الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
العفة خلق إيماني رفيع زينة للرجل المسلم والمرأة المسلمة، يحفظان به إيمانهما، ويضمنان به استقامتهما، ويستجلبان به رضى ربهما.. والعفّة برهان على صدق الإيمان، وطهارة النفس وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفها وكرامتها، بها تحصل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: لقد دعت الشريعة الإسلامية إلى الأخلاق التي تحافظ علي أبناء المجتمع وجعلت التحلي بها سياجا رئيسيا لحماية المجتمع من الرذائل والمشكلات والابتلاءات وكل ما يعكر صفو حياة الإنسان الذي جعله الله خليفه في هذا الكون؛ فقد حثت شريعة الإسلام على التمسك بالأخلاق الفاضلة؛ كما أنها حذرت من سلوك الأخلاق السيئة، ولا شك أن امتثال هذه الأوامر والنواهي ترقى بحياة المؤمن؛ فيعش حياة كريمة تحفه محبة الله ومحبة عباده.
ولا شك أن من أعظم الأخلاق التي حث الإسلام على التخلق بها؛ خلق العفة؛ فهو خلق رفيع المنزلة؛ كونه زينة الرجل والمرأة؛ فبه يحفظان الإيمان ويستجلبان رضا الرحمن، ومن يبذل وسعه في الابتعاد عما حرم الله تعالى عليه وحذره منه؛ فذلك هو العفيف الذي استوجبت له محبة الكريم اللطيف؛ فطوبى لمن حصّن نفسه وحفظ فرجه.
ومن يتأمل في آيات القرآن يجد أنها تناولت التوجيه للمؤمنين بالتخلق بخلق العفة، قال رب الأرض والسماوات: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)[النور:30-31].
وقد أمر الله بالعفة ووعد بالغنى لمن تمثلها، قال سبحانه: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 33]؛ "أي: ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: يوسع عليهم من رزقه".
وقال سبحانه: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ)[النور: 60].
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم-كثيرا ما يدعو؛ فيقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بروا آباكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم"(رواه الطبراني بإسناد حسن).
معاشر المسلمين: فإن العبد محتاج إلى العفة كحاجته للطعام والشراب، وذلك لأنها تصون خلقه وتحمي عرضه، ويشترك في الحاجة إليها الرجل والمرأة والشاب، وعلى الجميع بذل أسبابها والصبر على لزومها؛ فإن من يستعفف يعفه الله؛ كما قال تعالى: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله"[النور: 33].
وقال الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دَعَتْهُ امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"(متفق عليه).
ليس الظريف بكامل في ظرفه | حتى يكون عن الحرام عفيفا |
فإذا تعفف عن معاصي ربه | فهناك يُدعى في الأنام عفيفا |
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطــبة الثانـية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عبــاد الله: فإن العفة مما يفتخر به الأنام حتى قال بعضهم:
إذا هممنا صدَّنا وازع التقى | فولى على أعقابه الهم خاسئا |
والعفة لها مجالات متعددة منها:
عفة الفرج، وهو أن يصون المسلم فرجه عما كل ما حرم الله الوقوع فيه، قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 33].
عن عبد الرّحمن بن عوف -رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شئت"(رواه أحمد)، وعن أبي برزة -رضي اللّه عنه- عن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: "إنّما أخشى عليكم شهوات الغيّ في بطونكم وفروجكم ومضلّات الهوى"(رواه أحمد).
وتعالوا -أيها المسلمون- لنتأمل في ما حكاه الله في كتابه الكريم عن قصة -يوسف عليه السلام- مع امرأة العزيز التي راودت يوسف -عليه السلام- عن نفسها، وكيف تجلت عفة يوسف وطهره ونقاؤه (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:23-24].
ومن مجالات العفة: عفة اللسان، والمراد بعفة اللسان الإمساك عن كل ما يغضب الله تعالى؛ سواء كان فيما بين العبد وربه، أو كان فيما بين العبد وبين خلق الله، قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده". (صحيح مسند أحمد).
ومن مجالات العفة: الكف عن سؤال الناس والافتقار إلى العزيز الغفار (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[البقرة:273].
قال ابن عجيبة: "(أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)؛ أي: من أجل تعففهم عن السؤال". وقال ابن القيم: "وَصفَهم بتركهم مسألة الناس، فلا يسألونهم".
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس"(متفق عليه).
وعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب ويعمل إن كان قادراً على العمل، وعلى المجتمع أن ينظر في أحوال الفقراء والمساكين وأن يبادر المسلم إلى سد حاجة أخيه المسلم على حسب طاقته وقدرته، وقبل أن يلجئه إلى السؤال، حتى تصبح المسألة وظيفة دائمة، ويكثر أصحاب المسألة بحاجة وبدون حاجة.
عباد الله: ومن مجالات العفة: التعفف عن ما تحت يديك من أموال وأمانات ومسئوليات، وأن تكف يدك عنها، إلا بحقها وأن تراقب الله في حفظها ورعايتها، وقد أمرنا الله -عز وجل- بالعفة عن أموال اليتامى تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)[النساء:6]؛ "أي: من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئا. قال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم".
وعندما فتحت بلاد فارس أرسل سعد بن أبي وقاص الغنائم إلى المدينة -وهي أكوام من الذهب والفضة وغيرها-، فوجد عمر صغيرها وكبيرها فبكى لما رأى من أمانة وعفت جيش المسلمين، وقال: "إن قوما أدوا هذه الأمانة كاملةً غير منقوصة لأمناء".. فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "عففت يا أمير المؤمنين فعفت الرعية".
فتخلقوا -رحمكم الله- بهذا الخلق، وأسألوا الله الهدى والتقى والعفاف والغنى، وربوا على هذا الخلق أبناءكم وأهليكم، وانشروا في مجتمعاتكم تفلحوا في دنياكم وآخرتكم.
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].