك الحيوان يعيش مع الإنسان على الأرض فهل هو أخوه ؟ وإن كان المشتَرَك بين الإنسان والإنسان تكريمه بالعقل ، فغير المؤمن قد عطل عقله وألغاه ، وقد وصف الله تعالى من استنكف عن عبادته ، ولم يخضع لشريعته بأنهم قوم لا يعلمون ، ولا يعقلون ، ولا يفقهون ، فقال عن الكفار في سورة البقرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة: من الآية171] وفي الأنفال (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الأنفال: من الآية65] وقال عنهم وعن أهل الكتاب في المائدة: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [الحشر: من الآية14] وقال تعالى عن اليهود في الحشر: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الحشر: من الآية13] وفي الآية الأخرى (لا يَعْقِلُونَ) ورمى عز وجل المنافقين بالفساد والسفه فقال في سورة البقرة: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة: من الآية12] وفي الآية الأخرى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة: من الآية13] وفي براءة (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة: من الآية127] وفي أخرى (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [التوبة: من الآية93] وفي سورتهم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون:3] وفي الآية الأخرى (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: من الآية8].
بل جاء في القرآن ما هو أعظم من ذلك وأبلغ في شأن من استكبر عن دين الإسلام ؛ إذ قرنوا بالحيوان ثم فضل القرآن العجماوات من الحيوان عليهم فقال الله سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179] وفي الفرقان: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان:44] وأخبر سبحانه أنهم شر خلقه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة:6] والبرية كل ما خلق الله تعالى ، فهم شر الخليقة على الإطلاق ، ولذلك قال سبحانه عنهم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22 ] ثم بين من هم في الآية الأخرى فقال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال:55] ووصفهم سبحانه بالنجاسة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: من الآية28] فهل سيرضى الآخر كافرا كان أم منافقا أم مرتدا بتلك الأوصاف فيه التي تكررت في كلام الله تعالى كثيرا ، أم سيُكَذِّب المسلمون كلام الله تعالى ، ويطرحونه وراءهم ظهريا لإرضاء هذا الآخر ؟!
إن اختراع مسميات أخرى للكافر والمنافق والمرتد لن يغني من الحق شيئا ، ولن يزيل حسدهم للمؤمنين ، ولن يدرأ عداوتهم عنهم ، بل سيزيدهم تسلطا إلى تسلطهم ، واستكبارا إلى استكبارهم ، وطمعا إلى طمعهم في تغيير الإسلام كله ، وإخراج المسلمين منه ، إذا ما رأوا فئاما من المسلمين يغيرون كلام الله تعالى وأحكامه لأجلهم.
والله تعالى هو الحكم العدل الذي أعطى كل ذي حق حقه ، فحفظ للكفار والمنافقين حقوقهم في الدنيا في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فأهل العقود توفى لهم عقودهم ، وأهل الذمة والأمان يعطون حقوقهم ، بل حتى في حال الحرب معهم يحسن إلى أسيرهم ، ويداوى جريحهم ، حتى يحكم فيهم إمام المسلمين ، فإن حكم بقتلهم فلا يعذبون ولا يمثل بهم ، بل تحسن قتلتهم ؛ لأن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء إلا ما كان من تعد منهم فيفعل بهم مثل الذي فعلوه بالمسلمين ولا يزاد على ذلك من باب العقوبة بالمثل ، ويدعون إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادلون بالتي هي أحسن ؛ لعلهم من كفرهم يتوبون ، وإلى ربهم يرجعون , وأما المنافق فيعامل معاملة المسلم أخذا بظاهر حاله ، وسريرته إلى الله تعالى ، مالم يظهر منه ما يدل على كفره من قول أو فعل فيؤخذ به على حسبه.
