البحث

عبارات مقترحة:

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

القوي

كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...

من مفسدات القلوب: اليأس والقنوط

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أهمية التفاؤل في حياة الناس .
  2. من صور اليأْس والقنوط .
  3. اليأس وآثاره السيئة وأسبابه .
  4. ثمرات التفاؤل .
  5. إمام المتفائلين محمد صلى الله عليه وسلم .

اقتباس

اليأس والقنوط داء ابتلي به كثير من الناس لأسباب كثيرة، ودواعي عديدة؛ فمن الناس من أصيب باليأس والقنوط؛ نتيجة جهله بالله -تعالى-، وعدم معرفته بسَعَة رحمة الله وعظيم فضله وكرمه وإحسانه، ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط؛ بسبب غلوّه وإفراطِه في الخوف من..

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1] ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها المؤمنون: يحب الله -تعالى- التفاؤل ويحب من عباده أن يحيوا به؛ فمهما عظمت الخطوب وتفاقمت الكروب؛ إلا أن التفاؤل يجعل العبد في طمأنينة وسكينة وأمن في دينه ودنياه وآخرته.

إذا اشْتَمَلَتْ على اليأسِ القلوبُ

وضاقَ لما بهِ الصدرُ الرحيبُ

ولم تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهـَاً

ولا أغنـى بحيلتـِه الأريـبُ

أتاك على قُنُـوطٍ منك غَـوْثٌ

يَمُـنُّ به اللطيفُ المسـتجيبُ

وكل الحـادثاتِ وإنْ تَنَـاهَتْ

فموصـولٌ بها الفرجِ القريب

وتعالوا -أيها الكرام- إلى خليل الرحمن -عليه السلام- لما جاءته رسله الله بالبشرى؛ حيث قال لهم؛ كما قال ربنا في كتابه: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)[الحجر:54]، فكان جوابهم: (قالوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)[الحجر:55-56].

وهذا نبي الله يعقوب -عليه السلام- فقد ولديه وبصره أربعين عاماً، وما زال أمله بالله أن يردهما إليه وأن يجمعهما به، فكان يوصى أبناءه بما حكى الله عنه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:87].

عباد الله: اليأس والقنوط له صور متعددة: كاليأس من مغفرة الله وزوال الأزمات وانفراج الكربات، أو اليأس من بلوغ جاه أو الحصول على مال أو زوجة أو ذرية وغير ذلك، أو اليأس من نصر الله لأوليائه وكسر شوكة أعدائه.

إنه اليأس والقنوط له آثار سيئة على القلوب؛ فقد يقودها إلى الكفر والضلال قال الله -تعالى-: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ)[الحجر: 56]، وقال: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87].

قال السعدي: "يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأنَّ الله إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط"، وقال ابن عطية: "اليأْس من رحمة الله وتفريجه، من صفة الكافرين".

ومن هذه الآثار السيئة: أن فيه تكذيب القلب لله ولرسوله، وسوء أدب مع الله -سبحانه وتعالى-، قال القرطبي: اليأْس من رحمة الله فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول الله وقوله الحق: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156]، وهو يقول: لا يغفر له، فقد حجَّر واسعًا، هذا إذا كان معتقدًا لذلك، ولذلك قال الله -تعالى-: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87].

أيها المسلمون: لا شك أن اليأس؛ داء ابتلي به كثير من الناس، ويرجع ذلك إلى أسباب وعوامل أدت إلى حصوله؛ فمن ذلك:

الجهل بالله -تعالى- ونسيان سعة رحمته الله وعظيم كرمه وعطائه.

ومن الأسباب: الإفراط في الخوف من الله -تعالى- حتى غفل عن رحمة الله وجوده على عباده، وهذا لا شك أنه من سوء الأدب؛ فرحمة الله الواسعة سبقت غضبه -جل في عليائه-.

ومن الأسباب: مجالسة القانطين والمقنطين؛ فإن في ذلك مدعاة للاستسلام لتثبيطهم ودعاواهم.

كما أن من الأسباب: الركون إلى الدنيا، وصدق الله -تعالى- إذ يقول: (وَإذا أذقنَا النَّاسَ رَحْمَة فرحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ إذا هُمْ يَقنَطونَ)[الروم: 36]، ويقول سبحانه: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرّ فَيَئُوسٌ قنُوطٌ)، ويقول عز وجل: (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرّ كانَ يَؤُوسا)[الإسراء:83].

عباد الله: والمؤمن لا يقبل بداء اليأس والقنوط، بل يدافعه ويقتدي بأسوته محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله -تعالى-، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ, قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا, وَنَحْنُ فِي الْغَارِ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ, أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ؛ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"، وهكذا كان حبيبنا -صلوات ربي وسلامه عليه- يطرد اليأس والقنوط من قلوب أصحابه ويبث الأمل والتفاؤل بربه -سبحانه-.

فلا تيأسوا -عباد الله- ولا تجعلوا للقنوط مكانا بينكم تسعدوا، وتأسوا بنيكم -صلى الله عليه وسلم- تغنموا؛ فكم رأينا مريضا شفي وضالا هدي ومبتلى عوفي؛ فثقوا بالله واطمعوا في فضه.

اللهم اجعل قلوبنا معلقة بك، وأعنا على ذكرك وشكرك.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، أما بعد:

عبــاد الله: فإن العبد يكسب لنفسه بالتفاؤل الثمار الهانئة والبركات الباسقة؛ فبه ينعم العبد في الحياة، ويزيد عطاؤه وإنتاجه، ويتغلب على سائر العقبات والمعوقات، وهو طريق الإنابة إلى الله والرجوع إليه، قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53].

والتفاؤل يورث الطمأنينة والسكينة في قلب العبد؛ فلا يخشى على رزقه، ولا على مستقبله وأجله، قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابَاً مُؤَجَّلَاً)[آل عمران:145].

والتفاؤل دليل المؤمن إلى إحسان الظن بربه وخالقه، ويوجهه ليصنع من المحنة منحة، يقول -سبحانه-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

ولقد ابتليت الأمة بمصائب عظام وأحداث جسام؛ فدفع الله ذلك عنها وحرسها بفضله وحماها، وبعث فيها الحياة من جديد عندما عادت إليه وصدقت في حمل دينه واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فمهما خطط لحربها الأعداء ومكر بها الأقربون والبعداء؛ فإن الله -تعالى- يمكر بهم، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال:30].

والمتأمّل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك، يخاطب -صلى الله عليه وسلم- يوماً عدي بن حاتم يبشّره ويقول -كما روى ابن هشام في سيرته-: "لعلّك -يا عديّ- إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم (أي حاجة المسلمين وفقرهم)؛ فوالله! ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه! ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فوالله! ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف! ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله! ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم"، قال عديّ: فأسلمت.

ولما هاجر إمام الهدى -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة أرسلت في طلبه قريش وقد أعلنت الجائزة لمن يأتي برأسه حيا أو ميتا، ومضى إمام المتفائلين في طريقه؛ فإذا بسراقة بن مالك أحد فرسان قريش خلفه قد غاصت قدما فرسه في التراب، فينظر إليه رسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له بكل ثقة وتفاؤل: "يا سراقة، لم تصنع هذا؟"، قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: "أوليس لك بخير منها؟"، قَالَ: وما هما، قَالَ: "سواري كسرى" (رواه البخاري ومسلم).

فيا عبدالله: لا تقنط من رحمة الله وتفاءل بنصره وفرجه وعطاياه؛ فقد قال -سبحانه-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النمل: 62].

فاللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية.

هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].