والصراع بين الإيمان والكفر سيظل قائما إلى آخر الزمان ، ولن يوقفه تغيير المسميات الشرعية ، واستبدالها بمصطلحات وضعية ؛ لأن هذا الصراع سنة كونية أرادها الله تعالى ، والقوي في هذا الصراع سيُقْصِي الضعيف ، ويتسلط عليه ؛ كما تكرر ذلك في التاريخ ، ودل عليه الواقع ، ولكن الله تعالى أمر المسلمين في حال القوة بالعدل حتى مع أعدائهم ، فأولى للمسلمين التمسك بدينهم من إرضاء أعدائهم.
والذين يظنون أنهم يستطيعون إلغاء هذا الصراع الأبدي بين الحق والباطل ، والتقريب بين الشريعة الربانية ، والأحكام الوضعية ، بتغيير دين الله تعالى ، واستبدال المسميات الشرعية بأخرى ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، ما هم إلا من أجهل الناس بطبيعة الصراع بين الحق والباطل ، ولا يعرفون سنن الله تعالى في عباده ، ولو وصفوا أنفسهم بالمفكرين والمثقفين ، ولو وطئ الناس أعقابهم ، ولمعهم مريدوهم في إعلامهم.
ولا يلزم من تقرير ذلك ، والإخبار به أن المسلم يتمنى إشعال الصراع الحضاري - وإن كان في واقع الحال مشتعلا ، ويزداد اضطراما يوما بعد يوم - لأن المسلم ينطلق في ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قام في الناس خطيبا فقال: "أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" رواه الشيخان .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين ، وأن يثبتنا على الحق المبين ، آمين آمين ..
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28]
أيها الناس : إذا كان المسلم ينهى عن تزييف الحقائق ، وتغيير المسميات الشرعية ، والتلاعب بأحكام الدين ؛ لتخدم الأفكار الوضعية الهدامة ، وتوافق القلوب المفتونة ، وتساير الواقع الضاغط على الإسلام وأهله ؛ فهو كذلك منهي عن توظيف النصوص الشرعية توظيفا خاطئا يخدم الغلو في الدين ، ويُقْدِم على تكفير المسلمين بلا دليل ، بل بمجرد الهوى والشبهة ، وربما الانتصار للنفس نسأل الله تعالى السلامة.
وينتج عن ذلك : نكث البيعة الشرعية ، ومنازعة السلطان في سلطانه ، والخروج المسلح عليه ، ومن ثمَّ استهداف أمن المسلمين واقتصادهم ، وقصد المعصومين بالقتل والترويع ، وكل هذا من الفساد العظيم ، الذي يفت في عضد المسلمين ، ويُمَكِّن للكافرين والمنافقين، ولا يُسَرُّ به إلا أعداء الملة والدين، وآثاره شنيعة مقيتة ، وعواقبه أليمة وخيمة ، وهو بابٌ من الفتنة عريض ، لا يلجه أحد ثم يسلم إلا أن يشاء الله تعالى ، والتاريخ مليء بالعبر في ذلك ، نسأل الله تعالى العصمة والعافية.
وإذا كان الله تعالى قد نهى عن عموم الإفساد ، فكيف بقصد التخريب في بلاد المسلمين فضلا عن أن يكون في مهبط الوحي ، ومنبع الرسالة ، ومهما سوغه المسوغون ، واستدل له المستدلون ، واعتذر له المعتذرون فهو فعل آثم ، وإفساد ظاهر ، لا يسع مسلما إلا أن يبرأ إلى الله تعالى من تسويغه ، فضلا عن الموافقة عليه والرضا به, ولأنْ يصبر المسلم على أذى الكفار والمنافقين ، وتنكيلهم بالمسلمين ، واحتلال بلدانهم ؛ خير من أن ينزع يدا من طاعة ، ويفارق الجماعة ، ثم يعيث فسادا وتخريبا في بلاد المسلمين ، كيف وعبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومه لائم" رواه الشيخان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" رواه الشيخان.
نسأل الله تعالى العافية والسلامة، كما نسأله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يكبت المفسدين، اللهم من أراد البلاد والعباد والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه ورد كيده إلى نحره.
وصلوا وسلموا على نبيكم ....